أربعون عاما مضت ولايزال السؤال معلقا «من الذى حرق الأوبرا؟» أربعون عاما لم تفلح فى إخفاء معالم الجريمة ولم يطو النسيان آثارها، فالتقادم حجة لا تستقيم مع جرائم حرق معالم الأوطان وتجريف العقول والنفوس. ها هو كمال عبدالعزيز الذى كان طفلا صغيرا تجاوز بالكاد العاشرة من عمره وقت احتراق الأوبرا فى العام1971 يصنع فيلما يصر على عنونته ب «حرق الأوبرا» لا «حريق الأوبرا» وكأنه باختياره لهذا العنوان يشير إلى أن الحريق قد تم عمدا، لا كما حاول المجرمون والمتواطئون أن يظهروه كحادث قدرى عارض. لكن قبل الدخول فى قراءة فيلم كمال عبدالعزيز لابد لنا من التذكير بمجموعة حقائق ستفيدنا بلا شك فى فهم مغزى اختياره لكلمة «حرق» بدلا عن «حريق» عنوانا لفيلمه. فى العام 1970 وبالتحديد فى الثامن والعشرين من سبتمبر مات جمال عبدالناصر، وتولى أنور السادات الحكم، وسريعا ما بدأت ملامح الردة على مشروع ناصر النهضوى تتشكل، وكان من أوليات هذه الملامح احتراق الأوبرا المصرية فى ليلة رمضانية من عام 1971 وغياب التحقيق الجاد فى أسباب الحريق، بل ووصل الأمر أن أصر النظام الساداتى على إنشاء جراج للسيارات مكان الأوبرا رغم اعتراض مثقفى وفنانى مصر والعالم. إلا أن الأصرار على الاختيار كان عنوانا لبداية مرحلة جديدة شعارها الأساسى هدم الثوابت الوطنية وخصخصة القطاع العام والتصالح مع عدو كان -ولايزال- يرى أن أخطر ما يهدده هو محاولات النهوض التى نجح فى تأسيس بداياتها جمال عبدالناصر. سريعا ما انتهى التحقيق إلى النهاية المعروفة «ماس كهربائى عرضى أدى إلى نشوب حريق»!! وظن الفاعلون أن الأمر قد مر.. إلا أن كمال عبدالعزيز يعيد فتح الملف فى فيلم سينمائى هو أقرب إلى التحقيق، تنتهى بعد مشاهدته إلى نتيجة مفادها أن الحريق كان متعمدا وبسبق إصرار وترصد أو حسب تعبير أحد شهود الواقعة وأحد شهود كمال عبدالعزيز فى فيلمه: «كان الحريق سياسيا». يصر كمال عبدالعزيز أن يبدأ فيلمه بجملة للفيلسوف الرومانى «سيسرو» تتشكل أمام عينيك على الشاشة: (أن تكون جاهلا بما حدث قبل أن تولد يعنى أن تظل طفلا إلى الأبد وكأنه يقول لنا: «لقد كنت طفلا حين احترقت الأوبرا، لكننى أرفض أن أظل طفلا للأبد.. وها أنا بعد أن تخطيت الخمسين من عمرى أجتهد فى معرفة حقيقة ذلك الذى حدث حين كنت طفلا». هذه الجملة التى تأتى على خلفية حريق مصنوع، تمهد لبناء سينمائى أقرب إلى التحقيق البوليسى، ولكن دون أن ينسى مخرجه أن موضوع تحقيقه هو دار للفنون المرئية والمسموعة، فيختار له شكل الحركات الموسيقية المتدرجة من هادىء ناعم إلى متوتر متخم بالمفاجآت المروعة وصولا إلى هدوء آخر مفعم بخليط من حزن وغضب. على امتداد هذه الحركات الثلاث، وبوعى من يعرف هدفه، يوزع كمال عبدالعزيز لقاءات شهوده الذين تنوعوا ما