فى «رحلة ابن فطومة» يطوف الرحالة قنديل محمد العنابى، الشهير بابن فطومة، بين مختلف الحضارات والأنظمة، وفى «دار الحلبة» المعبرة عن النظام الرأسمالى، يقول له الشيخ المسلم حامد السبكى: «الحلبة دار الحرية، تمثل فيها جميع الديانات، فيها مسلمون ويهود ومسيحيون وبوذيون، بل فيها ملحدون وثنيون». ويواصل الشيخ: «كل طائفة تحتفظ فى داخلها بتقاليدها الذاتية، والاحترام يسود العلاقات العامة لا امتياز لطائفة ولو جاء رئيس الدولة منها، وبالمناسبة أخبرك بأن رئيسنا الحالى وثنى!». المثال والواقع فى الكلمات السابقة ما يقدم تصورا مثاليا عن تعددية الأديان وحرية العقيدة والعبادة فى ظل النظام الرأسمالى، حيث الديمقراطية والحرية، لكن هذا «التصور» ليس مضمون النجاح عند التطبيق العملى، وباعتراف الشيخ نفسه : «فهذه الحضارة الفريدة مهددة وقد تندثر فى موقعة، وقد تتدهور حتى مع النصر إذا اجتاحتنا الخسائر، ثم إن الاختلافات الدينية لا تمر دائما بسلام». هذه هى المسألة الأساس : الاختلافات الدينية لا تمر دائما بسلام، فالأمر لا يخلو من المشاكل والصراعات. إنها سنة الكون التى لا تتبدل، حيث يستحيل الانسجام والتجانس الدائم. التوافق الكامل مستحيل بين أصحاب الديانات المختلفة، وهو مستحيل أيضا بين أبناء الدين الواحد، أو كما يقول كمال عبدالجواد فى «السكرية» : «لا المسلمون على وفاق، ولا المسيحيون على وفاق، وستجد نزاعا مستمرا بين الشيعى والسنى، وبين الحجازى والعراقى، كالذى بين الوفدى والدستورى، وطالب الآداب وطالب العلوم، والنادى الأهلى والترسانة، لكن رغم ذلك كله لشد ما نحزن إذا طالعنا فى الصحف خبر زلزال باليابان»!. فى الانتماءات الدينية المختلفة ما يدعو إلى التنابذ والفرقة، وفى الالتفات إلى الهم الإنسانى المشترك ما يوقظ المشاعر ويوحد ويؤلف بين البشر. سنة الحياة أن تشتعل الخلافات وتدب الصراعات، وسنة الحياة - أيضا - أن يعود الإنسان إلى إنسانيته. وإذا جاز أن نستقى الحكمة من عقول المساطيل وتداعيات أفكارهم الغرائبية، فإن أنيس زكى، المدمن الذى لا يفيق فى «ثرثرة فوق النيل»، هو من يقدم خلاصة صافية لضراوة الصراعات الإنسانية التى لا تتوقف عبر التاريخ، تلك الصراعات التى يسيطر الدين على الأغلب الأعم منها: «وتلاطمت فى رأسى خواطر عن الغزوات الإسلامية والحروب الصليبية ومحاكم التفتيش ومصارع العشاق والفلاسفة والصراع الدامى بين الكاثوليكية والبروتستانتية وعصر الشهداء». غزوات وحروب ومحاكم ومصارع وصراعات ودماء وشهداء، أما المحصلة النهائية فتتمثل فى مجموعة من الديانات والمذاهب الدينية، التى لا تكف عن الصراع، ولا تتوقف - أيضا - عن التعايش والتجاور!». * الأزمة والخلاص هل يعانى المسيحيون فى مصر؟! ربما كانت مقولة المسيحى اللا دينى رياض قلدس، فى «السكرية» عنيفة متطرفة سوداوية : «لو كانت مجموعتنا فردا واحدا لجن»! مقولة لا تخلو من التطرف والغلو، لكنها ذروة ما يجسد الشعور بالغبن والظلم والخوف من الاضطهاد. رياض نفسه هو صاحب العبارة المضيئة التى تمثل نقيضا كاملا لفكرة الجنون : «مشكلة