قرأت عشرات الكتب ومئات الأبحاث وحضرت العديد من الندوات ف محاولة لفهم اللغز الإيران.. واكتشفت أننا لا نعرف الكثير عن هذا البلد.. فإيران ليست مجرد مفاعلات نووية يجر بناؤها، مما يثير مخاوف دول الجوار والدول الت تتنافس عل قيادة العالم.. وه أيضا ليست مجرد تصريحات نارية يطلقها رئيسها أحمد نجاد فتثير العواصف حول بلاده.. وه كذلك ليست مجرد ثورة يجر تصديرها ولا مجرد مظاهرات ومواجهات عنيفة تتزايد.. باختصار إيران ليست الجنة الموعودة، كما أنها ليست الجحيم، إنها دولة كانت تواجه الضغوط الخارجية بتماسك داخل فريد.. والآن أصبحت تعان من أزمة استقرار داخل عنيفة، وبدأ العد التنازل لانهيار نظام آيات الله ف طهران مع بداية العام الجديد وفقا لبعض السيناريوهات! الأحداث تؤكد أن المعارضة الداخلية الإيرانية وجدت لتبق عل عكس ما توقعه قادة نظام آيات الله ف طهران الذين رأوا أن تلك المظاهرات ليست إلا فقاعات سرعان ما تزول.. ولكن الأحداث الت جرت بعد ذلك أثبتت خطأ تلك التوقعات لأن المعارضة الشعبية الإيرانية أكدت أنها سيل جارف ومتزايد.. وأنها تتجاوز ف ثوريتها حت قادتها سواء حسين موسو أو محمد خاتم أو مهد كروب. الأهم أن هدف المعارضين لم يعد كما كان ف يونيو الماض مجرد تعديل نتائج الانتخابات للإطاحة بأحمد نجاد وتنصيب موسو رئيسا للدولة بدلا منه، بل أصبح هدف المعارضة الإيرانية الآن الإطاحة بخامنئ نفسه ليس فقط كمرشد أعل للثورة، بل أيضا كول فقيه يأمر فيطاع، والدليل عل ذلك أن شعار الله أكبر ..الموت للديكتاتور، كان يقصد به ف يونيو الماض أحمد نجاد، وف مظاهرات الأيام القليلة الماضية ردده المتظاهرون ف ميادين فانال ومحسن وانقلاب وتجريش بالعاصمة طهران وف مدن قم وتبريز وأصفهان وغيرها من المدن الإيرانية، أصبح يقصد به خامنئ نفسه! وجاء العنف المبالغ فيه الذ مارسه النظام الإيران تجاه هذه المظاهرات معبرا عن القلق الذ يشعر به نظام آيات الله من احتمال تحول حركة المعارضة الشعبية الراهنة إل كرة ثلج متدحرجة قد تجرف ف طريقها ف النهاية كل قادة ورموز السلطة الإيرانية الحالية، وهو ما نفاه أحمد نجاد نفسه قائلا: إن أعداء إيران عاجزون عن الإضرار بها من الداخل.. لقد خططوا لسيناريو واسع ومعقد، لكنهم لا يعلمون أن الأمة المستعدة للتضحية بالنفس فداء لشخصياتها الدينية ستدمر كل محاولاتهم الشيطانية. هكذا عبرت تصريحات أحمد نجاد عن قلق قادة نظام آيات الله أكثر مما عكست ارتياحهم لتماسك الجبهة الداخلية، ويلاحظ هنا أن المتظاهرين الإيرانيين اقتربوا بحذر شديد من المساس بالرموز الدينية، وكانت مطالبتهم بتغيير المرشد الأعل خجولة، ويرجع ذلك إل أن كل قادة المعارضة الإيرانية من مؤسس النظام القائم سواء محمد خاتم أو حسين موسو أو مهد كروب أو هاشم رافسنجان إذا حسبناه من المعارضة، أو الراحل منذ أسابيع آية الله حسين منتظر، وكان الأخير يفخر بأنه منظر مقولة ولاية الفقيه وكتابه ف هذا الموضوع مازال من أهم المراجع، ولكن إبعاده عن منصب المرشد الأعل واختيار خامنئ بدلا منه جعله ف المعارضة، فكان من قادتها بسبب مكانته الدينية وليس بسبب أطروحاته الإصلاحية. وهكذا يمكن تفسير ما يحدث ف إيران عل أنه بدأ بانقسام ف السلطة انتقل إل الشارع فتحول إل مظاهرات ومصادمات دامية متزايدة، ومشكلة المعارضة التي تتظاهر ف الشوارع أنها مازالت بدون برنامج يوحدها ف مواجهة نظام آيات الله الذ أصبح معزولا عن شعبه تماما مثل شاه إيران