الحديث عن الفراعنة يرتبط فى أذهاننا بالأهرام، والمعابد الفخيمة التى شيدوها لآلهتهم بمقابرهم وتوابيتهم المذهبة والمومياوات التى حفظت ملامحها لأكثر من 7 آلاف عام؛ وربما لم يستوعب منظورنا الضيق - نحن الأحفاد - أهمية الحيوانات عند أسلافنا القدماء؛ لم ندرك ذلك البعد الإنسانى والحضارى بالغ الرقى عند الفراعنة الذى رفع بعض الحيوانات إلى مرتبة التقديس فى مصر القديمة؛ وجعل قدماء المصريين أحرص الشعوب على اقتناء الحيوانات الأليفة وتربيتها وتدليلها والارتباط بها إلى حد تحنيطها ودفنها فى طقوس لاتقل أهمية أو قداسة عن طقوس دفن أصحابها! مجلة ناشيونال جيوجرافيك جعلت مومياوات الحيوانات المصرية عنواناً لغلاف عددها الأخير الذى خصصت فيه 22 صفحة للحديث عن حيوانات الفراعنة الأليفة ورحلتها للخلود منذ أكثر من 07 قرناً من الزمان! تصدمنا المجلة الأمريكية فى بداية تغطيتها بواقعة تعود إلى عام 1888 بطلها فلاح كان يقوم بالحفر وتقليب الأرض فى قرية بالقرب من منطقة إسطبل عنتر عندما اكتشف جبانة لمومياوات غير بشرية، فالجثث كانت لقطط محنطة ومدفونة فى حفر بأعداد مهولة ليست واحدة أو اثنتين هنا وهناك، ولكن عشرات، مئات، بل مئات الآلاف، طبقة كاملة منها كما تقول ناشيونال جيوجرافيك نقلاً عن مجلة إنجليش اللاستريتيد ،الطبقة كانت أكثر سمكاً مما تبدو عليه عروق الفحم، وتمتد لعمق 10 أو 20 قطة، وبعض من هذه القطط المتراصة الملفوفة بالكتان، كانت تبدو بحالة جيدة وقليل منها كانت أوجهها مطلية بالذهب؛ وقد قام أطفال القرية آنذاك بمقايضة هذه القطط الثمينة مع السواح، فيما جرى بيع الكميات الباقية بالجملة كسماد، إحدى السفن حملت منها نحو 180 ألف قطعة، ما يزن حوالى 38 ألف رطل جرى شحنها إلى ليفربول ليتم فردها وتسميد حقول إنجلترا بها!!! تلك كانت الأيام السعيدة للبعثات الكشفية الثرية التى انتشرت فى الصحراء بحثاً عن المقابر الملكية وما تحويه من ذهب وتوابيت وأقنعة مذهبة ازدانت بها ضياع ومتاحف أوروبا وأمريكا، أما الآلاف المؤلفة من الحيوانات المحنطة المكتشفة فى المواقع المقدسة فى ربوع مصر فلم تكن أكثر من مخلفات ينبغى إزاحتها للحصول على الأشياء المفيدة المهمة، فالقليلون هم من اهتموا بدراستها، وبشكل عام لم تدرك أهميتها! أما اليوم فإن الدراسة والتنقيب عن الآثار أصبح علماً وليس عملية بحث عن الغنائم؛ وهو ماتشير إليه ناشيونال جيوجرافيك فى تناولها لحيوانات قدماء المصريين الأليفة، حيث اهتمت المجلة بإبراز دور د. سليمة إكرام أستاذ علم الحيوان الأثرى التى جعلت مجموعة مقتنيات المتحف المصرى من مومياوات الحيوانات محور مشروعها البحثى، واستطاعت د. إكرام إنشاء معرض للمجموعة بعد تحديد أبعاد القطع واكتشاف حوايا اللفائف الكتانية باستخدام أشعة x، وهو المشروع الذى يمكن اعتباره جسراً بين الناس اليوم وأولئك الذين كانوا منذ عصور سحيقة، وهو ما نقلته المجلة الأمريكية عن د. سليمة إكرام بقولها إنك ترى هذه الحيوانات فتقول فجأة، ياه إن الملك فلان وفلان كان لديهم حيوان أليف، وأنا أيضاً لدى حيوان أليف، وعليه فبدلاً من أن نكون على بعد 5 آلاف أو أكثر من قدماء المصريين، فإنهم يصبحون أناساً عاديين قريبين منا!