لا يزال حضور طه حسين في الثقافة العربية طاغيًا وبازغًا علي الرغم من مرور 44 عامًا علي رحيله، فمازالت آثاره الأدبية علي تَنوّعها ما بين روايات ورسائل ومخطوطات، تظهر تباعًا بفضل جهود تلاميذه المخلصين، وكذك بما تثيره من سجال حولها، علي نحو ما فعلت روايته »خطبة الشيخ» التي كان ينشرها في جريدة السفور. وقد صدرت مؤخّرًا مسبوقة بدراسة للدكتور جابر عصفور. وقبلها نشر الدكتور عبد الرشيد محمودي وهو واحد ممّن اهتموا بجمع تراث طه حسين خاصة كتاباته الفرنسية؛كتاب »طه حسين من الشاطيء الآخر» وشمل الكتاب المقالات والدراسات التي نشرها طه حسين في الصحافة الفرنسية ومن أشهرها دراسته عن استخدام الضمير الغائب في القرآن كاسم الإشارة، وغيرها من الدراسات المهمّة كالاتجاهات الدينية في الأدب المعاصر، وجوته والشرق،إلخ. يواصل الدكتور عبد الرشيد الصادق المحمودي جهوده في الكشف عن كتابات طه حسين المجهولة، فيصدر مؤخرًا عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة، كتاب »طه حسين: الأوراق المجهولة، مخطوطات طه حسين الفرنسية». يصف المترجم والمُحقِّق في مقدمته طبيعة هذه النصوص التي يضمها الكتاب، بأنّها »بمثابة نصوص مجهولة لأنها مسودات أملاها عميد الأدب العربي بالفرنسية، وإن لم يعن بنشرها ... لأسباب غير معروفة» ومن ثمَّ ينطبق عليها وصف مخطوطات، وقد ظلت مطوية بين أوراق طه حسين المهملة ولم يُكْشَف عنها النقاب إلّا مؤخّرًا. لا يكتفي المترجم بتقديم هذه النصوص بعد ترجمتها، وكتابة مقدمات مختصرة لها، وإنما ينشر الأصول الفرنسية إلي جوارها. ويري المترجم في نشر هذه النصوص باللغتيْن أهمية بالغة لسببين الأول: أن جمع هذه الأصول ونشرها في طبعة علمية نقدية يحفظها من التشتت والضياع. يُضاف إلي ذلك أنه يتيحها للإطلاع علي نطاق العالم، ولا سيما أن طه حسين وجهَّها جميعًا لغير الناطقين بالعربية، أو لغير المسلمين كما ذكر طه حسين نفسه في مقالته »قوة القرآن من الناحية الصوفية مشروحة لغير المسلمين» منهج المحقّق لم ينشر المحقِّق كل المخطوطات التي عثر عليها وإنما التزم منهجًا علميًا واضحًا إزاء هذه النصوص، تمثَّل في استبعاد ما لا علاقة له بكتابات طه حسين وفقًا لأدلة ثابتة لا تقبل الشّك، علي نحو استبعاده مقالة عن »المسيح وفقًا للقرآن» وقد استبعدها المؤلف من نصوص الكتاب لأنّه وجد كاتبها يتحدّث عن مدينة حلب بوصفها مسقط رأسه، وهناك مقالة أخري عن ضرورة التجديد في دراسة النحو العربي، وقد خُيّل له من الوهلة الأولي أنّها لطه حسين، خاصّة أنه كتب في هذا الموضوع في مناسبات كثيرة، إلّا أنه بعد الفحص استبعدها، بعدما وجد كاتبها يشير إلي طه حسين بضمير الغائب. ومثلما استبعد ما لم يثبت صحته لطه حسين، فإنه اعتمد منهج الاستقصاء والفحص ليثبت ما له علاقة بطه حسين، فمقالة »قوة القرآن مشروحة لغير المسلمين» لم تكن تحمل توقيع طه حسين كما جري في كتاباته السابقة، إلّا أن ثلاثة أدلة تقطع بصحة نسبها لطه حسين، أولا أنه وجد المخطوطة في أكثر من نسخة، ومعدلة بكثافة، ومن المستبعد أن يعهد كاتب آخر لطه حسين بمقالة من عدة نسخ وبعيدة عن الصياغة النهائية. وثانيا أن لا أحد غير طه حسين يستطيع الكتابة عن جماليات القرآن الكريم علي نحو ما فعل بتفقه ودقة وعمق، وثالثا؛ لتشابه آرائه في الموضوع مع ما كتبه طه حسين في كتابه »مرآة الإسلام» بين الإملاء والارتجال المخطوطات