يقول نابليون بونابارت »التاريخ خرافات يصدقها الناس«، وهذا ما أراد أن يناقشه الكاتب أحمد مدحت في روايته الثانية «خريف، دماء وعشق». تدور الرواية ذات الإطار التاريخي حول الملك «نارمر» أو «مينا» موحد القطرين ومؤسس الأسرات وعلاقته بابن عمه ووزيره «مري آخت» الذي يقوم بدور السارد في النص السردي. تطرح الرواية عدة أسئلة شائكة منها علاقة الحاكم بالشعب؟، كيف يري الثوار أنفسهم وكيف يراهم الحاكم؟، هل الانتصار الحاسم يجب أن يكون بالقوة وبعد أن تهدأ الجماهير الثائرة يبدأ عصر البناء؟ وكيف أن بداخل كل إنسان يقع الخير والشر؟ وهل يمكن أن يكون للحقيقة وجه واحد؟ كل هذه الأسئلة تدور في رأس «مري آخت» الذي سلم قلبه للجمال، الحكمة، والسلام وهو عكس الدور المنوط به أو المنتظر منه من قبل الأسرة الحاكمة، حيث ينبغي أن يكون قائدا للجيش، يحمي العرش ويحصد أرواح الأعداء. الجمال كان لعنة «مري آخت» وأساس عذاباته وحيرته. الرواية مكتوبة بتقنية الفلاش باك، حيث يبدأ الراوي/البطل الذي تجاوز الستين في استرجاع قصة حياته بعدما صارت مصر علي ما هي عليه من حضارة وسلام ورخاء بعد عقود طويلة من الحروب. فهو في رحلة بحث دائمة عن الحقيقة ولكن كل معلومة تصل إليه كانت تزيد حيرته«في أول درس عملي فشلت، ثم تعلمت من ماي أن أقول الحقيقة كاملة بلا نظر إلي الظرف ولا إلي الأشخاص. وتعلمت من عمتي أن بعض الحقيقة خيانة، وأن الولاء للملك ولولي العهد فوق الحقيقة!!! ياللحيرة» ولكنه حين تقدم العمربالبطل وصل إلي أصل الحكمة « فمازلت أؤمن بأن الحقيقة لا تتجلي كاملة، وبأن ما نعرفه يظل منقوصًا أبدًا». وأدرك أن «الخير والشر لا يتعاقبان علي القلب كما يتعاقب الليل والنهار.. بل هما حاضران معاً في ذات اللحظة، كأن تفتح عينيك أو تغمضهما». دمج الدين بالسياسة لإرضاخ الشعوب هو أحد المحاور الرئيسية في هذه الرواية، إذ إن الملك نارمر حين أراد ان يحجم انتشار الثورة دعا إلي دين جديد يجعل من نارمر ابناً للإله. «وظهرت النصوص التي عكفت عليها نفتيس وسنجم عاما كاملا. برع سنجم بمهاراته في الطنانة وبرعت نفتيس بمهاراتها في التخطيط، فكانت النصوص قطعا باهرة من الفن والأفكار الخاطفة كنصوص أوزوريس وأساطيره. وملأ المكر النصوص بالطلاسم والأسرار، التي تستعصي علي العامة وتأسر قلوبهم»انتشرت أفكارالدين الجديد بين العامة «الجاهلة» و«اليائسة» وهو ما دفع «مري آخت» المؤمن لمقاطعة أهل القصر والإنزواء بعيدا داخل المعبد ليقوم بالدور الأحب إليه و هو دور المعلم. أثناء القراءة ربما يبغض القارئ الأسرة الحاكمة «نفتيس، سنجم ونارمر» بسبب بحور الدماء والدمار ولكن السارد الحائر كشف لنا أن قسوة الحاكم لم تكن لرغبة في إظهار القوة والبطش بقدر ما هي الرغبة في الإرضاخ من أجل التنمية والرخاء. « ألوم نارمر علي قمعه وأقمع مثله، وأتعجب من خضوع الشعب وأخضع مثله، ثم أهتف من قلب معذب بالتناقض المؤلم: هذا هو الحب..تبا لهذا الحب!!» المرأة في رواية الكاتب أحمد مدحت محور مؤثر ومحرك رئيسي للأحداث، بدأ من «كالا» حبيبة نارمر التي قُتلت غدرا « أول السيل المدمر نقطة مطر رقيقة تسقط علي جبهتك، وأول الفيضان العارم ارتفاع طفيف علي شاطئ النهر، وأول حضارتنا قطرة من دم» كالا لم تلبث أن سرت كالموجة الحمراء القانية هادرة بعنف فأغرقت الوادي حتي البحر الشمالي. ولدينا «نفتيس» عمة الملك نارمر وهي أول سيدة تكون في منصب «وزير» وهي شخصية قوية ذات وعي سياسي وقدرة كبيرة علي الحكم، « ميرت نيت» والدة نارمر كانت أيضا ذات حضور قوي في مسألة الحكم، «خنت حور» تلميذة «مري آخت» ثم طبيبته و«نفرت» معشوقة «مري آخت». رغم وجود مشاهد عنيفة ودموية عن الحروب وتنفيذ أحكام الإعدام في محدثي الشغب إلا أن الرواية مكتوبة بلغة رصينة ذات طابع شعري،حيث توغلت بعض النصوص الشعرية داخل النص السردي.وهو الطابع الذي جعل الرواية علي طولها مثيرة وشيقة. أحداث الرواية خيالية رغم أنها تدور في إطار تاريخي وهي المعلومة التي أراد الكاتب أن يوصلها للقاريء بكل شفافية من خلال المقدمة. ربما لذلك سيشعر القارئ أن ثمة تماس بين بعض الأحداث التي دارت علي لسان الراوي «مري آخت» وبين الأحداث التي مرت بمصر في العصر الحديث. «خريف، دماء وعشق» هي الرواية الثانيه للكاتب أحمد مدحت بعد رواية «ثلاثة فساتين لسهرة واحدة» صدرت طبعتها الأولي عام 2017 عن دار دوّن.