لا ننكر أن لبعض الفضائيات العربية وقعا إعلاميا كبيرا فى متابعة الأحداث التاريخية التى عصفت بالمنطقة منذ سنوات، ولكن ثمة ملاحظات نقدية عليها أود أن تتسّع الصدور لسماعها.. خصوصا أن الإعلام بات اليوم ضرورة أساسية جدا فى التعامل بين طرفين مهمين جدا: المعرض نفسه والمتلقى له. إن الإعلام المعاصر لا يكتفى بأدوار الإثارة والضجيج وفبركة الموضوعات واللهو أو الاستعراضات أو المكررات الساذجة، بل يعد دوره أساسيا فى تربية الأجيال وتصويب الأخطاء، ومراقبة الأداء، ونشر الرأى العام، ومتابعة الأحداث والتعرف على ثقافات العالم وآخر منتجاته.. كما يعد الإعلام المرئى أعظم محلل للمعلومات ووسيلة إيضاح للناس.. إن مقارنة جادة بين فضائياتنا بغيرها فى العالم المتمدن سيوقفنا على جملة هائلة من التباينات. إن التعبير الإعلامى عن سياسات وأجندة معينة بات مفضوحا للجميع، ولقد أباحت أغلب الفضائيات العربية ما يروق لسياسات معينة وتمنع عن قصد ما لا يروق لأمزجتها ومرجعياتها، فهذا لا يمكن قبوله اليوم.. خصوصا ونحن نعرف كم من برامج عربية هى صور مشوّهة لبرامج عالمية لم يحسن الإعلاميون العرب تنفيذ أدائها أو إخراجها! ولا يمكن أن تكون بعض فضائياتنا التى فرضت نفسها على الساحة لأسباب أيديولوجية أو عاطفية أو حتى مذهبية وطائفية بإثارتها المواقف واستدرارها المشاعر وتأليبها الرأى العام جاذبة لجماهير تعشق هكذا عروضا على حساب الحقائق العقلانية والواقعية! كما هو حال الصحافة العربية المعاصرة التى تفتقد الاستقلالية والحيادية، إلا ما ندر! لقد اكتسبت بعض الفضائيات شهرتها ليس من متابعة الأحداث السياسية والحربية والعامة بقدر ما كان لها من أدوار تشهير وإثارة وسخرية من خلال مذيعيها وضيوفها الذين تبرزهم فى برامج معينة من التعليقات الصارخة المستفزة للأعصاب والعواطف. إن ضغوطات عدة تمارس من أجل إخفاء معلومات، وإن رشاوى تدفع من أجل تزييف أو فبركة صور ومعلومات أخرى. إن ما يعد من اتفاقات وما يجرى من اختيارات وراء الكواليس وتحضيرات واتصالات.. تنبئنا عن تشويه مقصود للحقائق التى يتصورها الناس حقيقة وثمة حروب خفية وعلنية بين الفضائيات العربية من أجل كسب هذا الرأى وبث هذه الأخبار والأشرطة.. بعيدا عن كل شفافية ومصداقية! لقد ابتلى الإعلام العربى بجماعات يسميها البعض ب (مافيات) تجمعها مصالح مشتركة وأجندة إعلامية بليدة واحدة. إن ثمة برامج سياسية ودينية يقدمها مذيعون وساسة ومعممون، يستخف بعضهم بعقلية المشاهد والمتلقى، فيقدم كل سذاجة وفجاجة، بعيدا عن أية معلومات شفاهية أو مصورة حقيقية، مع هول الأخطاء اللغوية والجغرافية والطبوغرافية وحتى النقص فى الثقافة العامة لدى العديد منهم.. وبالرغم من أن بعض الضيوف لهم تحليلات جديرة بالتقدير. ولكن ثمة من يطلق عليهم بمحللين وخبراء، وهم لا علاقة لهم بالموضوع أبدا، بل لأن بعض تلك الأسماء تمتلك شهرة مناصبها السابقة، أو شخصيات هرمة كانت لها أدوارها قبل خمسين سنة وهى اليوم خارج التاريخ ولا تكف أن تبنى لها أحلاما فى الهواء! إن من الضرورات القصوى، أن يكون كل من يتكلم على أية شاشة تليفزيون له ثقافة رصينة ويلم بعناصر الموضوع على الأقل.. ولكننى أجد نقصا حادا فى معلومات أغلب الإعلاميين وضيوفهم، فيكونون أداة حقيقية فى تضليل الناس بأسئلتهم الباهتة وتعليقاتهم الفجة ومعلوماتهم الخاطئة، فى حين أن المطلوب تقديم معلومات ثابتة وحقيقية، فالفرق كبير بين الرأى ووجهة النظر من طرف، وبين المعلومة الثابتة والأكيدة من طرف آخر.. ناهيكم عن سوء تصرف بعضهم فى أغلب الفضائيات بتدخلاتهم وإطلاق آرائهم الشخصية مع التهم والشعارات السياسية وفقدان الحيادية، وأن يكونوا فى منتهى الأمانة والموضوعية إذ ليس من شأنه إلا البحث عن المعلومة الصحيحة والحقيقية بعيدا عن توجهاته الشخصية أو غيرها. السؤال الآن: هل ثمة علاجات حقيقية للمثالب والسلبيات التى تطغى على فضائياتنا؟ لابد من تجديد منظومة الفضائيات العربية، فهناك وجوه هرمة لابد من تغييرها بوجوه أخرى، فالتغيير لابد أن يحصل فى كل مرافق الإعلام.. فضلا عن تغيير أنماط تلك الفضائيات من حالاتها البائسة التى ملها الناس إلى أنماط جديدة من الموضوعات، فليست حياة العرب كلها سياسة وآراء سياسية (وخبراء استراتيجيين مزيفين) فمجتمعاتنا بحاجة إلى إصلاحات جذرية وموضوعات وتحليلات معمقة يقوم بها مختصون أذكياء! كما أن الجيل الجديد لا يعرف من فضائيات اليوم إلا الانغلاق والسذاجة أو الفجاجة واللهو والرقص والاستعراضات الصارخة.. ولا يعرف أيضا إلا المماحكات الدينية ومكرراتها! إنه بحاجة إلى برامج موسوعية عليا تطور من عقليته وتشحذ طاقاته وتصقل إبداعاته بدل نزق برامج سخيفة تأكل الزمن وتضعف الحياة وتشغل التفكير وتميت الأعصاب وتشّوه الأذواق.. إن الفضائيات ملزمة بأن تطور من البرامج الاقتصادية والجغرافية والمناخية والسياحية ومعرفة ثقافات الشعوب والإطلاع على آخر مبتكرات العلم الحديث.. فهل سنبقى بهذا الوهن، ونحن تغرقنا بلادة فضائياتنا العربية، أم سنسعى إلى التغيير الجاد؟ لا ننكر أبدا أن ما حدث فى السنوات العشر الأخيرة فى الإعلاميات المرئية، إذ يعد ثورة حقيقية فى المعلومات والرأى والأفكار والأخبار من خلال تطور الميديا الحديثة وشبكة المعلومات الدولية، وأصبح العالم صغيرا، بل أصبحت مجتمعاتنا نفسها منكشفة بعضها على الأخر، وكل يوم يمضى تتّكشف كل مخفياتها ومسكوتاتها وأسرارها التى اختزنتها لأزمان طويلة! وكان ينبغى على فضائياتنا أن تكون أكثر حرفية وذكاء وأداء فى معالجة واقعنا الذى لم يعد يحتمى بالمستورات ويكشف أكثر عن كل أسراره الجميلة والبشعة! لقد غدت ثورة المعلومات والفضائيات.. أهم وسيلة لفضح مخفيات مجتمعاتنا برمتها، وكشف كل المستورات.. وبدا الناس يتعّرفون لأول مرة على كنه مجتمعاتهم وما تتضمّنه شرائحها وبيئاتها وجهوياتها من عادات وتقاليد وطقوس غير مشتركة.. بل إن الواقع كله بدا منفضحا ومتعريا بكل ما فيه من أدران ومشكلات ورزايا. من المؤسف جدا، أن إعلاميينا ليسوا بمؤهلين أبدا لمواجهة التحديات الجديدة، وغير قادرين على توظيف منجزات العصر من أجل تطوير مجتمعاتنا وتحديث ذهنياتنا وتكوين مصائرنا. إننا لا ننكر أن هناك ثمة إعلاميين حقيقيين مهنيين وأذكياء نجحوا فى مهامهم، ولكنهم فشلوا فى المساهمة فى معالجة الجوانب الاجتماعية والفكرية والأوضاع السكانية والثقافية. لقد ازداد عدد الفضائيات الناطقة بالعربية وسيزداد مع توالى الأيام القادمة، فتفاقمت التداعيات والأخطاء، وغدا بعضها ناطقا باسم أشخاص وأحزاب وطوائف ومذاهب وبأساليب متدنية جدا بكلّ ما تقدّمه للناس من إسفاف حقيقى وخزعبلات ومهاترات وأكاذيب وشتائم.. لقد غابت الرقابة على الممنوعات من قبل سيطرة الدولة لتصبح الأمور منفلتة إلى الدرجة التى لم يعد فيها كل المصلحين قادرين على رتق الفجوات وتضييق المرئيات ومتابعة الأخطاء.. وعليه، إن