عبارة عن نصوص أملاها طه حسين علي مَن كتبها علي الآلة الكاتبة أو بخط اليد قبل نشرها مطبوعة أو إلقائها كمحاضرة أو خطبة أو توجيهها علي شكل رسالة إلي شخص أو تقرير لجهة ما في صورة نهائية. وتكشف هذه المخطوطات عن آلية طه حسين في الكتابة، خاصة أنه كتب من قبل مقالة بعنوان »أنا لا أكتب وإنما أملي» وقد نُشرت ضمن كتاب »من الشاطئ الآخر» فمعروف عن طه حسين الارتجال من وحي المناسبة،لكن أين ينتهي دور الإملاء وأين يبدأ دور الارتجال في مؤلفات طه حسين؟» يقول المترجم إننا نستطيع »أن نقطع بأن طه حسين كان يعتمد علي الإملاء في كل ما نشر بالعربية من كتب أو مقالات سواء جُمعت في كتب أم نشرت متفرقة». ومن أشهر النماذج علي ذلك محاضراته التي ألقاها علي طلاب الجامعة المصرية، وطبعت في كتاب بعنوان »الشعر الجاهلي» 1926، وبالمثل مقالاته التي جمعت تحت عناوين مختلفة: حديث الأربعاء أو علي هامش السيرة... وغيرهما. لكن يتساءل المترجم وماذا عن محاضراته وكتاباته باللغة الفرنسية؟ هل هي خاضعة لمنهج الإملاء الذي اعتمد عليه طه حسين أم أنّه اعتمد وسيلة أخري؟! يقول المترجم إن بعض هذه الكتابة ينطبق عليها ما قاله عن الكتابات العربية، ويضرب الأمثلة بدراسته عن »البيان العربي من الجاحظ إلي عبد القاهر» وترجمها محمد عبد الله عنان. وبغض النظر علي هذه الحالة فإن الغالب علي طه حسين أنه كان يرتجل ولا يُملي، فهو يُلْقِي الدراسة أو يُدْلي بالتصريح أو يضيع في الهواء. وهذا ما يبدو للوهلة الأولي لكن هذه المخطوطات الأخيرة تدل علي أن طه حسين كان يُملي علي مَن يكتب ما يقول علي الآلة الكاتبة أو بخط اليد، ثمّ كان يحفظ هذه النصوص عن ظهر قلب أثناء إملائها أو عند تلاوتها عليه بعد تسجيلها وتنقيحها في بعض الأحيان. ومعني هذا أن حظ الارتجال هنا قليل جدًّا، والدليل علي ذلك أن أداء طه حسين للنص أثناء الإلقاء كان بارعًا،أشبه بالممثل يُحْسِنُ الأداء بعد أن تَلقَّنَ الدور وأَحْسَنَ الحفظ بفضل البروفات، وأصبح بمقدوره أن يُنَغِّمَهُ أو يُلَوِّنَهُ كما يشاء. الشيء الثاني الذي تدل عليه هذه المخطوطات أن طه حسين كان يعتني بتنقيح هذه النصوص قبل نشرها أو إلقائها، بدليل ما حملته هذه المخطوطات من تصويبات علي شكل إضافة أحيانًا وشطب أحيانًا أخري، لكن كيف كان يتمّ هذا التنقيح؟ فمع تساؤل المترجم والمحقّق إلّا أنّه لا يستطيع أن يجزم باليد التي تدخلتْ؛لذا يضع عِدَّة احتمالات. فيقول إنّه من المؤكّد أن سوزان طه حسين كانت تتدخل فتجري تعديلات تشمل تصحيح أخطاء النحو والهجاء وتشمل أيضًا تحسين الجملة، وإلي جانبها كان هناك آخرون كأمينة ومؤنس طه حسين، أو سكرتيره، أو أي شخص آخر يكون متاحًا في الوقت المناسب. قيمة الأوراق تتمثّل قيمة هذه المخطوطات حتي ولو كانت ثانوية في أنّها تُقدِّمُ جوانبَ - نجهلها بدرجة أو بأخري - من فكر طه حسين، وأيضًا تُثير الدهشة والإعجاب، بعضها مُتعلِّقٌ بمسائل مازالت تُناقش إلي الآن علي نحو مشكلة الشرق، حيث يشرح فيها مشكلات تعترض طريق التفاهم بين الشرق والغرب، مركزًا علي قضيتين هما: شمال إفريقيا وفلسطين، وقد ذكر طه حسين رأيه في أسباب سوء التفاهم. كما تكشف هذه المخطوطات عن طرائق تفكيره ومعالجاته للموضوعات التي أثارها.