انطلقت التهديدات بالحرب الشاملة من العديد من البلدان المحيطة بنا.. وتوالت ردود الأفعال الدولية عليها.. ورغم ذلك قد تهدأ عاصفة التهديدات قبل أن تندلع الحرب.. أو تخرج الطلقة الأولى لنشهد صراعا عسكريا جديدا فى الجوار، عموما التلويح بالحرب ليس إلا واحدة من الأدوات التى قد تلجأ إليها بعض الدول لتحقيق أهدافها.. وقد تستخدم لتطويع دول أخرى.. أما خوض الحرب فهو آخر الحلول التى تلجأ إليها أى دولة، إذ غالبا ما يسبق الحرب سلسلة طويلة من المحاولات الدبلوماسية الناعمة والمفاوضات والحملات الإعلامية والوساطة واختبار النوايا.. إلخ، لكن فى كل الأحوال عندما يتبادل البعض حولنا رسائل الحرب فإن الأمر يصبح مقلقا بل خطيرا. الخيوط تشابكت بشكل محير.. وتداخلت العوامل الداخلية بالخارجية فى العديد من الدول، بل انعكست علاقات الدول الكبرى وخلافاتها على تلك العوامل.. وأصبح الشرق الأوسط وكأنه مقبل على حرب ما.. فإسرائيل تتوعد إيران ب «دموع ساخنة».. وطهران تتهم واشنطن بشن حرب نفسية ضدها فى الخليج، وعندما أعلن أوباما عن موعد لقائه بالدلاى لاما فى واشنطن يوم 16 من الشهر الجارى أعلنت الصين عن غضبها.. وواصلت دعوتها إلى التفاوض مع طهران حول ملفها النووى.. وعندما تجاهلت إيران - منذ أيام - تحذيرات الغرب وروسيا وأعلنت بدء إنتاج يورانيوم مخصب بنسبة 20% فى منشأة «ناتاز» توقعت واشنطن فرض العقوبات على طهران خلال الأسابيع القادمة.. ولم تستبعد موسكو احتمالا نظريا قائما وهو شن الحرب على إيران.. وعندما صرح الرئيس السورى بشار الأسد أن إسرائيل تدفع المنطقة للحرب، اعتبر أفيجدور ليبرمان وزير خارجية إسرائيل ذلك تهديدا لدولته وقال إن إقدام الرئيس السورى على مهاجمة إسرائيل سيعنى أنه لن يخسر الحرب فقط، بل سيخسر السلطة هو وعائلته، وعندما سئل وليد المعلم عن التهديدات الإسرائيلية قال إنهم يخاطبون وضعا داخليا أو يريدون أن يغطوا على عجزهم عن الالتزام بمتطلبات السلام.. وعندما أعلن رؤساء أجهزة المخابرات الأمريكية خلال جلسة الكونجرس - عقدت مؤخرا - أن احتمالات تعرض الولاياتالمتحدة لمحاولات إرهابية خلال الأشهر القادمة أصبحت فى حكم المؤكد، اتفقت أغلب تحليلات الخبراء الأمريكيين على أن العالم لا يعرف بالتحديد طبيعة العلاقة القائمة بين تنظيم القاعدة وإيران التى تستضيف عددا من أعضاء التنظيم لجأوا إليها بعد الحرب الأمريكية على أفغانستان.. وأن الخلاف الفكرى بين تنظيم القاعدة «السنى» وإيران الشيعية لا يمنع التعاون بينهما.. واتفقوا على أنه من الواضح أن إيران تريد استعمال عناصر القاعدة فى خوض حرب غير متوازنة مع أمريكا.. وعندما أعلن المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية آية الله على خامنئى أن تدمير إسرائيل وشيك بعد أن أصبحت على الهاوية.. بعدها هدد حزب الله إسرائيل بتحطيم القبة الحديدية بالقبضة المقاومة.. وشكك قادته فى قدرة نظام القبة الحديدية والمضاد للصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى على حماية إسرائيل فى حالة وقوع مواجهة بين الطرفين. نبيل قاووق مسئول منطقة الجنوب اللبنانى فى حزب الله قال إن جميع مدن وقرى إسرائيل تقع فى مرمى نيران قواته.. وهو ما يجعل تل أبيب تشعر بالقلق وتزيد من حديثها عن حرب مقبلة.. وفى هذا المجال اعتبر تونى دودج - الخبير فى شئون الشرق الأوسط بالمعهد الدولى للدراسات الاستراتيجية بإنجلترا - أن احتمالات قيام حرب بين إسرائيل وحزب الله مرجحة.. فى حين أن فرص قيام حرب إسرائيلية ضد سوريا مستبعدة.. وقال إن حزب الله