رواية "ممرات الفتنة" للكاتب المصري مصطفي البلكي الصادرة عن سلسلة إبداعات قصصية بالهيئة العامة للكتاب 2017 تمثل في تقديرنا مغامرة سردية متجاوزة ولهذا تبدو نصا روائيا مهما ويتميز عن كثير من الأصوات الروائية الحاضرة في المشهد الأدبي الآن. تتمتع الرواية بعدد من الأبعاد والمقومات الجمالية التي تشكل هذه الخصوصية. ابتداءً من العالم الذي تقاربه ونماذجه الإنسانية المطروحة عبر السرد، فهي تقارب مدة أربعين عاما تقريبا منذ بداية العمل علي إنشاء السد العالي وحتي نهاية التسعينيات تقريبا. عبر أسرة وحيدة داخل الصعيد، عالم أخوين غير شقيقين ابني رجل واحد غريب هو سيد الحناوي التاجر المتجول الذي يحط علي البلدة وتلَّتها كالقدر ويطلب الزواج من سندس ابنة (الطايع) في هذه البلدة وهو الرجل الذي يعمل في مهنة إبعاد الأطفال والحيوانات والطيور عن مياه الفيضان، مهنة بسيطة ربما غير حاضرة بصورة واضحة داخل الخطاب الأدبي أو لم يتطرق إليها كثير من الخطابات الأدبية والدرامية فيما أعرف، لينشأ عن زواج هذا الغريب المأزوم بعد ذلك بعدة أزمات منها الحرب والفقد والفقر وصراعه الممتد مع الطبيعة والجغرافيا وأم زوجته التي لا تراه غير غريب سلب قلب ابنتها، أقول ينشأ عن استقرار هذا الغريب وزواجه ولدان من زوجتين مختلفتين الولدان هما غصوب وصابر. ومن هذين الولدين تمتد الحياة في خطين متوازيين وفي حال من الغرابة بينهما من الشد والجذب ونقاط الالتقاء والافتراق في قصة غريبة وطريفة وتنطوي علي مغامرة النموذج الإنساني الممتد من الأب إلي الابن وشغفه الدائم بالحياة وبجمالها وبالمرأة علي نحو خاص لتكون رقية المرأة الجميلة نموذجا إنسانيا يفيض بالجمال والأنوثة ويربط بشيء من الطرافة والغرابة السحرية بين هذين الأخوين اللذين يجبرهما القدر بتصاريفه علي أن تكون رابطا بينهما. الحكاية التي يطرحها خطاب رواية (ممرات الفتنة) في ذاتها حكاية تنطوي علي قدر من الطرافة النابعة من طرافة المصير وقلة حظ غصوب وأبيه ومأساتهما الجسدية التي تبدو موروثة فيما يمثل حالا من العجز والاستلاب الجسداني والمصيري؛ وأمام هذا العجز في القدرة الجسدية تبدو هذه الشخصيات علي قدر عال من القدرة علي مراوغة الحياة وتصاريفها للتماشي معها وفق إرادة هذه الشخصيات أو تخطيطها الذي هو يناقض الاستسلام الجسداني، فغصوب العاجز هو نفسه الذي يخطط لربط حبيبته وزوجته/رقية بأخيه ليوجد لها بديلا عن الحبيب الذي كانه هو في يوم من الأيام حين أحبها واستحوذ علي قلبها ووطَّنها في بيته الغريب. وللقصة منعرجات أخري كثيرة وتنطوي علي أحداث وتفاصيل عديدة جديرة بالمتابعة. لكن تبقي بارزة بقوة الكيفية التي يتم سرد هذه الحكاية بها وتقديمها في خطاب سردي كما قلت له قدر كبير من الخصوصية وحقق في تقديرنا أبعادا جمالية عدة. من ناحية النموذج الإنساني أو بناء الشخصية أقول إن القارئ يجد نفسه أمام نموذج إنساني متكامل ونابض وتتجلي فيه علامات النموذج الإنساني الحضاري أو الراقي، فالأبعاد الفكرية والوجدانية للشخوص تبدو ضاغطة ولا تقل علي الأبعاد الجسدية أو الخارجية، وبخاصة في شخصيات النساء التي ينسجها