وجميعها تثبت أن طه حسين أقرب أدباء القرن العشرين إلي الفلاسفة، فلو لم يكن أديبًا، لكان فيلسوفًا. فالاهتمام بالجوانب الفلسفيّة من تفكير طه حسين أهمية أساسية في كتاباته المطوَّلة في تاريخ الأدب والنقد، وقضية المنهج والشك، والعلاقة بين العلم والدين. وأيضًا تكشف هذه المقالات عن وعي طه حسين بتاريخ بلاده وتسخير كل ملكاته للذود عنه، علي نحو ما رأينا في رسالته ردًّا علي السفير التركي. فطه حسين قدم درسًا في التاريخ وهو يسوق الأدلة تلو الأخري علي ما آلت إليه مصر إبّان الفترة العثمانية. فطه حسين يضع تفرقة حاسمة بين نوعين من الحكم شهدتهما مصر عبر التاريخ، حكم تتمتع في ظله بالاستقلال والازدهار حتي ولو كان الحاكم في الأصل أجنبيًا مثل البطالمة والفاطميين، وسلاطين المماليك ومحمد علي الألباني، وحكم تفقد مصر في ظله استقلالها ولا تنتج شيئا ذا بال لأنها تستنفد طاقتها في مقاومة الحكم الذي يمثلها حتي ولو كان حكمًا إسلاميًّا مثل خلافة بغداد أو حُكم بني عثمان. ومع أنَّ ردَّ السفير التركي في المفوضية التركيّة في القاهرة جاء مُهذبًا، ومُغلَّفًا بآيات التقدير والاحترام لطه حسين، إلّا أنَّ ردَّ طه كان حازمًا وقاطعًا. وإذا كانت الرِّسالة أظهرت قومية طه حسين في دفاعة عن مصر، فإنه في مقالته عن الشرق، هو عروبيّ يدافع عن القضية الفلسطينيّة ويقول بصريح العبارة »لقد كانت فلسطين دائما عربيّة، وهي مازالت عربيّة، وينبغي أن تبقي كذلك». هناك أوراق خاصّة بخطاباته أثناء منحه درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة أثينا عام 1951. وأخري أثناء افتتاح معهد فاروق الأوّل للدراسات الإسلامية بمدريد نوفمير 1950.وهذه الخطابات تتجاوز الطابع الاحتفائي التي تشي به المناسبات التي أُلقيت فيها، إلي درس أدبي بليغ قدَّمَ فيه طه حسين الأثر المتبادل بين الثقافة اليونانية، والثقافة العربية الإسلاميّة. ودور الأخيرة في حفظ التراث القديم ونقله إلي أوروبا وهو ما أسهم في نقلة الغرب من العصور الوسطي إلي النهضة الحديثة. وفي خطابه في مدريد يشير إلي العَلاقة الصّراعيّة بين العرب المسلمين والإسبان المسيحيين، وأن »الطرفين رَويا بدمائهما الحضارة الأندلسيّة العظيمة» علي حدّ تعبيره. ومن أهم هذه النصوص ما كتبه طه حسين عن »قوة القرآن مشروحة لغير المسلمين»، والمقالة تتألّف من واحد وعشرين صفحة، وهي مقالة موجَّهة لغير المسلمين وللأوروبيين بصفة خاصة. فالكاتب يواجه فيها تحديًا حيث يسعي إلي إظهار جمال لغة القرآن وقوة تأثيرها لجمهور يجهل العربية ويعجز عن تقديرها، كما يقدم فيها نظرية جديدة تتمثَّل في كيف سيطر النثر القرآني – أدب القرآن – علي قلوب العرب وعقولهم وأشعل فيهم ذلك الحماس الذي جهل منهم قوة ضاربة في مشارق الأرض ومغاربها. ومن هذه النصوص تقرير طه عن ترجمة الروائع العالمية للعالم العربي، ضمن مشروع اليونسكو الذي كان يرمي إلي ترجمة الروائع الكبري إلي جميع اللغات، في الخمسينيات من القرن الماضي. وقد أشار طه حسين في تقريره إلي دور الترجمة في الثقافة العربيّة الإسلاميّة. ومنها أيضًا تصدير طه حسين لكتاب الشفاء للشيخ الرئيس ابن سينا، ويكشف هذا التصدير الأجواء الثقافية الرحبة والطامحة في هذه الفترة من الخمسينيات. كما احتوت الأوراق علي مقارنة طه حسين بين فكر المعتزلة وبين الفلسيلوف الألماني ليبنتز. ومع صعوبة المقارنة كما صرّحَ طه حسين في بداية المقارنة إلّا أنّه استطاع أن يُوجد نقاط اتفاق وَمُشابهة بين الطرفين. والمقالة توضح عودة طه حسين إلي اهتماماته الكلامية الفلسفيّة.