ف أيامه الأخيرة، المشكلة أن المعارضة الإيرانية اليوم ليست إلا خليطا من الرافضين لنظام آيات الله، منهم رجال دين مؤمنون بولاية الفقيه أبعدوا عن مراكز القرار فتحولوا إل المعارضة، ومنهم الملحدون والملكيون ومنهم عناصر من مجاهد خلق أو القوميون الآريون المرتبطون بالخارج، ومنهم السنة الإيرانيون المضطهدون وبعض تجار البازار المتضررين من الأوضاع القائمة، وعبر عن هذا الخليط شعارات متباينة رفعها المتظاهرون ف الشوارع الإيرانية الأيام الماضية منها لا دين مع السياسة، نحن آريون، لا غزة ولا لبنان أهب روح لإيران، الله أكبر.. الموت للديكتاتور، وهكذا تتعدد الهتافات والشعارات بتعدد توجهات المتظاهرين الذين لا يجمعهم برنامج واحد يعبر عنه زعيم واحد، وكان ف الماض هو الخومين ولا يجسده اليوم لا موسو ولا كروب، وهذا لا يعن الاستخفاف بهذه المظاهرات لأنها تعبر عن حدوث انقسام داخل نظام آيات الله ف طهران، وهو انقسام قد يبدو بسيطا ف هذه المرحلة، لكنه قد يتطور إل ما هو أخطر، ويؤكد هذه الخطورة جرأة الشباب الذ يقود المعارضة ف الشارع وه الت تذكرنا بجرأة شباب الثورة الخومينية عام ,1979 وهو ما شجع بعض المحللين إل القول أن قيادة الأحداث تنتقل تدريجيا إل الشارع الإيران الذ يفتقر إل قيادة موحدة مماثلة لقيادة الخومين ف نهاية السبعينيات. أغرب ما ف هذا الأمر أن الخوف من الاضطرابات الداخلية كان دائما الدافع الأهم لتشدد آيات الله ف طهران.. فوجود خطر خارج يحيط بالجمهورية الإسلامية.. وتضخيم هذا الخطر هو ما يدعم تماسك الجبهة الداخلية ف تصور تلاميذ الخومين.. لذلك احترفوا سياسات حافة الهاوية وتصدير الثورة.. وحولوا مشروعهم النوو إل حلم شعب.. ولكنله أد إل أزمة اقتصادية يعان منها المواطن العاد الذ خرج ف المظاهرات الأيام الماضية ضد الرئيس أحمد نجاد وآيات الله الذين يدعمونه، ومن المتوقع أن يزداد الأمر تعقيدا إذا ما فرضت عقوبات دولية إضافية عل إيران، وهو أمر متوقع أن يحدث ف نهاية الشهر الحال.. وصنع آيات الله ف طهران حلم الإمبراطورية الفارسية وسعوا إل تنفيذه ووزعوا مبالغ طائلة من أموال الشعب الإيران عل قادة حماس ف فلسطين وقادة حزب الله ف لبنان والحوثيين ف اليمن.. واستخدم قادة طهران أموال الشعب الإيران ف لعب أدوار غامضة ف العراق والسودان وأفغانستان وغيرها. ويبدو أن الأزمة الداخلية الإيرانية لن تجد طريقها إل الحل لأسباب متعددة، منها استعلاء نظام آيات الله عل التعامل الموضوع مع أسباب الأزمة بعقلانية، واعتبار أن الشباب المتظاهرين أقلية معزولة خدعتها أبواق الدعاية المسمومة، ووقعت ف حبائل المستكبرين والمنافقين.. وأن الشعارات تحركهم مستخدمة سلاح الإنترنت.. وأن العاصفة الت يتسل بها الغرب أو يراهن عليها ليست إلا زوبعة ف فنجان.. والحقيقة أن المسألة أبعد من ذلك وأعمق، ويزيد من تعقيد الأزمة اكتفاء نظام آيات الله بدفع أجهزة الأمن للتعامل مع المعارضة الشعبية بعنف مبالغ فيه وهو ما يعقد الأمور ولا يحلها.. وقد أد هذا العنف حت الآن إل قتل 15 شخصا وإصابة المئات واعتقال نحو 20 شخصية معارضة منهم إبراهيم يزد - وزير الخارجية الأسبق ورئيس حركة تحرير إيران - وعل رضا بهتش.. وقربان بهزانيان نجاد.. ومحمد باقريان وهم مستشارون للمرشح الإصلاح عل مير موسو.. كما اعتقل مدير مؤسسة باران التابعة للرئيس محمد خاتم مع مساعده.. ومنذ أيام وف حوار مع مجلة دير شبيجل الألمانية حذر عل منتظر - نجل رجل