التوجيه التاريخي والأول من نوعه الذي أصدره الرئيس مبارك لكل من الأزهر والكنيسة بممارسة دورهما التنويري يستحق التوقف عنده كثيرا، ذلك أن المطالبة لم تخل من نوع من النقد الضمني وكانت تعني أيضا أن كلتا المؤسستين الدينيتين لاتقومان بدوريهما فيما يخص تقليل التوتر الطائفي، أو الحفاظ علي الوحدة الوطنية، وإذا كانت مقتضيات الحنكة والمواءمة السياسية قد اقتضت توجيه ذات الملاحظة أو الطلب لكل من الأزهر والكنيسة إلا أن ثمة ملاحظات متعددة يجب التوقف عندها ونحن نطرح السؤال: لماذا لايمارس كل من الأزهر والكنيسة دوريهما في الحفاظ علي الوحدة الوطنية؟ ولعلنا لانزايد ولا نزيد النار اشتعالا حين نطور السؤال ليصبح: ما هو دور كل من المؤسسة الدينية الإسلامية والمسيحية في زيادة حدة التوتر الطائفي؟ وهل هذا الدور موجود أم لا؟ والحقيقة أن كلتا المؤسستين الدينيتين تلعبان دورا في زيادة حدة التوتر الطائفي في أحيان كثيرة، كما تلعبان دورا في محاولة لجمه إذا اقتضت الحاجة أو طلبت الدولة وكما نري فإن كلا الدورين متناقضان وأحدهما يلغي الآخر وهو ما يستدعي التوقف أمام عدد من الملاحظات: وأولي هذه الملاحظات أن المقارنة بين نفوذ الأزهر علي المسلمين ونفوذ الكنيسة الأرثوذكسية علي أتباعها من الأقباط الأرثوذكس هي مقارنة جائزة شكلا لكنها غير جائزة موضوعا لاعتبارات متعددة أهمها أن الأزهر للأسف لم يعد القوة الأكثر تأثيرا في مجال الدعوة الإسلامية حيث تراجع تأثير دعاته وعلمائه لحساب كل من الدعاة الجدد والدعاة السلفيين من غير خريجي الأزهر الشريف ومن غير متبعي مدرسته الوسطية، في حين تبقي الكنيسة الأرثوذكسية بنفوذها الروحي والمادي هي اللاعب الأول والوحيد علي ساحة الوعظ الأرثوذكسي ويبقي رجال الدين المسيحي هم المرشدون الحقيقيون للشعب القبطي في شئون الدين والدنيا أيضا ولعل هذا أحد أوجه المشكلة، ولكي تكون المقارنة جائزة فإننا يجب أن نجريها بين المؤسسة الدعوية الإسلامية بمختلف روافدها، وبين المؤسسة الدينية الأرثوذكسية بمختلف روافدها أيضا، ولعلنا في هذه الحالة فقط سنجد أوجها للتشابه لا تخطئها عين. وإذا كان لنا أن نبدأ المقارنة بين الجسدين الأكبر في كلا الجانبين الأزهر والكنيسة فإننا سنلاحظ أن الغالبية العظمي من دعاة الأزهر أو من قمامصة وقساوسة الكنيسة لم ينسب لهم علي مدي سنوات طويلة أي خطابات وعظية تهاجم أصحاب الدين الآخر أو تقلل من شأنه وأن ذلك يأتي عادة لاعتبارات المواءمة السياسية والاجتماعية وتنفيذا لتعليمات القيادات الدينية وليس تعبيرا عن حرية الآخرين في الاعتقاد، حيث يعتقد أبناء أي دين علي وجه الأرض أنهم علي حق وأن أصحاب الديانات الأخري علي باطل ولعل هذه هي طبيعة الاعتقاد الديني بشكل عام. لكن الملاحظة التي لاتخطئها عين أن كلتا المؤسستين تحتفظان بما يمكن تسميته بأظلاف حادة وأنياب مسنونة من رجالها يتم استخدامها عند الحاجة ووقت اللزوم.. وأن هذه الأظلاف البشرية تتشابه في درجة ابتعادها وقربها من المركز علي كلا الجانبين بحيث يتمتعان بدرجة من الاقتراب المحسوب من مركز القيادة الدينية مما يتيح التبرؤ من الرجل (الظلف) وقت اللزوم. وعلي مستوي المؤسسة الأزهرية سنجد أن د.