بين فنانين شاركوا فى أعمال على مسرح الأوبرا وفنيين ساهموا فى تنفيذ هذه الأعمال، كل منهم يشهد بما رآه قبل وبعد الحريق وبما يظنه عن الأسباب الحقيقية للحريق. * حركة أولى تبدأ الحركة الأولى فى سيمفونية «حرق الأوبرا» فور انتهاء كتابة جملة «سيسرو»، حيث تتلاحق صور فوتوغرافية بالأبيض والأسود على خلفية موسيقى ناعمة متأسية على الزمن الذى كان. تبدأ الصور بلقطات لدار الأوبرا (من الخارج والداخل) تبرز معمارها الفريد من ناحية، وعلاقتها بالفراغ المحيط بها من ناحية أخرى (حديقة الأزبكية على يمينها وتمثال إبراهيم باشا أمامها.. وتصيغ منهما الإضاءة ليلا مشهدا جذابا هو وحده تحفة فنية)، وتتوالى الصور تنعيها الموسيقى لنصل إلى إعلان مكتوب بلغة عربية ركيكة عن العرض الأول لأوبرا عايدة، تلك الأوبرا التى كان يفترض أن تفتتح الدار المصرية لولا تأجيلها لأسباب فنية واستبدالها بأوبرا أخرى، الإعلان يقول بالنص: «عايدة... هى قطعة تياترية من نوع الألعاب المعروفة باسم الأوبيرة، أى التصوير لحادثة تاريخية شهيرة تشتمل على مناظر معجبة ومراقص مستغربة يتخللها أغان موسيقية مطربة متوزعة على ثلاثة فصول وسبعة مناظر).. غرابة الإعلان تزداد حين يصل إلى اسم المؤلف واسم المخرج، حيث يصف الأول ب «المعلم: غيرلسونى» ويصف الثانى ب «الأوست: ويردى». تتوالى الإعلانات عن أوبرات عدة ومسرحيات وحفلات موسيقية، ومعها تزداد الجملة الموسيقية إيغالا فى الشجن تأكيدا لشعور أثارته فيك تلك الصور. ثم تبدأ الشخصيات الشهود فى الظهور واحدة تلو الأخرى، كل منها يؤكد إحساسك بمعلومة عن الأوبرا وأهميتها وجلالها. مع الظهور الأول للشخصية الحية الأولى فى الفيلم ستكتشف أن كمال عبدالعزيز «وهو فى الأصل مدير تصوير شارك أفضل مخرجى مصر فى صنع أفلام حفرت على خارطة السينما المصرية» يتعمد أن يصنع بينك وبين الشخصية المتحدثة علاقة من الحميمية والدفء، عبر اختياره لزاوية تصوير تجعل الشخص فى جانب الكادر بينما بقية الكادر مفتوحا على خلفية المكان الذى يحدثك منه «مكتب، أو صالون منزل، أو محل تجارى» وهو أسلوب لن يتغير طوال الفيلم مهما تغيرت الشخصيات ومهما تغيرت زاوية الرؤية «يمين أو يسار»، ومع قطعات مونتاجية حذرة ومحسوبة بعناية شديدة بين اللقاء الحى، والوثائق «أغلبها صور نادرة» ينجح كمال عبدالعزيز فى خلق إيقاع هادىء متناغم يتسق والحديث ذى الشجون الذى يتوالى عبر الشخصيات عن أهمية الأوبرا ولماذا الأوبرا، وما كانت تمثله هذه الدار سواء للمتحدث أو للمجتمع بأسره. فى هذه الحركة «الأولى».. سترى المايسترو مصطفى ناجى يتحدث عن كيف كان لهذه الدار «رائحة خاصة» مازال عبيرها فى وجدانه للآن، وستصفها ماجدة صالح - راقصة الباليه الأولى آنذاك - ب «اللؤلؤة» بينما يصفها المايسترو طه ناجى