في روايته الأحدث »حمام الدار..أحجية ابن الأزرق» قرر الروائي سعود السنعوسي أن يلعب لعبة حل الألغاز مع القارئ من خلال نص مفكك وشديد التعقيد لرواية لم تتم، يكتبها عرزال/ منوال لصباحات خمسة وعهدين قديم وجديد. أثناء القراءة ترد علي ذهن القارئ عدة أسئلة، من يكتب من؟ الكاتب »منوال» الذي يكتب عن »عرزال»، أم بطل الرواية »عرزال» الثائر ضد كاتبه »منوال»، والذي قرر أن لا يتعاون معه فخط هو قصة الكاتب؟ تبدأ الرواية بكاتب يحاول أن يكتب رواية جديدة، لكن الكتابة عصية عليه، تدخل عليه زوجته تحاول ان تخفف عنه معاناته، فهي ليست المرة الأولي التي يكتب فيها نصا غير مكتمل، فالدرج الأخير من مكتبة ممتلئ بالروايات التي لم تتم ولوحات لم تنجز. لكن ذات ليلة تلح عليه شخصية فيبدأ في الكتابة »وجدتني منصرفا إلي شخصية جاءت من حيث لا أدري، أجبرتني علي شيء منها علي سبيل العودة إليها لاحقا. شخصية لا أفهمها أخذتني صوبها وأبعدتني عن كل شيء.» »كل الألوان أزرق» استخدم الكاتب في نصه الألوان كعنصر أساسي للتعبير عن الحالة النفسية للشخصيات وربما للتعبير عن علاقة الإنسان باللون الأزرق، فكلنا سنعبر ذات يوم برزخ سماوي. ولكن ابن الأزرق يكره هذا اللون، يكره والده بقسوته وظلمه وتسببه في حرمانه من أخوته وأمه التي ماتت قهرا وحزنا. يكره السماء التي كان يطوحه أبوه فيها وحين يعبر عن خوفه ينعته بالجبان، يكره السماء التي عرجت لها أمه ثم طفليه. والبحر بزرقته اللا نهائية وقسوته،صغيرا ذاق مرارة الغرق في مائه، كان البحر سبيل ابتعاد إخوته عنه ثم موت طفليه غرقا فيه. أما الرمادي فهو »لون من لا لون له» لذلك يرتدي البطل ملابس رمادية. »ابتلعتهما الزرقة. لم يعد يراهما. أخذ يلوح بيديه. يصيح بهما رحال.. زينة! ثم أطبق أسنانه علي طرف ثوبه وراح يركض كالمجنون.» يسكن عرزال/ منوال في شقة مطلة علي البحر الذي يكرهه منذ ثلاثين عاما، يعيش وحيدا تماما. يعيش »عرزال» عذاب نسيان ما مضي من أحداث في عمره سوي بعض الذكريات »اللقيطة» مثل علاقته بوالده الذي ينعته بالجبان! علاقته بالحمام الذي يربيه والده خاصة »فيروز وفرخها رحال وزينة» وعلاقته بالمعزة »قُطنة»، التي كان يتحدث معها وتتحدث إليه، أو هكذا يظن، والتي سيجبر علي قتلها برصاصة بندقية صيد، يكتم صوت بكائه ليخرج من فم والده كلمة »رجل» بدلا من كلمة »جبان». بعد عدة صفحات يلجأ الكاتب »منوال» لتحويل »»قُطنة» من معزة إلي أنثي، سيقتلها »عرزال» في العهد الجديد من أجل إرضاء والده »مغتصبها» بجرح مشاعرها حين يقول لها »يالعبدة». سيفعل ذلك لنفس السبب، ليسمع كلمة »رجل». »الأسماء عتبات الخلود» الأسماء كانت أحد العناصر الهامة التي بني عليها الكاتب سعود السنعوسي قصته »فيروز» التي لعبت دور »الحمامة» في العهد القديم، صارت »الأم» المعذبة في العهد