استطاع إعادة تسليح نفسه بأسلحة متطورة وفاعلة.. وأنه فى حالة قيام حرب مع إسرائيل سيستطيع أن يثبت أنه فى وضع جيد.. وأشار دودج إلى أن سلاح حزب الله يعتبره البعض عنصرا رادعا لقيام حرب إسرائيلية مشيرا إلى أن حالة اللاحرب واللا سلم لا تفيد كلا الطرفين، وقد يكون من مصلحة الحكومة الإسرائيلية الحالية شن حرب ضد حزب الله لأسباب داخلية، وقد يكون الموقف الدولى من أسلحة إيران النووية سببا آخر لهذه الحرب.. ومن ناحية أخرى توالت التصريحات الأوروبية والدولية الداعمة للتوجهات الأمريكية والإسرائيلية فى مواجهة طهران وحلفائها فى المنطقة، وتراجع بشكل كبير الاهتمام بالقضية الفلسطينية التى تعتبر محور الصراع «لدرجة أن أوباما فى خطابه الأخير عن حالة الاتحاد لم يذكرها بكلمة واحدة»، وهكذا صارت هذه القضية فى أحسن الأحوال مجرد ورقة يستخدمها أطراف الصراع عندما تقتضى الضرورة. إيران إذن هى الهدف.. والمطلوب أمريكيا وإسرائيليا تطويعها أو إخضاعها أو حتى تدميرها.. ولكن كيف وصل الأمر إلى هذا المستوى؟.. هنا يجب أن نذكر أن الاستراتيجية الإيرانية منذ عام 1979 كانت قد مرت بثلاث مراحل، الأولى شهدت الصدام مع العراق واستمرت ثمانى سنوات، والثانية امتدت من عام 1990 وحتى عام 2001 وفيها انكفأت إيران على نفسها لتعيد بناء قدراتها الذاتية والاقتصادية والعسكرية فى صمت وبعيدا عن الأعين خاصة فيما يتعلق بقدراتها الصاروخية الباليستية والنووية فى وقت انشغال العالم بالغزو العراقى للكويت، ثم بالحروب الأمريكية ضد بغداد، أما المرحلة الثالثة فبدأت عام 2001 وهى مستمرة حتى الآن وفيها بدأت إيران تستغل ما بنته فى توسيع نفوذها الإقليمى سواء المباشر من العراق إلى اليمن مرورا بسوريا ولبنان وفلسطين ودول الخليج، أو غير المباشر وصولا إلى السودان والمغرب وغيرها من الدول العربية.. وتتميز المرحلة الأخيرة باحتلال العراق الذى كان يمثل سدا فى وجه توسع النفوذ الإيرانى إلى مختلف الدول العربية.. كما تميز بانتقال إيران من العمل السرى إلى العمل العلنى، حيث أعلنت طهران صراحة فى أكثر من مناسبة عن طموحاتها الإقليمية بعد أن طورت إيران قدراتها العسكرية الهجومية الصاروخية والقدرات غير التقليدية والنووية تحت مسميات دفاعية.. فضلا عن تحقيقها العديد من الإنجازات العلمية، حيث نجحت فى إطلاق قمر صناعى يحمل كائنات حية وعودته إلى الأرض.. وإعلانها عن امتلاكها القدرة على تخصيب اليورانيوم إلى مستوى 20% بفضل تطوير تكنولوجيا الليزر التى أضيفت إلى تكنولوجيا التخصيب بواسطة الطرد المركزى المستخدمة حاليا فى طهران.. هذا مع انتهاجها سياسة خارجية هجومية.. مما يعنى سعيها إلى التدخل فى الشئون الداخلية للدول المحيطة بها إقليميا.. وسعيها إلى زعزعة استقرار العديد من الدول العربية عن طريق إقامة تحالفات مع أقليات مذهبية أو سياسية داخل تلك الدول واستخدام تلك التحالفات فى التدخل المباشر فى العراق ودول مجلس التعاون ولبنان وفلسطين واليمن وغيرها.. حيث أصبحت إيران تملك محاربين موالين لها على استعداد لخوض الحروب بالوكالة proxy wars لمصلحتها إذا دعت الضرورة إلى ذلك.. باختصار إيران تريد تحقيق حلم أن تصبح دولة عظمى إقليمية تستند إلى سلاح نووى وتطور تكنولوجى متميز.. وهو الأمر الذى تعتبره واشنطن تهديدا مباشرا لأهم مصالحها فى المنطقة وهى السيطرة على منابع البترول وتأمين تدفقه إلى الأسواق العالمية وحماية أمن إسرائيل.. لذلك اعتبر مثلا جيمس جونز مستشار الأمن القومى الأمريكى أن الأنشطة الذرية الإيرانية تمثل أكبر مصدر للقلق بالنسبة