مصطفي البلكي تحت هيمنة حال من الإعجاب والمحبة الضاغطتين علي مخيلته، وبخاصة في شخصية رقية التي يبدو جمالها متجذرا ومتوارثا أو طاقة ممتدة وعابرة للأجيال فهي ورثت عن جدتها جمال جسدها واتساع قلبها واتساع طاقتها علي العمل والتنظيف وأداء مهام الأنثي الصابرة المحبة للحياة والمصرة علي الاندماج بها بأقصي درجات الإصرار، فهي نموذج المرأة الأصل/الأم أو الممثلة للطبيعة بطاقتها وقوتها وإصرارها علي الإنبات والإخصاب مهما كانت المعوقات. من جماليات هذه الرواية وهي عديدة في رأينا، أنها تتجاوز الترتيب الطبيعي للزمن والترتيب السببي للأحداث،لتتخذ نسقا من الاستدعاء الحر أو النابع من توالد الحكايات شعوريا أو ارتباطها داخليا لتتجاور داخل فضاء الرواية بناء علي صلة نفسية بينها برغم تباعدها في الزمن أو غياب صلة السببية بين هذه الأحداث المتجاورة داخل الفضاء، لنكون أمام قدر كبير من التصرف في نقل الحكاية داخل خطاب الرواية، فالحكاية - بحسب تفرقة جيرار جينيت بينها وبين الخطاب - هي القصة كما تحدث في الحقيقة أو الواقع، بينما حينما تصبح خطابا روائيا أو يتم الاعتماد عليها لصنع خطاب روائي فإنها هنا تأخذ تشكيلا متجاوزا لترتيبها كما هي في الواقع، ليكون الخطاب هو الكيفية التي يتم وفقها سرد الحكاية وتحويلها لنص سردي. ولا يتم في هذه الرواية تتبع الحكاية كما هي في الحقيقة بل تتكون بشكل فسيفسائي أو مثل قطع الموزاييك في نسق دائري للزمن بأن يبدأ بالمشهد الأخير ليكون هو الأول داخل خطاب الرواية أو المشهد الأول وفق عرضها، وينتقل منه عبر سؤال رابط أو حال شعورية ونفسية معينة إلي مشهد من منتصف الحكاية ومنه إلي ثالث ربما يرتبط بالبداية أو بمقدم هذا الغريب/سيد الحناوي ومهنته أو بمهنة الجد وموقف الجدة نفسيا من الأب ومن الحفيد الذي يتنازعه ويتجاذبه بين الحب والكراهية الجد والجدة، فالجد يتفهم أكثر من الجدة أن هذا الطفل لا دخل له في القدر، بينما تجد فيه الجدة سببا مباشرا هو وأباه في موت ابنتها سندس التي تتجلي صدمة موتها تصويريا بشيء من البراعة في الرواية حين يصل الإنسان إلي أقصي درجات العجز والتخبط. بعيدا عن سمات الزمن في خطاب هذه الرواية ودائريته اللافتة يمكن تملس الحضور الخاص أو التصرف الفني في مكون آخر وهو حضور الموت وثقله وانعكاسه علي الشخوص، فالرواية ترصد حالة خاصة من العجز الإنساني أو الشلل الشعوري أمام الموت حيث يصبح الإنسان عاجزا كليا حتي عن الحزن في لحظات نادرة من التخبط وافتقاد العقل وتعطل الحواس والشعور أمام صدمة موت الأحباب وفراقهم. هي مشاهد غزلها مصطفي البلكي بدأب كبير ومستعينا بلغة خاصة كثيفة تمر عبر مشاعر السارد وإحساسه بالآخر وبالمكان وأشيائه وبكافة التفاصيل. ليقارب في النهاية حالا من العجز حتي عن الحزن أمام ثقل الموت الذي يتكرر حضوره الثقيل علي هذا النحو مع موت سندس وموت الأب سيد الحناوي وموت الجد أبو سكينة، ليكون المتلقي أمام مشاهد تفرض نفسها عليه وتبكيه أو تجعله يتخذ موقف انحياز لأحد أطراف الرواية أو شخصية من شخصياتها ويتفهم معها هذه الحال من ألم الفقد بما قد يصل إلي التوحد مع الشخصية