الجديد. »قُطنة» المعزة هي ذاتها »قٌطنة» الإنسانة، »رحال وزينة» حمامات صغار في العهد القديم، وهم أبناء الكاتب »منوال» في العهد الجديد وبقي »الأزرق» الأب القاسي كما هو في العهدين. »الغناء زاد الروح في الأيام الحزينة» كان عرزال يتساءل دائما لماذا ينوح الحمام، لماذا يصير هديله أعذب وأجمل وهو حزين، فمنذ غياب »رحال، زينة وزوجها» صار هديل »فيروز» الحمامة أجمل. حين سأل »عرزال» نفسه عن السبب »هي حزينة بسبب هجر إخوتك عرزال» قلت المعزة »قطنة»، فأنكر »عرزال» عليها قولها »أنا لست حمامة كي تصير الحمائم المسافرة إخوتي». لكن الحقيقة تنكشف في »العهد الجديد» الذي كتبه »عرزال» أن الثلاثي »زينة، رحال، وفيروز» بشر، فعرزال فهم معني الموت حينما ماتت »فيروز» في إشارة لوالدة كاتبه »منوال» وما قالته له »قٌطنة» الإنسانة/المعزة لم يكن سوي الحقيقة التي عذبت »منوال» طوال حياته. »تقدم بضع خطوات إلي أسفل السلم ينحني علي بصيرة. خلف انحنائه واقعا مربكا في نفسي انحني له كل ما في. مرر كفه أمام وجه العجوز. تهلل وجه بصيرة وغشي وجهها الباسم دمعا غزيرا. هذا انت ؟! تأخرت كثيرا! قالت بصوتها الضعيف. وهنت حتي مت.» أما شخصية بصيرة، الجدة العاجزة، فهي شخصية شديدة الرمزية. هي صماء بكماء عمياء تبقي نظرها ثابتا نحو السقف ذو الشرخ. فالسقف هو المؤلف »أنا السقف قطنة، أنا مؤلف أكتب قصة مؤلف» وبصيرة تمثل الشخصية المنسية التي تعثر المؤلف في كتابتها فبقيت في حالة انتظار دائم. »هنا قصة مؤلف فشل في الانتحار، هرب من ماضيه بكتابة رواية ظل لحياته البائسة.» إذن نحن أمام نص مركب فعرزال هو منوال, مؤلف كان يحاول أن يتخلص من عذاباته بالكتابة. أثرت الرواية الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون/ منشورات الضفاف، لوحات الفنانة التشكيلية مشاعل الفيصل، التي أظهرت الحالة النفسية لشخصيات الرواية فالبطل يظهر دائما بأربعة أعين, يرتدي بذلة رمادية »لون من لا لون له». يمكننا مثلا أن نتوقف عند اللوحة الثانية »صباح ثان» ص35 حيث وقف البطل واضعا يديه في جيوبه، علي يمينه حوض ماء بداخله طفل وطفلة، خلفة حمامة تقف علي حافة الشباك، والجدار متشقق. هذه اللوحة لخصت مأساة البطل وأشارت للحادثة الأهم في حياته وهي »غرق التوأم» والشرخ الذي أحدثته داخل روحه. اعتمد سعود السنعوسي علي تقنية »الأصوات» في نصه السردي لكي يستطيع أن يعبر عن وجهة نظر كل شخصية في الحدث، خاصة أن هناك بعض الأحداث تم حكيها بطريقة مختلفة بحسب وجهة نظر »عرزال» بطل في العهد القديم ، أو »منوال» بطل العهد الجديد، أو حتي »قطنة» المعزة في العهد القديم والإنسانة في العهد الجديد. لدي الكاتب قدرة لا يستهان بها علي كتابة التفاصيل دون أن يدفع القارئ للملل بل إنه اعتمد علي كتابة نصه المعقد في أقل من 200 صفحة.