للأمن الدولى المشترك. فى مواجهة ذلك تلوح إسرائيل دائما بإمكانية استخدام القوة لمنع إيران من الحصول على السلاح النووى، فمثلا قال وزير الشئون الاستراتيجية الإسرائيلى موشى يعالون فى كلمة له أمام مؤتمر هرتسيليا العاشر الذى عقد مؤخرا.. إن خطة إيران النووية ستتوقف على الأرجح سواء من خلال تغيير نظام الحكم.. أو - إذا لم يكن هناك خيار آخر - باللجوء للقوة لحرمانها من قدراتها على إنتاج السلاح النووى.. وأضاف يعالون فى هذا المؤتمر الخاص بالقضايا الأمنية، على إيران أن تدرك أن تجاهل مطالب المجتمع الدولى سينتهى على الأرجح بدموع ساخنة لها».. وتزامنت تهديدات يعالون مع مناورات عسكرية إسرائيلية كانت سوريا هى المقصد الرئيسى منها إلى جانب تصعيد لغة العداء ضد دمشق من جانب قادة الجيش على الرغم من محاولة السياسيين تقليل حدة هذا التصعيد.. ومن ناحية أخرى قامت القيادة الأمريكية بتعزيز مواقعها العسكرية فى العراق والعمل على الإسراع بافتتاح أكبر قاعدة عسكرية أمريكية فى الشرق الأوسط فى منطقة «بلد» بالعراق وبحيث تكون هذه القاعدة رسالة واضحة لطهران تتلخص فى أن العراق لم يعد نقطة ضعف العسكرية الأمريكية التى يمكن أن تستغلها إيران، ولم تكتف القوات الأمريكية بذلك، بل أنهت منذ أيام مناورات ضخمة فى مياه الخليج تزامنت مع إعلان طهران افتتاح خط جديد لإنتاج صواريخ مضادة للطائرات والسفن.. والجديد هنا هو اشتراك وحدات من البحرية الإسرائيلية فى المناورات التى أجراها الأسطول الخامس الأمريكى فى المياه المفتوحة أمام السواحل الإيرانية.. لكن هل معنى هذا أن الحرب ضد إيران أصبحت على الأبواب؟.. والإجابة يوضحها ريتشارد هاس - رئيس مجلس العلاقات الخارجية - فيما كتبه فى النيويورك تايمز.. قال: «المحادثات لا تؤدى إلى شىء.. ويبدو الإيرانيون مصممين على تطوير الوسائل التى تتيح لهم صنع سلاح نووى.. ولحسن الحظ يبدو أن برنامجهم النووى اصطدم ببعض العقبات الفنية مما أجل الحاجة إلى اتخاذ قرار بشأن هجوم وقائى وبدلا من ذلك، يجب أن نركز أن إيران الآن أقرب إلى تحقيق تغيير سياسى عميق منه فى أى وقت مضى منذ بداية الثورة التى أطاحت بالشاة قبل 30 عاما (وكان هاس نفسه يعمل بالسفارة الأمريكية فى طهران فى السنوات الأخيرة لحكم الشاه».. لذلك يجب على الولاياتالمتحدة والحكومات الأوروبية وسواها أن تجرى تحولات فى سياستها تجاه إيران من أجل تعزيز آفاق التغيير فى طهران».. ونلاحظ هنا تلاقى أفكار يعالون الإسرائيلى وهاس الأمريكى والتى تطرح فكرة إسقاط نظام الحكم الإيرانى لحل مشكلة الملف النووى الفارسى. هكذا يبدو أن توجهات السياسة الأمريكية نحو إيران قد أصبحت أكثر عدائية بصفة عامة.. والأدلة على ذلك كثيرة منها مثلا أن خطاب حالة الاتحاد الذى ألقاه الرئيس الأمريكى مؤخرا أكد أن أوباما قد انتقل خلال عام واحد من التعبيرات الجريئة عن الاهتمام بالتعامل مع إيران على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.. إلى لغة خطابية تذكرنا بأسلوب سلفه بوش الابن، حيث لم يذكر أوباما - فى هذا الخطاب الأخير - التعامل مع إيران.. بل ركز على عزل إيران ومعاقبتها ودعا إلى التعاون مع حلفاء أمريكا الدوليين والإقليميين لحشد التأييد لصالح الضغط المكثف متعدد الأطراف على إيران.. ولم يبد أوباما أى اعتراف بضرورة إقامة تعاون مع إيران فيما يتعلق بالاستقرار فى العراق وأفغانستان بعد انتهاء النزاع.. وردا على ذلك بدأ مسئولون ومحللون فى طهران يقولون أن إيران ربما تشعر بأنها مضطرة إلى تقليل تعاونها مع أمريكا فى الصراعات