داخل الخطاب. من الشخصيات اللافتة في الرواية (ثورة) عشيقة صابر وهي نموذج يقارب المرأة حين يختلط فيها العهر بالحكمة علي نحو طريف وغريب؛ لأنه نموذج يحوي قدراً من التناقض ويجعلها شخصية مركبة والجميل دائما هو أن تكون مثل هذه النماذج من الشخوص مقنعة أو يصدقها القارئ، فقد يطمح أحد الكتاب إلي إنتاج مثل هذا النموذج الإنساني المعقد ولكنه لا يقدر علي جعله علي القدر الكافي من العفوية بحيث يكون هذا النموذج برغم غرابته مقنعا أو متكاملا ويشعر المتلقي بتكلفه. وفي تصوري أن شخصية ثورة ربما ليس غريبا ومباشرا فيها غير الاسم، لأنه دال علي طبيعة الشخصية من حيث تمردها وخروجها عن الأطر المألوفة لتكون في مرة علي خطأ وفي مرات علي صواب، والخطأ والصواب هنا وفق ما تشعر به هي وليس حكما أخلاقيا من الخارج، فهي في النهاية شخصية جامحة حكيمة لها رؤيتها وتصورها للحياة وللحبيب وتنقل حكمتها وخبراتها لصابر حبيبها ورجلها المفضل بين كثير من الرجال الذين عرفتهم، لتبدو هذه الحكمة دماء جديدة تسري في عروق أسرة الحناوي وتنتقل من صابر لغصوب ثم تطبيقيا إلي رقية، النموذج الموازي لهذه المرأة الحكيمة ولكن في بيئة أخري؛ بيئة الريف المقابلة لبيئة ثورة التي تعيش في المدينة، لتكون رقية مرتبطة بخيط شفيف مع ثورة برغم تباعدهما المكاني والثقافي، ولتكون رقية نموذجا مباشرا للفطرة وقوة الطبيعة دون مبررات أو كثير علم وفلسفة علي نحو ما نجد لدي (ثورة). وبشكل عام فإن الرواية تقدم نماذج إنسانية معقدة ولا تجنح بأدني قدر من التكاسل لتقديم شخصيات مسطحة أو ليست ذات حضور ثقيل، بل تناقض ذلك تماما بما يكشف عن قدر صلة مصطفي البلكي بشخصياته وقدر ما يمكن أن يستشفه القارئ من إحساس المؤلف بالمسئولية والارتباط النفسي الوثيق بينه وبين شخصياته التي يعد نفسه وكيلا عنها في إخراجها للنور وكشفها من مدافنها في مجاهل الهامش وهذه المناطق النائية التي يقتنص منها قصصه وحكاياته، لتخرج علي القارئ في النهاية لامعة كالذهب ونابضة كما لو أنها مازالت حية وستحيا طويلا. الجسدانية كذلك من القيم البارزة في هذه الرواية، ويكرس لها السارد عبر لغة شاعرة تتلمس طريقها إلي المدرك بالحواس بالوصف الشاعر أو الرابط بين الأشياء والمسافات والأماكن والآخر وبين الجسد. الجسد يبدو حاسما إلي درجة كبيرة في هذه الرواية من الناحية الدرامية، حيث يوجه الشخصيات ويقودها ويصبح سببا مباشرا في تنامي الأحداث وتدافعها. لكن الضافي جماليا في هذا المكون الجسداني أنه يوجه لغة السرد نحو شعرية متدفقة لأن اللغة الواصفة أو المعبرة عن مشاكل الجسد وأزماته ليست لغة الكاميرا الصامتة أو المحايدة بل هي لغة داخلية محتشدة بتعليقات شعورية موزعة توزيعا مناسبا بحيث لا يؤثر بالسلب علي إيقاع السرد ويجعله بطيئا أو يوقفه تماما، بل يتداخل مع الوصف والحركة في نوع من التبادل المتوازن لا يطغي فيه أحدها علي الآخر. لدينا أزمات جسدانية كثيرة في هذه الرواية، مثل أزمة سيد الحناوي الذي يفقد ذراعه في الحرب وغصوب كذلك بأزمته الكبري بعد الحادثة حتي يعود عبرها طفلا ممدواً أمام من كانت زوجته لتغير له الكافولة، حتي