الدين الإيران حسين عل منتظر - من عواقب كارثية عل بلاده ف حالة اعتقال موسو أو اختفائه. الأخطر من كل هذا أن أهم أسباب الأزمة الداخلية يكمن ف الأساس الذ بن عليه نظام الحكم ف إيران - وهو أمر يصعب التعامل معه - فمثلا التجربة الديمقراطية الإيرانية أثبتت أن المعارضة تستطيع أن تفوز ف انتخابات رئاسية وبرلمانية كما حدث مع محمد خاتم، وينته الأمر بهذه المعارضة أن تتول السلطة، لكنها تكتشف أنها لا تملك شيئا لأن سلطاتها مصادرة سلفا.. وبرامجها الإصلاحية تموت بفعل سيطرة نظام ولاية الفقيه عل الشئون الدينية.. وللأمانة حاول النظام الإيران ف نهاية التسعينيات من القرن الماض حل هذه المعضلة الديمقراطية من خلال نقل السلطات السياسية تدريجيا إل الهيئات المنتخبة شعبيا مع الإبقاء عل سلطة الفقهاء، لكن ف الشئون الدينية فقط.. ولكن جاء الغزو الأمريك للعراق وتوقف كل شء واتجه النظام الإسلام ف طهران إل الحفاظ عل بقائه وإلغاء أ تحرك ف اتجاه الإصلاحات الديمقراطية، وبدأ صعود سلطات الحرس الثور الأيديولوج والأجهزة الأمنية الملتصقة به عل حساب مؤسسات الدولة الأخر، بما ف ذلك مؤسسة ولاية الفقيه.. وهكذا بدأت الديمقراطية الإيرانية ف النزيف بلا علاج، وهو ما قد يؤد ف هذا العام إل كارثة يصعب علاجها سلما. ويحل هذه الأيام عام جديد عل إيران، وه أكثر ضعفا وتمزقاً ف الداخل، بالإضافة إل تزايد التهديدات الخارجية الت تحيط بها من الخارج.. فمع يناير الحال تنته المهلة الزمنية الت حددها كل من الرئيسين ساركوز وأوباما لطهران من أجل الرد عل عرض الحوار مع القو الكبر حول ملفها النوو.. الرئيس الإيران أحمد نجاد استبق الموعد المحدد ورفض فكرة المهلة الزمنية وسخر من السياسة الأمريكيةوالغربية تجاه بلاده قائلا: حت لو غضبتم لن تجر إيران محادثات معكم بشأن المسألة النووية.. ولكنه من ناحية أخر أعلن قبول بلاده بتركيا بدلا من روسيا كموقع لمبادلة المواد النووية الإيرانية بأخر منزوعة القدرة عل صنع سلاح نوو.. وهو ما يناقض تصريحا أدل به نجاد ف الثان من ديسمبر الماض قال فيه:إن إيران تقترب مع الوقت من المستو المطلوب لصناعة الأسلحة النووية.. الأهم أن العام الجديد يبدأ حاملا معه نذر فرض عقوبات اقتصادية جديدة ومشددة عل إيران وهو ما سوف يؤد إل تفاقم أزمتها الاقتصادية بعد فرض حظر عل مبيعاتها البترولية الت تعد من أهم مصادر الدخل للبلاد مع مقاطعة الشركات التابعة للحرس الثور ومحاصرة الشركات الخاصة والاستثمارية والمتعاملين معها وتهديدهم بتعرضهم لمقاطعة أمريكية لو واصلوا تعاملهم السر مع إيران... هذه الخطة الأمريكية تبدو وكأنها عقوبات اقتصادية إلا أنها ف الحقيقة تعن عقوبات أمنية وتدخلا ف العلاقات بين النظام الإيران ومعارضيه ف الداخل، فالمعروف أن الحرس الثور الإيران يهيمن عل جميع شركات الاتصال والبث الفضائ والمعلومات، وهذا الوضع يتيح للحرس الثور قمع ومراقبة ومحاولة إخراس المعارضة الإيرانية، وإذا فقد الحرس الثور هذا التحكم قلت قدرته عل مواجهة المعارضة الداخلية المتزايدة وإصرار الإدارة الأمريكية عل فرض عقوبات اقتصادية عل إيران بهذا الشكل يشير إل أن دوائر صنع القرار الأمريكية أصبحت أكثر اقتناعا بقدرة المعارضة الشعبية عل تغيير الأوضاع ف إيران.. ومن هنا تأت فكرة العقوبات الاقتصادية المشددة عل إيران لتتوافق مع سياسة الرئيس أوباما الذ يعلن دائما أنه يحاول البعد عن الحلول العسكرية لمعالجة الأزمات ولكنها أيضا