د.فيصل ود.مصطفي سويف ود.فاطمة موسى من أصعب الأشياء أن تَكتُب عن شخص قريب منك إلي هذا الحد وقد فارق الحياة، حين طلب مني الأصدقاء في أخبار الأدب المشاركة في هذا الملف أردت أن أعتذر، رغم موافقتي المبدئية، لكني لم أستطع التخلي عن كلمة التزمت بها ونحن نحتفي بإنسان طالما التزم وأخلص لكلمته ومواقفه. في رأيي أن أهم ما ميّز، خالي، الدكتور فيصل يونس، هو هذا الالتزام وربما هو ما ساعده أن يكمل مسيرة حياته بتعدد مسالكها، فقد عاني خالي من مرض فيروس » وهو في الثلاثينات من عمره ولم يكن العلاج والشفاء منه كما هو الآن وأجري عملية زرع الكبد في لندن عام 1992 ورافقته أمي، أخته الوحيدة، في رحلة العلاج التي ربما كانت أصعب التجارب التي مرت عليه في حياته، لأن الأطباء أخبروه أن نسبة النجاح لا تتعدي 20./. واجتازها بفضل الله. تحكي أمي أنه في أعقاب العملية وهولا يزال في سريره بالمستشفي كان هناك بعض المرضي المصريين لا يجيدون الانجليزية وكانوا يلجأون إليه لترجمة ما يقوله الأطباء يوميًا وأحيانًا أكثر من مرة في اليوم ورغم معاناته في فترة ما بعد العملية كان لا يبدي أي ضيق من طلباتهم المتكررة علي العكس، يبتسم مرحبًا بهم في كل مرة. أستطيع القول إنه كان شديد الإخلاص لمشروعه العلمي والثقافي بشكل أوسع، فمنذ طفولته المبكرة وهو يقرأ طوال الوقت تقريبًا، الجرائد والكتب، وكان إذا سار في الشارع ووجد قصاصة جريدة علي الأرض، يتوقف ليقرأ ما بها كاملة ثم يكمل طريقه. وكان يستعير من مكتبة المدرسة كتابًا كل يوم وكذلك تفعل أخته، خالتي التي توفيت عام 1881، وتقرأ هي الأخري كتابها ويتبادلان الكتابين في نفس اليوم ليعيداه في اليوم التالي لمكتبة المدرسة ثم يكرران الأمر، كتابين للقراءة كل يوم! كان خالي محبًا للحياة بكل ما فيها، يجيد الطهي، يجيد السفر، يجيد التأنق والضحك. ربما تبلور هذا التقدير للحياة بعد إجراء العملية الأولي في عام 1992، ونجاته كأن بالفعل كتب له عمر جديد بعد أن كادت لحظة نهاية أن تُكتب. عاد إلي حياته مقدرًا كل لحظة فيها باعتبارها هدية حقيقية من الخالق، عليه أن يستثمرها ليعلن تقديره لهذه الهدية. كانت تتصاغر في عينيه المشكلات اليومية التي يواجهها كل إنسان ويتعامل معها بهدوء أعصاب لافت، فما أهون تلك المشكلات إذا ما قورنت بما واجهه من مرض، كما أنه كان مدركا أن التوتر والانفعال ربما ينهشان بعضا من الأيام- الهدية- التي منحتها له الحياة. رسالته الأسمي كانت البحث العلمي سواء ما يجريه هو من أبحاث أو ما يشرف عليه، وكان طلابه هم عائلته الاختيارية المحببة إلي نفسه، دائم الدفع بهم وتقديم العون الدائم لهم رغم نوبات مرضه التي تكررت في السنوات الأخيرة. كان د. فيصل يؤمن أن دوره الأهم في الحياة هوالعمل الأكاديمي لذلك لم يصبر كثيرًا علي ما تقلده من مناصب حكومية في وزارة الثقافة رغم أدائه المتميز في تلك المناصب، فلم يبق في رئاسة قطاع العلاقات الثقافية الخارجية سوي عام وهوالحال نفسه مع المركز القومي للترجمة وفي الحالتين هو من اعتذر عن عدم الاستمرار. عاني في عامه الأخير من فشل جديد في وظائف الكبد الذي تمت زراعته من قبل وكانت نسب نجاح عملية زراعة جديدة تكاد تكون منعدمة. توفي في يوم 10 اغسطس 2014 داخل المستشفي الذي دخله قبل 10 أيام من وفاته، وكنت ليلتها أزوره بالصدفة أنا وأبنائي للاطمئنان عليه، كنا حوله جميعًا حين جاءت لحظة الرحيل وللمرة الأولي في حياتي أشاهد لحظة انتقال انسان من هنا إلي هناك. كنا نسرع كل منَا في اتجاه لاستدعاء الدكاترة بينما اقتربت منه أمي في ثبات كأنها وحدها بالغرفة معه، انحنت عليه وأمسكت بيده، قبلتها ووضعتها علي صدره واقتربت من أذنه وهمست بما تعرفه هي، ثم غادرت الغرفة باكية مع وصول الدكاترة. فكما رأت وحدها نجاته في لندن عام 1992 أدركت هذه المرة وهي تنظر إليه أنها النهاية. كنت أتأمل وجهه وجسده أثناء محاولات الإنقاذ الفاشلة وكأنني كنت أستوعب اللحظة كي أصدق رحيله، فقد سمعت أن عدم حضور لحظة الموت لشخص قريب منّا يجعل تصديقها أصعب بكثير، لكن ذلك لم ينقذني من الألم ومن وجع رحيله الذي لازمني طويلًا. رحل خالي بعد أن أنهيت العمل، تقريبًا، علي رسالة الماجستير الخاصة بي، ولم يتبق لإتمامها سوي إضافة ملاحظات المشرف النهائية قبل المناقشة التي تحدد موعدها بعد وفاته بشهر واحد. فوجدت نفسي مضطرة لاستئناف العمل بعد رحيله بأسبوع واحد. كنت كل يوم أجلس وحدي علي مكتبي أبكي طويلًا وأنا أتذكره ولا استطيع الكتابة إلا حين أستحضر عناده وتصميمه في مواجهة الألم أوالصعوبات الكبيرة التي عاناها. أخبر نفسي أنه يراني وسيسعد إذا اشتغلت وأنجزت مهمتي. وفي ذكري رحيله يهوّن علينا ما تركه من إرث علميّ وعطاء إنساني لكل من تعامل معه وعرفه عن قرب، فلا نقول كان فقط بل كان ولا يزال.