إن الجسد في حالات تميزه وطغيان جماله يصبح أزمة في ذاته علي نحو ما نري لدي رقية التي تحاور جسدها أمام المرآة، وكيف يكون إحساس الشخصية بالذوات والشخصيات الأخري عبر حضورها جسديا أو إحساسها بجسدها وحضورها المادي ويمثل هذه الجانب من طغيان للحضور أو توجيه نحو فهم خاص لهذا الآخر والإحساس به ومن ثم إتيان أفعال بعينها بدافع من هذا الجسدانية والمسافات بين الأجساد والحضور المادي للأشياء وعلاقتها بالإطارين الزماني والمكاني. وعلي النحو ذاته من التوفيق يخترع مصطفي البلكي معادلا موضوعيا يبدو لصيقا بالشخصية أو نموذجا غريبا موازيا لها، علي أننا نجده لدي الشخصيات الثلاث الرئيسة؛ غصوب وصابر وثورة، فغصوب معادله الموضوعي الذي يكشف بنيته الداخلية ويكرس لفهم نموذجه الإنساني تلك التماثيل الطينية التي كان يصنعها ليقضي علي وحدته ومنع جدته له من التواصل مع أطفال القرية ويحتفظ بها مدفونة علي نحو غريب في سطح البيت، ومثل هذا المعادل الموضوعي لدي غصوب نجد شخصية المهرج لدي صابر بما يجعلها ظلا للشخصية أو كأنها شخصية واحدة لها حضوران، حضور حقيقي وحضور نفسي أو شعوري تحسه الشخصية ذاته، فالمهرج يبدو مرتبطا به أو ساكنا له برغم مرور السنين وبرغم تطوره وتعليمه وخروجه من القرية، وعلي النحو ذاته نجد فكرة الوهم الذي عشقته (ثورة) وكانت تكتب له الخطابات حتي يتحول إلي نموذج حقيقي يتأكد مع الموت ويصبح مصدر للحب والخوف معا. فيما يخص شكل الراوي أو التقنية المتبعة في الرواية فيه، فإنها تعد حقلا تجريبيا بشكل واضح، لأن الرواية تطبق شكلا أقرب إلي رواية الأصوات، إذ لكل شخصية حكايتها أو الجزء الذي يحتله صوتها وتنقله بشكل عليم وبإحاطة تامة بالتفاصيل، غير أن هذه التجربة ليست كذلك واضحة أو تقليدية في رواية الأصوات، لأن صوت المؤلف يهيمن علي هذه الأصوات ويذيبها جميعا في لغة خطابه السردي ويتنقل بينها دون فواصل واضحة أو تؤكد علي تطبيق رواية الأصوات، بل تدمج هذه الأصوات في بعضها كما لو كانت هناك الفرضية الأكيدة لمعرفة المؤلف بكافة الأطراف ونقله لهذه الحكايات عبر أصواتها وفق موقع خاص له غير حاضر أو مشارك بشكل علني، أو قد تكون قد تحققت له اللحظة التالية غير المذكورة في الرواية التي استطاع فيها الإحاطة بالحكاية وبكافة التفاصيل علي هذا النحو فتجاوز مسألة الشكل وحاول ألا يكون ساردا لها عبر الراوي العليم فيكون بعيدا عن هذه الأطراف وينظر لها من الخارج أو يجعل نفسه راويا مشاركا تقليديا فيكون مسئولا عما يمكن أن يقع في دائرة رؤيته وما يخرج عنها وبالتالي تحدث فجوة التصديق والثقة، ولهذا حاول أن تكون زاوية رؤية أو مشهد وموقف وحدث منقولا عبر صاحبها أو صاحب الصوت الرئيس الحاضر والشاهد عليها ثم أخذها المؤلف وأذابها كلها في خطابه السردي محافظا علي أن تكون منقولة من وجهة نظر الشخصية دون تقيد براوٍ واحد، وساعده في ذلك العناوين الفرعية التي يحمل كل منها قيمة دلالية تقود إلي هذا الصوت وتدمج جزيرته في بحيرة النص الكلية، إن جاز هذا التشبيه. والرواية بها عديد الجوانب التي يمكن أن تلفت انتباه القارئ وتحفزه علي التأمل والتأويل.