ب«تحفة من أرقى تحف العالم»، فى حين يفند حسن كامى زعم أن الخديوى إسماعيل أهدر الأموال فى بناء دار الأوبرا، موضحا أهميتها فى تشكيل صورة حضارية لمصر أمام عيون العالم. الشهود تتوالى «رتيبة الحفنى، وفيوليت مقار، وألدو مونياتو عازف إيطالى ومدير الكورال آنذاك» بل وعمال كهرباء ونجارة.. الشهادات مع الصور وبإيقاع هادىء يرسمون حركة أولى فى سيمفونية ستستمر لأربعين دقيقة. * توتر وأنفعال تبدأ الحركة الثانية فى سيمفونية «حرق الأوبرا» بجملة للإيطالى «ألدو مونياتو» يقول فيها: « أنا كنت با أروح الأوبرا مش بس عشان اشتغل... عشان ارتاح» وكأنها المفتاح الذى سينقل إيقاع العمل لذروة جديدة تتميز بالتوتر واكتشاف لمدى فداحة المأساة، الجملة يقولها الإيطالى المصرى بحزن وهو يتكئ على البيانو الذى ما عاد يستطيع العزف عليه بمهارة الماضى. من هذه الجملة يعود كمال عبدالعزيز إلى آخر مشهد للأوبرا قبل أن تحترق.. المبنى من الخارج يرفرف عليه العلم الأخضر والحديقة تروى فى الصباح برذاذ ماء «من أين حصل كمال على هذا المشهد الوثيقة؟» بعدها ستتوالى المشاهد والشهادات. المبنى يحترق بينما صوت رتيبة الحفنى يأتى من خارج الكادر: «للأسف احنا مش بنحافظ على التراث بتاعنا».. الحريق يتصاعد فى مشاهد حية ستراها للمرة الأولى ولن تراها مرة أخرى إلا فى هذا الفيلم فهى وثيقة نادرة لا يمتلكها إلا كمال عبدالعزيز... وسط الحريق يأتى صوت ماجدة صالح من خارج الكادر: «يوم صعب... يوم أسود... مش بس لينا إحنا الفنانين .. ولكن لمسيرة الثقافة المصرية». الشهادات تتوالى وخيوط المؤامرة تتكشف، فهاهو شحاتة أحمد «منسق المناظر» يصرخ بيقين: «المطافى هى المسئولة الأولى عن حريق الأوبرا».. وهو والجميع من بعده يؤكدون أن هناك وحدة مطافئ مكونة من عسكريين مقيمين بشكل دائم على خشبة المسرح.. فكيف نشب الحريق دون أن يكتشفوه؟.. الجميع يؤكد أن الحريق بدأ من السقف!!.. بل إن شحاتة يؤكد أن أحد العسكريين التابعين للمطافىء ذهب بنفسه إلى مركز المطافىء الكائن أمام الأوبرا يرجوهم أن يساعدوه فى إطفاء الحريق لكنهم يردون عليه ببلادة: «لم تأتنا إشارة رسمية». مشاهد الحريق الحية تتوالى، بل إنك سترى عسكريا ينزل من فوق دراجته ليعطى لزميله منديلا يربط به ثقب الخرطوم الذى يتدفق منه الماء على الأرض بدلا من أن يندفع باتجاه الحريق، مشهد ضاحك يزيد إحساسك بالمأساة حسرة وغضبا. مشاهد أخرى مضحكة لن تراها ولكنك ستسمع بها عبر أكثر من شاهد، منها مثلا أن عمال المطافىء أرادوا أن ينقذوا البيانو الأكثر ندرة فى العالم فألقوا به من نافذة الدور الثانى ليتحطم على أرضية الشارع! توتر المشاهد يزداد، ونبرات أصوات الشهود تتحشرج غضبا، لتصل الحركة الثانية إلى ذروتها حين تصل الشهادات إلى ما يشير لمؤامرة بدأت