محمد عمارة المفكر المعروف وعضو مجمع البحوث الإسلامية يلعب دور الهجوم إذا ما اقتضت الحاجة.. وقد كان الرجل هدفا لعدة بلاغات تقدم بها محامون يمثلون أقباط الداخل والخارج بسبب كتابات له عرض فيها رأيه في العقيدة المسيحية لعل أشهرها كان كتابه (فتنة التكفير بين الوهابية والشيعة والصوفية) عرض فيه لرأي ساقه الإمام أبوحامد الغزالي حول جواز تكفير المسيحيين واليهود والزنادقة، وكان البلاغ الثاني في أواخر عام 2009 حول كتابه تقرير علمي الذي وزع مع مجلة الأزهر ولم يكن سوي تقرير كتبه حول كتاب أحاله إليه مجمع البحوث الإسلامية لإبداء الرأي، وهو رأي أن الكتاب هو كتاب تبشيري مليء بالهجوم علي الإسلام كتبه كاتب باسم مستعار فلم يكن منه إلا أن رد عليه، وعموما فإن مقالات الرجل كانت دائما موضعا لهجوم وشكاوي قبطية متعددة، رغم أن الرجل لم يعدم نظراء له علي الجانب المقابل طوال الوقت وبشكل أقسي في معظم الأحيان، ولعلنا سنلاحظ أن د.عمارة يجمع بين كونه مفكرا مستقلا يتحمل مسئولية ما يكتبه وبين كونه عضوا في مجمع البحوث الإسلامية أعلي هيئة علمية في الأزهر، لكنه في كل الأحوال ليس موظفا أو مسئولا رسميا في الأزهر. -- ولعل وضعا مشابها يحظي به الداعية التليفزيوني المعروف والمتطرف أيضا د.زغلول النجار صاحب نظرية الإعجاز العلمي في القرآن، فالرجل الذي ينتمي فكريا لجماعة الإخوان المسلمين يشغل منصب رئيس لجنة الإعجاز العلمي في المجلس الأعلي للشئون الإسلامية التابع لوزارة الأوقاف المصرية، وهو بهذه الصفة محسوب علي المؤسسة الرسمية الإسلامية وغير محسوب أيضا، وبرغم أن الرجل يركز كل مجهوداته الإعلامية للترويج لنظريته الخاصة حول الإعجاز العلمي في القرآن الكريم إلا أن تطورات المشهد فرضت عليه أن يدخل لساحة السجال الطائفي في عام 2006 حين أطلق تصريحات صحفية عززها ببلاغ للنائب العام يتهم فيه الكنيسة المصرية بقتل المواطنة وفاء قسطنطين بعد إخفائها في دير وادي النطرون علي خلفية القصة الشهيرة لوفاء التي أشهرت إسلامها وأصرت الكنيسة علي عودتها إليها، فضلا عن تصريحات أخري اتهم فيها بعض الكنائس القبطية بتنظيم حملات لتنصير المسلمين، فضلا عن تصريحات أخري تحدث فيها عن رأيه في العهدين القديم والجديد ووصف فيها الكتاب المقدس بأنه كتاب (مكدس) ضمن حديث طويل كان يشرح فيه أسباب عدم اقتناعه بصحة الكتاب المقدس للمسيحيين، وإذا كان زغلول النجار يتسم بأسلوب أكثر حدة وشعبوية من أسلوب محمد عمارة إلا أن ما يجمعهما بخلاف الوقوف علي حدود المؤسسة الدينية الرسمية هو الطابع الأكاديمي لكتاباتهما التي وإن لعبت دورا في زيادة حدة التوتر إلا أن هذا الدور يبقي قاصرا علي النخبة وهو ما يختلف عن الدور الذي تقوم به (الأظلاف) البشرية علي جانب المؤسسة القبطية الأرثوذكسية. -- لعلنا لسنا