؛ والآن فقد أصبحت مومياوات الحيوانات واحدة من أهم وأشهر المعروضات بالمتحف الملىء بالكنوز وخلف صناديق العرض الزجاجية يصطف الزائرون لمشاهدة القطط والغزلان والآيائل والتماسيح وطيور أبوقردان والجعارين المحنطة. أغلب هذه المعروضات تخص قدماء المصريين الذين حرصوا على اصطحاب حيواناتهم الأليفة معهم إلى العالم الآخر، وبعض ممن كان ميسور الحال منهم شيد مقابر غاية فى الثراء والفخامة لحيواناته، فكما اقتضت العقيدة فإن كل ما يصطحبه المتوفى إلى مقبرته يعود للحياة معه مجدداً بعد البعث، فمنذ عصر الأسرة الأولى حرص ملوكها على دفن الكلاب والأسود والحمير معهم فى جباناتهم فى أبيدوس؛ وبعد ذلك بنحو 2500 عام وفى عهد الأسرة الثلاثين فإن أحد العامة واسمه حابى من دفن مصطحباً كلبه الصغير راقداً عند قدميه؛ أما بقية المومياوات فقد كانت أجزاء من الحيوانات لاستخدام الميت كأفضل قطعيات لحم العجل، صدور البط والأوز والحمام المملح والمجفف والملفوفة كلها فى الكتان. هذه المحنطات التى تعد زاد المصرى القديم بعد الخلد لم تكن بالضرورة من بين مشتملات حياته التى يحصل عليها بانتظام إذ أن أكثر ما يهمه هو الحصول عليها بعد الموت؛ وفى نفس هذا السياق فإن هناك قائمة من الحيوانات كان يجري تحنيطها وإلحاقها بمقابر الموتى لقدسية هذه الحيوانات فى حياة المصريين؛ ولعل مدينة ممفيس التى كانت عاصمة مصر القديمة فى معظم فترات تاريخها والتى سكنها 250 ألف نسمة فى أوسع نطاقاتها هى خير دليل على ذلك، فممفيس كان دار تحنيط وعبادة عجل آبيس المقدس فى مصر القديمة كلها؛ فقد كان هذا العجل مرتبطاً بكل ملك قوى يحكم البلاد؛ وقد اختير عجل آبيس تحديداً بناء على عدة سمات ينبغى توافرها فى هذا الحيوان لتقديسه، وهى علامة المثلث الأبيض على مقدمة رأسه؛ ووجود شكل يشبه الجناح الأبيض عند الكتفين والقائم الأمامى، وأن يبدو على لسانه رسم أشبه بالسلويت لشكل الجعران، وأن ينتهى ذيله بذنب مزدوج.. فإذا ظهرت هذه العلامات على العجل يعامل باعتباره نصف إله ونصف حيوان ويوضع فى محراب خاص به طوال فترة حياته، ويتقرب إليه الكهنة ويزينونه بالذهب والجواهر ويعبده العامة؛ وعند نفوقه يعتقد أن روحه تحل فى عجل آخر؛ ومن ثم يجرى البحث عنه بشرط أن يحمل نفس السمات السابق ذكرها؛ وتنقل جثة النافق لتسجى على سرير فاخر بالمعبد لتبدأ عملية التحنيط التى تستغرق فى مجملها 70 يوماً؛ منها 40 يوماً لتحلل أجزاء اللحم؛ و 30 للف الجسد؛ وفى يوم دفن العجل يصطف الناس فى الشوارع لمشاهدة هذا اليوم الذى يعد حداداً قومياً. ولعله من المؤسف أن اللصوص لم يتركوا