خيوطها قبل الحريق بشهور ووصلت إلى مساء اليوم السابق على الحريق، فحسب مصطفى ناجى «ليلتها كنت هناك.. كنت أستعد لحضور حفل أعلن عنه لعازف بيانو عالمى... لكنى فوجئت أن الأبواب جميعها مغلقة.. والأنوار مطفأة... وأخبرنى البواب أن الحفل تم إلغاؤه.. لكنى سألته عن الأصوات التى بالداخل فأخبرنى أنها مجرد بروفة.. فسألته أن أدخل لأحضر البروفة وكان هذا معتادا.. لكنه أخبرنى بحسم أنهم يمنعون الحضور.. حينها شعرت بأن هناك شيئا مريبا.. لكنى لم أحدد ما هو». شاهد آخر هو العازف الشهير عبدالحميد جاد يؤكد أنه «قبل الحريق بشهور.. وأثناء دخولنا إلى الأوبرا صباحا، فوجئنا بأن النجفة الضخمة التى تزين البهو ليست موجودة، فاندهشنا لأن هذه النجفة لا يمكن أن تخرج بكاملها من الباب الرئيسى، لابد أن تفكك، وهو ما يعنى أن أحدهم قد قام بتفكيكها قطعة قطعة وجمعها فى صناديق وأخرجها ليلا.. والغريب أنه لم يتم تحقيق فى سر غياب هذه النجفة». شاهد ثالث يؤكد أنه قبل الحريق بشهور سرقت النوتات الأصلية من متحف الأوبرا وهى لا تقدر بمال منها مثلا نوتة أوبرا عايدة بخط يد فيردى.. وأيضا لم يتم تحقيق!! الحركة تصل إلى ذروتها حين يجمع الشهود على بكائهم فى هذا اليوم كما لم يبكوا من قبل.. بكاء على الشمعة الوحيدة التى انطفأت فانطفأ معها مستقبلهم وهم مازالوا فى البدايات. ؟ بداية النهاية الحركة الثالثة تعود للهدوء.. لكنه هدوء مشوب بالحسرة والآلم.. هدوء اليأس.. فها هم يجيبون عن معنى أن يُبنى جراج للسيارات مكان الأوبرا بكلمات يعتصرها الغضب والإحساس بخيبة الأمل: «انهيار».. «مؤشر واضح للتغيير الذى حدث فى الثقافة المصرية».. «هذا احتقار للثقافة»، «إبراهيم باشا يقف من يومها حزينا بعد أن فقد خلفيته الجليلة».. «فرنسا كان لديها سجن هو الباستيل.. هدموه وبنوا بدلا عنه دارا للأوبرا.. ونحن فعلنا العكس هدمنا الأوبرا وبنينا بدلا عنها جراجا». وأخيرا تقول ماجدة صالح: «حينها عرفت أن حياتى وأحلامى انتهت».. ويؤكد مصطفى ناجى: «كل واحد فينا شعر نفس الشعور.. إن حياته انتهت» الشهادات تأتى بلقطات أكثر قربا تكشف عن انفعالات الوجوه والحزن فى العيون.. وبتقاطعها مع مشاهد حية للجراج القبيح تزيدك ألما وغضبا.. وتزداد تعاطفا مع ذلك الجيل الذى شاب دون أن يستكمل أحلامه حين ترى ألدومنياتو يعزف عزفا ركيكا على البيانو ويتوقف وهو يقول «معلش صوابعى مش تمام» وتكاد تبكى وأنت ترى فيوليت مقار تحاول الغناء بصوت حشرجته السنون.. وأخيرا يختتم كمال عبدالعزيز سيمفونيته بوجه ألدو منياتو الحزين المنكفىء على البيانو وهو يقول كلمة واحدة.. «خسارة». ينتهى الفيلم مع مقتطفات من أقوال الشهود تأتى من خارج الكادر لتذكرك بأهم ما جاء فى التحقيق.. وكأنها تسألك: «هل مازلت تتساءل عمن حرق الأوبرا؟