فى أقل من ساعات معدودة بعد اكتشاف سرقة لوحة «زهرة الخشخاش» التى تساوى 50 مليون دولار تم اتهام مسئولى المتحف بالإهمال والتسيب وعدم الكفاءة الأمنية. النيابة اتهمت فورا 14 مسئولا فى الثقافة، والنائب العام فورا يترك مكتبه المكدس بالقضايا المؤجلة والبلاغات المتوسلة العدالة وينزل إلى متحف محمود خليل - مسرح الجريمة - وبنفسه يقوم باختبار أجهزة الإنذار ويعلن عدم صلاحيتها لإطلاق الإنذار لحماية مقتنيات المتحف الثمينة. لست فى خصام مع لوحة «زهرة الخشخاش» أو غيرها من لوحات العبقرى الهولندى المتفرد فان جوخ.. الذى كان يرسم بجموح خياله وتأجج عواطفه المجنونة وتوحشها النبيل وبساطتها المحيرة.. وعفويتها البراقة وتلقائيتها المشعة بالضوء واستحالة الفرح على هذا الكوكب. إذن أنا لست ضد فان جوخ.. ولست ضد «زهرة الخشخاش». لكننى حين قرأت عن خبر سرقة اللوحة وكيف تحركت جميع أجهزة الثقافة.. والنيابة والنائب العام وتم فى يوم اتهام المسئولين فى المتحف، بالإهمال والدنيا مقلوبة والقرارات سريعة.. والفحص سريع والاتهامات سريعة والاهتمام سريع والمتابعة سريعة شعرت بالحقد على لوحة «زهرة الخشخاش»، وكذلك كم حسدتها لأنها لاقت كل هذا الاهتمام السريع من المسئولين وكأنها الابنة المدللة الوحيدة لكل مسئول! فى مصر وعلى مكتب النائب العام بلاغات ليست عن سرقة لوحات، لكن عن سرقة أرواح ناس ماتوا من إهمال المسئولين فى المستشفيات.. لكنها «مركونة» لم تحظ بأى اهتمام، إن اللوحات فى مجتمعاتنا أهم من أرواح البشر.. رغم التشدق بغير ذلك، أى شىء فى مجتمعاتنا أى شىء لهو أهم وأثمن وأغلى من الإنسان المصرى. فى مجتمعاتنا «إهمال» الأطباء فى المستشفيات الذى قد يؤدى إلى موت المرضى لا يرى من أساسه.. وبالتالى لا يحاسب ولا يعاقب ولا تجرى وراءه النيابة.. وليس كافيا لأن يهتم به النائب العام شخصيا كما حدث فى سرقة لوحة واحد خواجة! ربما لو كانت اللوحة المسروقة لواحد مصرى مش خواجة.. أو واحدة مصرية مش خواجاية لما رأينا كل هذا الاهتمام السريع من المسئولين والأجهزة.. والنائب العام والنيابة والإعلام أو لنقل سيكون الاهتمام ليس بهذه الدرجة من السرعة والمبالاة. لست متأكدة من السر وراء هذا الاهتمام غير المألوف.. والدوافع التى تؤدى إلى هرولة التحقيق بهذه السرعة حين سرقت لوحة. هل لأنها تساوى 50 مليون دولار؟ هل لأن «سمعة» مصر فى الخارج سوف تتدهور لأنها مش عارفة تحافظ على لوحة أجنبية فى متحف مصرى؟ هل لأن مجتمعاتنا تحب «الخشخاش» وتوابعه أكثر من أى زهور أخرى؟! هل لأن مجمعاتنا تمشى على الصراط المستقيم ولا تقبل السرقة أو أى جريمة على أرضها الفاضلة «الخالية» من المعاصى والرذائل والسرقات والفساد والمحسوبية والتسلط والكذب والكيل بمكيالين وعدم الاهتمام بأرواح الناس بسبب الإهمال؟! صراط مستقيم 100%. كم أشعر بالمرارة من حالنا فالإنسان المصرى يُسرق منه كل شىء.. حتى عمره وحياته ولا أحد يبالى. يُسرق منا الخبز الذى نأكله.. تُسرق البيوت التى نسكنها.. تسرق الأراضى التى بنيت فوقها البيوت.. تسرق الملايين من البنوك.. تسرق الترقيات، والحوافز والمكافآت من مستحقيها تسرق العدالة مِمّنْ مات، ظلما وهوانا.. تُسرق كلمات الحق.. تُسرق النزاهة من الإعلام.. تُسرق كرامتنا.. تُسرق عقولنا.. تُسرق أحلامنا.. تُسرق أعضاؤنا الداخلية.. تُسرق إبداعاتنا.. يُسرق الحاضر.. يُسرق المستقبل.. يُسرق الفرح.. تُسرق القضايا العادلة، من ملفاتها، ومن ضمائرنا.. تُسرق ملامحنا «الأصل» النبيل، مقابل نسخ ماسخة عفنة الجذور. لكن ماذا يعنى كل هذا؟ وإيه يعنى كل تلك السرقات؟ ما أرخص العدالة، حين تتعلق بالإنسان المصرى؟ ما أرخص الإنسان المصرى نفسه كده كله على بعضه، حياته، وفلوسه، وعمره! ما أرخصنا فى وطننا! على مكتب النائب العام منذ عامين بلاغ عاجل لمريض يحكى تفاصيل تعرضه لإهمال جسيم بعد زرع كبد فى مستشفى استثمارى فى مدينة أكتوبر.. 23 بندا من الإهمال المتوحش. وقال للنائب العام إذا مت أفوضك عنى للتحقيق، حتى أرتاح فى قبرى. مات المريض تانى يوم فى اليوم نفسه الذى وصل بلاغه للنائب العام. وحتى الآن مازال البلاغ غامض المصير. ربما أصابه الإهمال الجسيم مثل صاحبه. لكن المؤكد أكثر حسب خبرتى، أن موت مواطن مصرى، كتب كيف مات بنفسه من الإهمال، أمر عادى.. لا يحرك أحدا.. ولا يجبر النائب العام للتحقيق فى ال 23 بندا من الإهمال، إيه يعنى لما يموت؟! عندنا غيره الملايين! «سرقة عمر مواطن مصرى بسبب الإهمال»! أم سرقة لوحة الهولندى فان جوخ.. «زهرة الخشخاش»؟! طبعا الخشخاش يكسب. لذلك حين أهدى وردة أغسطس فإننى أود إهداءها إلى كل «بلاغ» وكل «قضية» وكل «تحقيق» تم إهماله فى الأدراج.. أو فى ساحات المحاكم.. وطرقات النيابات وجلسات دار القضاء العالى.. لكنه فى النهاية بالمثابرة سينال عدالته وإذا لم ينل، عدالته فلا حيلة لنا إلا رغبة التحول، إلى لوحة من لوحات الخواجات، تسرق من متحف مصرى. من بستان قصائدى قالت لى الطبيبة جميع كتب الطب وكل اكتشافاته العجيبة تعجز عن منحك الشفاء هذا قدرك وأنتِ ترفضين رغبة الأقدار وهذا وحده مرض ليس له دواء.