في حاجة إلي القول أن العلاقة الملتبسة وغير المحددة بين الكنيسة المصرية وبين القس المتطرف زكريا بطرس تبقي أحد أهم أسباب التوتر الطائفي والعقدي التي تستدعي نوعا من الفعل ومن ردود الفعل يدخل الجميع في دوامة لاتنتهي ولا تليق بالمسئولية الملقاة علي عاتق المؤسسات الدينية، حيث قضي زكريا بطرس سنوات حياته الأولي كرجل دين مسيحي عادي يجنح إلي بعض التطرف أثناء أدائه الخدمة في بعض كنائس محافظة الغربية والمنوفية ثم انتقل إلي إحدي كنائس مصر الجديدة ليشهد نوعا من الذيوع والانتشار عززته أساطير عن ميله لتبشير المسلمين تزامنت مع رواية ظل يرويها عن حادث قتل تعرض له شقيقه في أربعينيات القرن الماضي علي يد من أسماهم بالمتطرفين المسلمين، كان عام 1993 هو العام الفاصل في حياة زكريا بطرس بعد أن ذاعت شرائط كاسيت لسيدة تدعي ناهد متولي تم تقديمها علي أنها مسلمة تنصرت علي يد زكريا بطرس وهو ما استدعي اتخاذ البابا شنودة لقرار بنقله لإحدي كنائس أستراليا أعقبه قرار آخر بنقله لإحدي كنائس إنجلترا حيث استقر وبدأ في إطلاق فضائية الحياة المسيحية التي خصصها للهجوم علي الدين الإسلامي والمقدسات الإسلامية، ومع زيادة الشكوي من تطاولات زكريا بطرس أعلن أنه قدم استقالته من خدمة الكنيسة وأن استمر في ارتداء الزي الكنسي ولم يصدر في حقه قرار بالشلح والذي يعني الطرد من خدمة الكنيسة، ومؤخرا علق قداسة البابا شنودة في حوار تليفزيوني علي قناة أوربت أذيع بمناسبة عيد الميلاد المجيد علي زكريا بطرس قائلا ما معناه: (بعض الأقباط يقولون لي محمد عمارة أيضا يهاجم المسيحيين فلماذا نشلح زكريا بطرس)؟! وبغض النظر عن تقييمنا للإجابة فهي تؤكد فكرة استخدام كلتا المؤسستين الدينيتين لبعض المحسوبين عليهما كمخلب قط يمكنه خمش وجه الطرف الآخر وقت اللزوم. وإذا كان زكريا بطرس هو (مخلب القط) الأكثر حدة وابتذالا علي جانب المؤسسة القبطية فإنه ليس الوحيد حيث شهدت السنوات الأخيرة ظهور منافس جديد له هو القمص مرقص عزيز كاهن الكنيسة المعلقة الذي تصاعد أداؤه الطائفي والهجومي حتي وصل في العام الماضي إلي مرحلة الخروج من مصر، حيث أصدر قداسة البابا شنودة قرارا بنقله للخدمة في إحدي كنائس الولاياتالمتحدةالأمريكية عقب معلومات مؤكدة قالت إن مرقص عزيز هو نفسه الأب يوتا مؤلف رواية تيس عزازيل في مكة، وهي رواية تمتلئ بالسباب والهجوم علي عقائد المسلمين وتاريخ النبوة، وقد قال مؤلفها ذو الاسم المستعار أنه ألفها ردا علي رواية عزازيل التي لم يعرف عن مؤلفها يوسف زيدان أنه أحد رجال الدين الإسلامي. علي أن الاتهامات التي حامت حول مرقص عزيز تحولت إلي حقائق بعد أن اتهمه القمص صليب متي ساويرس بأنه هو المؤلف الحقيقي للرواية البغيضة والطائفية. -- وإذا انتقلنا من المقارنة بين المؤسستين الرسميتين اللتين تتشابهان في فكرة استخدام (مخالب القط) للهجوم أو لرد الهجوم علي أصحاب الدين الآخر إذا اقتضت الحاجة سنجد أن الوضع معكوس في كل ما عدا ذلك، حيث تدل الشواهد علي