مع أشرف البولاقي وعدد من أدباء الوادى الجديد يرتبط كل شخص في حياتي بصورة ذهنية، بمشهد معين، يمكن رسمه في لوحة، أو حفره في صخرة، لكن المشهد لا يظل جامدا إلي الأبد، بل حيا ومتحركا دون أن يفقد هويته، وكأن حياة ذلك الشخص تذهب يمينا ويسارا لا لتتجاوز ذلك المشهد أوتفلت منه، بل لتجسده بشكل أوضح من خلال تفاصيل أكثر وأكثر. غجري قوي البنية موثق بحبال يحاول التخلص منها، لا يستطيع ولا يستسلم. تلك صورة عبد الناصر علام، لم تغب أبدا، حتي عندما التقيته في المرة الأخيرة، بعد أن داهمه المرض، كان الغجري قوي البنية، يلعب مع حباله لعبته الخالدة. في بداية التسعينيات لعب عبد الناصر علام دور الغجري في مسرحية بنفس العنوان من تأليف بهيج إسماعيل وإخراج يس الضوي، وعُرضت علي مسرح مدرسة الزراعة بنجع حمادي. تحدثت يومها عن العرض، تحدثت عن الغجري عبد الناصر علام بارتياح لم يحدث بعدها أبدا. يومها ولدت صورة الغجري، ولدت أمام الناس وظلت حية في نفسي فقط. الغجري صفة منبوذة في مناخنا القبلي، إنها شتيمة، وشخصية الغجري في المسرحية شريرة أيضا. كما أنه، منضبط جدا، وواقعي، ومتزن، كيف أفرد ذراعي حين استقبل صديقي وأقول: أهلا بالغجري؟ شارك علام في مسرحية أخري بعنوان »صراخ السواقي»، لا باعتباره ممثلا بل باعتباره كاتب أغنيات، وجاءت تلك المشاركة إنقاذا لي، فقد التحمت السواقي بالغجري لتضبط صورته، وتضيف إلي تركيبته العطرية، ملامح أخري مثل الأصالة والرسوخ في المكان. لم يكن البعد الغجري في عبد الناصر أكثر من رمز لقوته الفطرية الكبيرة، جسدا وروحا، وقد تلحق بالرمز دلالات أخري، مثل غربته، وعدم تورطه في خصومات ثقافية قبلية، أوانخفاض مكانته في الواقع قياسا بما يستحقه، وقد جاءت الساقية مثل مقص يشذب الغجري من إيحاءات تخص الكلمة ولا تخصه هو. كيف يكون المرء غجريا وساقية في نفس الوقت؟ هذا هو عبد الناصر، وتلك صورته وهي تنبت وتنموحتي تصبح شجرة وتستقر إلي الأبد. تتعدد زوايا النظر إلي الشخصية، أو الهويات الفرعية، فهناك شاعر العامية، وهناك كاتب الأغنيات والأعمال الفنية الأخري، وهناك الشخص العادي، وغيرها، وفي كل هذه الحالات، كان الغجري موثقا بحبال يحاول التخلص منها، لا يستطيع ولا يستسلم. لعبد الناصر مثل كثير من الجنوبيين ظاهر جسدي مختلف تماما عن الباطن. وجه متجهم يغطي منجما من الظرف وخفة الدم، كان وجهه وبنيته القوية يتركان دلالات لا يريدها، كانا ينسجان حبالا وكان يحاول تمزيقها بلا جدوي. لتعرف عبد الناصر لا بد أن تقترب كثيرا منه، وهو أمر صعب لا يتوافر إلا لأشخاص قليلين، وكانت هناك مسافات لا ضرورة لها تبعد الآخرين عنه، مسافات وهمية تجلب سوء الفهم، كيف يمكن تمزيق مثل تلك المسافات؟ بعدما اشتد عوده الشعري بين الناس، واتسع نطاق عطائه مع التمثيل المسرحي وكتابة الأغاني، رسم الجميع صورته بوصفه نسخة أخري من الأبنودي، لا بمعني نسْخ تجربته الشعرية، بل نسخ مسيرته، وتحقيق شهرته، وكانت هناك خطوة لابد منها في تقديره وهي الذهاب إلي القاهرة، وكان البقاء في مدينته حبلا من تلك الحبال التي حاول التخلص منها ولم يستطع. ظل بالنسبة للصورة التي صدقها الجميع وصدقها هو غجريا منبوذا وساقية معطلة. كان عبد الناصر علام يقف في منطقة شعرية، تحتفي بتدفقه العاطفي القوي، وانحيازه للأنين والصرخات، كان قلبه مركز تركيزه، والتلقي الشفاهي محور التشكيلات الجمالية التي يتبناها، حيث يقوم الجسد العفي عبر الصوت والإيماءات بالعمل مع الكلمات في القبض علي وجدان المتلقي وتحقيق التواصل المباشر والسريع مع عوالمه، كان غجريا يحمل ألما كبيرا، وكان ساقية نصفها في الهواء ونصفها تحت الأرض. نصوص عبد الناصر هي الأخري صارت حبلا، فقد تعقدت الحركة الشعرية، وانفتحت أسئلة كثيرة جدا أمام الشاعر، ولم تعد قصيدة العامية تعبر عن جنس أدني من الفصحي، بل صارت تعبر عن الشعر بندية كاملة، ولم يعد التلقي الشفاهي هو الوسيلة الوحيدة، أو الأساسية، وكان عبد الناصر علام واعيا بكل تلك المتغيرات، ومهتما بعدم تكرار نفسه، خاصة في ظل معاناة شخصية واجتماعية وسياسية ثابتة، وكان مستعدا للقفز في مغامرات شعرية جديدة علي مستوي الأسلوب وطريقة النظر للشعر ودوره في هذا العصر، وقد رأيناه، وهو يحاول التمرد علي كتاباته السابقة، كما هوالحال في ديوانه »عيال أخري» وهويعيد توظيف الألعاب الشعبية من أجل تقديم تجربة مختلفة، لكن شيئا في جسده كان يشده لتجربته الأساسية، لتدفقه العاطفي، لقوته الفطرية الكبيرة، وانحيازه للأنين والصرخات والجماليات التي تقبض علي وجدان المتلقي، ظل حتي النهاية غجريا وساقية في نفس الوقت.