لا تتعارض مع الخيار العسكر الذ لم يتم استبعاده تماما من الحسابات الأمريكية والإسرائيلية، والدليل عل ذلك أن الدوائر العسكرية ف واشنطن كانت قد أعلنت عن تعزيز الدفاعات الأمريكية بأسلحة اعتراضية لديها القدرة عل إسقاط الصواريخ الإيرانية ونشر هذه التعزيزات ف ألاسكا وه أقرب نقطة أمريكية لإيران وف القواعد البحرية الأمريكية شرق المتوسط.. والأهم من ذلك أن السياسات الغربية الت تقودها واشنطن لحصار إيران نجحت ف إحداث تحول حاد ف علاقات روسيا الداعمة لطهران.. وهو ما أد إل تأخير إنهاء وتشغيل مفاعل بوشهر النوو وكان من المفترض أن يتم ذلك قبل نهاية العام الماض ولكنه تأجل إل العام الجديد.. بالإضافة إل تغيير موقف موسكو من مسألة العقوبات الدولية عل إيران من الرفض التام إل قبول الأمر، بل وتأييده إل جانب عدم حصول إيران عل صفقة منظومة الصواريخ S-300 وهو ما يعتبر ضربة عسكرية لجهود إيران الرامية إل بناء شبكة دفاعية لحماية مواقعها الحيوية.. وصاحب التحول الروس تغيير كبير ف مواقف الصين من إيران الت كانت تعتمد إل حد كبير عل دعم موسكو وبكين.. ولكن هذا الدعم يتراجع الآن. وف إسرائيل أعلن نتانياهو عن رغبته ف تشكيل ائتلاف حكوم موسع ينضم إليه حزب كاديما - أكبر الأحزاب الإسرائيلية - ومعروف أن إسرائيل لا تلجأ إل تشكيل الحكومات الائتلافية الموسعة إلا عندما تستعد لعمل كبير.. وقد يكون هذا العمل فرض أمرا واقعا يمس المستوطنات أو القدس أو شن هجوم عسكر عل إيران أو أحد توابعها. أو التوصل إل اتفاق سلام.. أو أن الأمر يتعلق بإيران. وهنا نذكر التصريحات الت أدل بها نائب وزير الخارجية الإسرائيل لصحيفة هاآرتس - الأسبوع الماض - دان أيالون وجاء فيها ليس أكيدا أن النظام الإيران سيكون موجودا بعد عام. ومعروف أن إسرائيل تتمن أن تتاح لها الفرصة لضرب إيران.. وعموما هناك سيناريوهات عسكرية ف هذا المجال تشير إل ترجيح أن تعط واشنطن موافقتها لإسرائيل عل ضرب إيران قبل انسحاب القوات الأمريكية تماما من العراق ف 31 أغسطس القادم حت تقطع الطريق أمام إيران وحلفائها بالمنطقة من الدخول العسكر وسد الفراغ الذ سينشأ بعد خروج قواتها من العراق.. وهكذا يبدأ العد التنازل لضرب إيران وقلب نظام حكمها من الداخل مع بداية العام الجديد.. ولكن ساعة التنفيذ ف يد النظام الإيران ويمكنه إيقافها لو نجح ف تلاف التهديدات الخارجية ونجح ف استيعاب المعارضة ف الداخل. الغريب أن متابعة سلوك قادة نظام آيات الله ف طهران تشير إل تصعيد المواجهة مع المعارضة الشعبية ف الداخل.. مع ممارسة سياسات استفزازية ف مواجهة دوائر الخطر الت تحيط بإيران من الخارج.. ثم تتراجع سريعا عن هذا الاستفزاز.. فمثلا أعلنت العراق أن القوات الإيرانية احتلت حقل فكة رقم 4 بالقرب من مدينة العمارة.. وهذا الحقل يمثل جزءا من ثلاثة حقول يقدر مخزونها ب 5,1 مليار برميل.. وهو ما نفته بعض الدوائر الإيرانية.. أنها أعلنت إيران عن بناء عشر محطات لتخصيب اليورانيوم ثم أعلن أحد العلماء الإيرانيين أن الأمر كله لايعدو مجرد تهديد.. وكشفت إيران عن منشأة نووية سرية لأول مرة، مما أثار ضجة وسخطا دوليين واتضح بعد التفتيش عليها بمعرفة خبراء الوكالة الدولية للطاقة أنها تعمل ف إطار نشاطات سلمية وغير مقلقة. الغريب أنه برغم أن تحديد ساعة انهيار نظام آيات الله ف طهران أصبحت مرهونة بسلوك قادة هذا النظام.. إلا أنهم يتحركون ف اتجاه تسريع حدوث هذا الانهيار وليس وقفه.