تراجع تأثير الأزهر في أوساط عوام المسلمين وهي ذاتها الشواهد التي تدل علي زيادة تأثير الكنيسة في حياة عوام الأقباط، وتدل الشواهد أيضا أن الغالبية العظمي من الهجوم الديني ذو النزعة الطائفية علي المسيحيين يأتي من الجيوب الخارجة علي الأزهر مثل الدعاة السلفيين والمنتمين لجماعة الإخوان المسلمين في حين تدل ذات الشواهد علي أن خطابات المودة تجاه المسلمين تأتي من الجيوب الخارجة علي الكنيسة مثل كنيسة المقطم أو بعض الشخصيات المعارضة للبابا شنودة. -- وإذا انتقلنا من الأزهر كمؤسسة دينية رسمية للمؤسسة الدعوية بشكل عام سنجد أن المأزق الأكبر يأتي من انحسار دور الأزهر لحساب دعاة المؤسسة السلفية الوهابية التي ازداد نفوذها بفعل ثورة الاتصالات والقنوات الفضائية فضلا عن وجهة نظر تسود في بعض الدوائر الأمنية التي تري في ابتعاد السلفيين عن السياسة بمعناها المباشر وتأييد بعض فرقها للسلطة الحاكمة بصورة مبدئية وفي عدائها ومنافستها التنظيمية للإخوان المسلمين مبررا لتشجيعها وعدم الوقوف أمام نفوذها، وبسبب الطبيعة الفكرية للسلفية القائمة علي فكرة الفرقة الناجية والمغالاة في تطبيق مفهوم التوحيد ومبدأ الولاء والبراء بمعني موالاة من يحملون أفكارا مشابهة والبراءة ممن يحملون أفكارا ومذاهب وأديانا مختلفة وبسبب ظروف النشأة التاريخية للوهابية في شبه الجزيرة العربية التي لم تعرف فكرة تعدد الديانات كونها مهد الرسالة الإسلامية وبسبب مغالاة الوهابية في تكفير مخالفيها حتي من الفرق الإسلامية الأخري كالصوفية والشيعة فضلا عن المسيحيين واليهود بالطبع شكل دعاة السلفية المصدر الأكبر للخطاب الطائفي في المجتمع للدرجة التي دفعت أحد المحامين المسلمين إبان عام 2005 بالتقدم ببلاغ للنائب العام ضد الداعية السلفي الأشهر محمد حسان مرفق به خمسة شرائط كاسيت كنموذج احتوت كلها علي إساءات للعقيدة المسيحية ووصفت الإنجيل بأنه كتاب جنسي، وإذا نحينا جانبا الهجوم المباشر علي عقائد المسيحيين فإن إشاعة مناخ الفرز الديني في المجتمع علي أساس الملبس والمظهر والدعوة لموالاة المسلمين ولما يسمي برابطة الأخوة الدينية دون رابطة الأخوة في الوطنية، فضلا عن الحديث عن عداء الغرب المسيحي بالضرورة للإسلام والمسلمين هي كلها من المسببات غير المباشرة للاحتقان الطائفي والتي تشترك في نشرها التيارات الإسلامية المتطرفة، وهو ما يواجه بتطرف مقابل علي الساحة القبطية بات من غير المجدي تضييع الوقت في التفكير فيه والتساؤل عما إذا كان نوعا من الفعل أم رد الفعل، حيث تدل الشواهد أن كلا من المؤسستين الإسلامية والمسيحية لاتقومان بدورهما وتدفعان جمهورهما لمزيد من التطرف إما تعبيرا عن رغبة أصيلة من جانبه أو مجاراة لمشاعر العوام ورغبة في سد الباب علي المزايدين، ولعله قد آن الأوان لسد الباب أمام هذا التورط من رجال المؤسستين والتوقف عن نظرية (مخلب القط) المستخدم في خمش وجه الطرف الآخر عند اللزوم لأن البديل شر مستطير ونار لن تبقي ولن تذر لا هنا ولا هناك.