عجل آبيس واحد على حاله؛ فنظراً لقدسية هذا العجل واحتواء لفائفه على الثمين من الجواهر فإنه كان أول ما ينتبه له لصوص المقابر الفرعونية منذ زمن؛ وقد عبدت الثيران بخلاف عجل آبيس فى عدة مدن مصرية منها أرمنت و هليوبوليس؛ و»الأسماك فى إسنا؛ و الآيائل فى فيلة، والتماسيح فى كوم أمبو؛ فقد نشأت فكرة تقديس الحيوانات مع فجر الحضارة المصرية عندما كانت الأقطار أكثر غزارة وكانت مصر مليئة بالغابات والخضرة التى بدورها حوت أشكالاً من الحيوات الحيوانية أكثر تنوعاً وتوحشاً مما حدا بالمصرى القديم إلى تقديس صفاتها إعجاباً بها واتقاءً لشرها! بالنسبة لمومياوات اسطبل عنتر العديدة فإنها كانت حيوانات قربانية يجرى عرضها وتقديمها إبان المهرجانات والاحتفالات الموسمية فى مصر القديمة، حيث تحتشد الجموع على امتداد وادى النيل ويفد الحجاج بالآلاف ويخيمون ليتم عزف الموسيقى ويبدأ الإنشاد الطقسى المرتبط بالمناسبة؛ وينشط التجار لبيع الأطعمة والشراب والتذكارات؛ وفى تلك الاحتفالات يتحول الكهنة إلى مندوبى مبيعات يعرضون المومياوات الملفقة، ويعدون أخرى أكثر تميزاً وبمواصفات خاصة لمن يدفع أكثر؛ وفى النهاية فإن أولئك الحجاج المؤمنين ينهون رحلتهم بالتبرع بمومياواتهم المفضلة التى اختاروها بأنفسهم إلى المعبد مصحوبة بصلواتهم ودعائهم! الناشيونال جيوجرافيك اهتمت كذلك برصد محاولة د. سليمة إكرام لتحنيط بعض الحيوانات مستلهمة أسلوب الفراعنة فى استخدام ملح النطرون على الأرانب وهو ما أدى إلى تحللها سريعاً حيث لم تتحمل شدة كيميائية الملح الذى يمتص الماء والدهون من الأجسام بصورة شرهة؛ فيما فكر د. بيتر كوتونتيل فى استخدام زيت الترابنتينة مع زيت خشب الأرز قبل ملء الحوايا بالنطرون، وهو ما أثبت فعاليته ومنح جثث الحيوانات فترة عمرية أطول؛ والجدير بالذكر أنها نفس الطريقة التى أشار إليها المؤرخ الإغريقى هيرودوت فى كتاباته! مع بداية عصر الأسرة 26 أصبحت المومياوات القربانية شيئاً مألوفاً؛ حيث تخلص المصريون لتوهم من الحكام الأجانب واستقرت لهم الأمور ليعيدوا ممارساتهم العقائدية بشكل طبيعى ودون تحفظ؛ فانتشرت تلك المومياوات التى تعبر عن الآلهة التى يقدسونها وعاد المصرى القديم يهبها للمعبد؛ فجرى الاهتمام بالحيوان على نحو موسع؛ وعنى به المصريون كثيراً وبتغذيته وتربيته ورعايته وتدليله، واستورد المصرى القديم من أجل حيواناته العطور والبخور وأفخر الأقمشة والمنسوجات المعروفة آنذاك، مما أدى إلى ازدهار عملية تحنيط الحيوان وتخصيص مقابر بعينها لمومياواته إلا أنه وكما يتسرب الفساد لأى مؤسسة فى عصرنا الحالى فقد ظهرت فى عصور لاحقة عمليات تزييف المومياوات الحيوانية؛ حتى تكررت ظاهرة شراء المصريين للفائف فارغة من الكتان لا تحوى أكثر من حفنة طين كما تبين فيما بعد دفعوا فيها مبالغ طائلة لإهدائها للمعبد والآلهة على اعتبار أنها مومياوات حيوانية مقدسة!