استمرت، فستولد أخطاء وستتربى أجيال كاملة قادمة على كل هذا الغثاء، دون أى ضوابط أبدا. إن الإعلام العربى اليوم، ليست له أى مصداقية حقيقية، فالفضائيات، وهى أهم ميادينه لا تكتفى بأدوار الإثارة المصطنعة والضجيج وفبركة الموضوعات واللهو والمسلسلات التافهة والأفلام السخيفة أو الاستعراضات البدائية أو المكررات الساذجة، بل إن بعضها يساهم فى نشر الشعوذة فى برامج استهلاكية رثة ترتزق منها المحطات عبر الاتصالات التليفونية.. لقد شاهدت صدفة إحدى الفضائيات تستضيف معتوها ليوزع على من يكلمه بالتليفون نصائحه السحرية وشعوذاته البدائية التى لها كما يبدو جماهيرية واسعة فى مجتمعاتنا، فى حين يغّيب عن قصد كل العلماء والمفكرين والمثقفين الحقيقيين. وعليه، فليس هناك أى إعلام حقيقى عربى إلا ما ندر! إن لكل فضائية عربية سياسة معينة ومزاجية خاصة ومرجعية لها لا تتجاوز خطوطها الحمراء، وهذا لا يمكن أن يمرّره الوعى اليوم الذى يطمح أن يرى الحقيقة مهما كانت مريرة، وإذا كانت الفضائيات تعكس ما ترغب به المجتمعات لا الدول، فإنها تساهم فى تأخر الوعى وتعمل على جر تفكيرنا إلى الوراء قسرا وأنها تزرع كل الخطايا فى طبيعة الإدراك الجمعى الذى بات يستهوى ما يرضى عواطفه وما يشبع رغباته وما يلائم أمزجته وما يريح أعصابه وما يرضى نزعاته. إننى أعيد مناديا ومطالبا بالاتفاق على لائحة عربية تطالب بالاحتراف وبعدم جعل الحرية وسيلة تبرر نشر الفساد الفكرى والاجتماعى وإشاعة الدجل والخرافة والشعوذة وزرع الانقسامات الطائفية والمذهبية وإثارة المواقف وإشعال المشاعر المضادة للحقائق العقلانية والواقعية. لقد اشتهرت فضائيات عربية نظير أدوار التشهير والإثارة والسخرية من خلال مذيعيها ومراسليها و(خبرائها الاستراتيجيين) الذين ليس لديهم عمل سوى خلق وإثارة المتاعب والاستفزازات واللعب على العواطف والأعصاب! وهناك سوء تصرف فاضح لإعلاميين وضيوف وأناس عاديين بوسائل الاتصال المتنوعة وخصوصا بتدخلاتهم وإطلاق آرائهم الشخصية مع سيل من التهم الجاهزة والشعارات السياسية والتهريجات المتفق عليها بعيدا عن روح الشفافية والموضوعية حتى طغت السلبيات على الواقع نتيجة إذكاء كل النفوس. وعليه، فلابد من إصلاحات جذرية معمقة يقوم بها مختصون أذكياء ! كما أن جيلنا الحالى لا يعرف من فضائيات اليوم إلا الانغلاق ومكررات النصوص وتشويه العقول والسذاجة الفكرية واللهو الفاضح واللغو الجارح مع اتلاف للذوق الموسيقى والغنائى. إنه بحاجة إلى ثورة فكرية وإعلامية وأخلاقية واجتماعية فى تطوير أساليب الحذاقة والمهنية العالية والعقلية المنفتحة، وأن تلغى كل البرامج السخيفة التى دخلت كل البيوت والغرف دون استئذان.. إن أجيالنا القادمة ستطالبنا حتما بضرورات المستقبل، ولكن فضائياتنا تأكل الزمن، وتضعف الحياة، وتشغل التفكير، وتميت الأعصاب وتشوه الأذواق. إن الثورة الإعلامية إما أن تغدو وسيلة نهضوية حضارية من أجل بناء المستقبل، أو إنها ستبقى حياتنا كسيحة واستهلاكية وضائعة، وتلك هى مشكلة معقّدة لا يمكن حلّها أبدا. وعليه، نطالب بأن يندرج الإعلام المرئى خصوصا فى دائرة اهتمام الدول والمجتمعات والمدارس والجامعات وحتى النخب فى إيلائه اهتماما حقيقيا ومن خلال مؤتمرات ودورات وورشات عمل.. من أجل تقويم أدائه وتطوير برامجه ومنوعاته والاستفادة من مبتكرات ما تقدّمه بقية المجتمعات لأبنائها. فهل ستتحقق أمانينا؟ إننى أشك فى ذلك!