الدائرة فى باكستانوأفغانستان إذا استمرت أمريكا فى مساعيها لفرض عقوبات إضافية على طهران.. وربما لذلك امتنعت إيران عن حضور مؤتمر دولى حول أفغانستان لأن نهج المؤتمر يتفق مع زيادة التحرك العسكرى ويتبع معايير مزدوجة بشأن محاربة الإرهاب وتجاهل جذور المشكلة، مما سيؤدى - وفقا لآراء بعض الخبراء - إلى زيادة مخاطر النزاعات بالوكالة بين واشنطنوطهران فى كل من أفغانستان والعراق وربما اليمن ولبنان وفلسطين.. ومما يزيد القلق فى إيران أن التوجهات العدائية الأمريكيةلطهران انتقلت من الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية إلى الجوانب الإعلامية ذات الطابع الخطير منها مثلا قيام منظمة المشروع الإسرائيلى (التى تصف نفسها بأنها تهدف إلى زيادة معرفة الرأى العام والإعلام بإسرائيل من أجل حمايتها).. بشراء فترات بث على الهواء فى عدد كبير من أهم المحطات التليفزيونية الأمريكية من أجل بث حملة إعلانية مكثفة بدأت يوم إلقاء الرئيس أوباما لخطابه عن حالة الاتحاد واستمرت ثلاثة أيام.. وتهدف هذه الحملة إلى تسليط الضوء على تهديد إيران لإسرائيل وبالتالى الولاياتالمتحدة.. ويقول نص الإعلان الموجه للأمريكيين فى الأساس: «تخيل العاصمة واشنطن وهى تتعرض لهجوم صاروخى قادم من بلتيمور المجاورة.. فمنذ عام 2005 كانت إسرائيل هدفا لثمانية آلاف هجوم بالقذائف والصواريخ من حماس وحزب الله.. وساعدت إيران فى تمويل وتدريب وتسليح هاتين الجماعتين الإرهابيتين.. فوجود إيران النووية يمثل تهديدا للسلام.. ويقوى المتطرفين.. ومن شأنه أن يقدم مواد نووية للإرهابيين ذات قدرة على الضرب فى أى مكان».. وزاد هذا الإعلان القلق الإيرانى لأنه يحمل نفس نوعية الرسالة التى ساعدت فى التمهيد للغزو الأمريكى للعراق.. وبطريقة تذكرنا بالتحضير لتحرك الكونجرس بشأن قرار تحرير العراق 1998 خاصة مع تزامن بث هذا الإعلان مع قرار انعقاد لجنة الشرق الأوسط المنبثقة عن لجنة الشئون الخارجية فى مجلس النواب الأمريكى هذا الأسبوع لمناقشة ما يمكن أن تقوم بها الولاياتالمتحدة لمساعدة المعارضة فى إيران. فى النهاية.. لا أحد يريد الحرب.. لذلك يكتفى الجميع بالتلويح بها من خلال الرسائل والتصريحات.. تركيا مقتنعة بأن الحرب آتية، وقد تنهى الدور الإقليمى لإيران ولو إلى حين.. وإسرائيل تحسب تكاليف ثأر آيات الله إذا ما هاجمت المفاعلات النووية الإيرانية.. وفى نفس الوقت لاتستطيع تل أبيب أن تتعايش مع إيران النووية، لذلك تتوسع الدولة العبرية فى التهديد وكأنها تستفز الرباعى طهرانودمشق وحماس وحزب الله.. وبكين تستثمر ما يحدث فى الشرق الأوسط فى ممارسة دبلوماسية هجومية فى مواجهة واشنطن لتحقيق أكبر قدر من مصالحها بأقل تكلفة ممكنة.. وحزب الله مستفيد من حالة اللاسلم واللاحرب الحالية، وكرر تمسكه بالقرار 1701 مكتفيا بالمكاسب التى حققها فى حرب صيف 2006 على الساحة اللبنانية على الأقل.. بما يعنى أنه لن يدخل أى حرب إلا دفاعا عن النفس.. ودمشقوطهران لن يبدأ الحرب التى قد تتسع ويصعب تحمل تداعياتها وتكاليفها.. وواشنطن مازالت تستخدم الدبلوماسية الناعمة وهى تستعد عسكريا وتتمنى سقوط نظام الحكم فى طهران لحل أزمة الملف النووى الإيرانى بلا حرب قد تؤثر سلبا على مصالحها فى المنطقة.. وحماس تبدى مرونة فى ملف المصالحة وتستقبل نبيل شعث فى غزة ملوحة باعتدال لايفقدها علاقاتها الخاصة بطهران ويطمئن فى نفس الوقت تل أبيب.. ربما لذلك يكتفى الجميع برسائل الحرب لأنها تحقق بعض المكاسب بأقل قدر ممكن من التكاليف. وفى كل الأحوال ويل للضعيف!!