الأقباط اليوم هى مشكلة الشعب، إذا اضطهد اضطهدنا، وإذا تحرر تحررنا». مشاكل الصراعات الدينية تعكس ظروف المجتمع ودرجة تطوره، فالسائد المنتشر أن التعبير عن الاختلاف يتشكل طبقا لطبيعة المجتمع والآليات التى تحكم نظامه السياسى، ومن الاختصار المخل أن تبحث الأقلية عن علاج، لما تتصوره من مشاكل وهموم، بمعزل عن إصلاح شامل يتصدى لعموم المشاكل فى الوطن كله. لكى يتسنى الوعى بالواقع المسيحى فى مصر، تبدو الإحاطة ضرورية بالجذور التاريخية، الممتدة من الفتح الإسلامى بقيادة عمرو بن العاص، إلى عتبات القرن العشرين. هذه المعالجة، فى عالم نجيب محفوظ، تكشف عن انتباهه إلى حقيقتين متداخلتين متكاملتين: الحقيقة الأولى هى الاضطهاد الذى تعرض له المسيحيون فى عدة مراحل فى هذا التاريخ، والحقيقة الثانية هى عمومية وشمولية الظلم الذى لا ينجو منه المسلمون أنفسهم. ليس منطقيا أن يتوقف القارئ أو الناقد أمام إشارات تنبئ عن العسف والقهر، ويتجاوز تأكيدات مضادة عن عمومية المعاناة التى يكابدها المسلمون والمسيحيون على حد سواء. بعد مئات السنين من دخول العرب المسلمين إلى مصر، يقول رياض قلدس، فى «السكرية» لصديقه كمال عبدالجواد : «لو عشت فى عصر الفتح الإسلامى وتكشف لى الغيب لدعوت الأقباط جميعا إلى الدخول فى دين الله». لم يكن أجداد رياض قلدس متفقين معه بطبيعة الحال، ولم يكن من اليسير عليهم القبول بفكرة تغيير الدين، والدليل على ذلك ما يقوله الكاتب والمترجم القبطى «إثناسيوس» فى شهادته «أمام العرش» : «ولكنا نحن الأقباط تكدرنا عندما علمنا بدخول أفراد منا فى الدين الجديد وتراءى لنا أنهم كفروا تفاديا من أداء الجزية، أما هم فزعموا أن الإسلام ما هو إلا مذهب من المسيحية وأن معتنقه ليس بكافر». أهو الخوف من الجزية، أم الانجذاب إلى الدين الجديد؟ إذا كان العدل هو ما استنه ومارسه عمرو بن العاص، فإن الولاة التالين له لم يكونوا مثله! * المسيحيون والسياسة عبر ثلاثة أرباع القرن تقريبا، منذ ميلاد التجربة الحزبية المصرية الأولى سنة 1907 إلى أن قام الرئيس السادات بحملة الاعتقالات الأولى فى سبتمبر 1981 شارك المسيحيون فى الحياة السياسية بدرجات متباينة من الإقبال والنشاط وتفاعلوا مع قوى وأحزاب مختلفة حيث تراوحت العلاقة، فى عالم نجيب محفوظ، بين المودة الإيجابية والتوجس السلبى. كانت مرحلة السيادة الوفدية، الحزب الذى تبنى رسالة ثورة 1919 وجسد مبادئها وشعاراتها التى تعلى من شأن الوحدة الوطنية فى إطار ديمقراطى، هى العصر الذهبى لمشاركة المسيحيين بفاعلية فى العملية السياسية، حيث احتل واحد منهم، مكرم عبيد، موقع الرجل الثانى لفترة طويلة فى ظل زعامة مصطفى النحاس، ثم كان انشقاقه عن الوفد مؤشرا لأزمة أفضت بأغلبية المسيحيين إلى التقوقع والانسحاب. انشقاق مكرم عبيد ليس كانشقاق غيره من القيادات الوفدية، مثل أحمد ماهر ومحمود فهمى النقراشى، وتشاؤم رياض قلدس، الوفدى المخلص، يعبر عن تشاؤم مسيحى عام، وهو ما يتضح فى قوله لكمال عبدالجواد: «سيجد الأقباط أنفسهم بلا مأوى، أو يأوون إلى حضن عدوهم اللدود الملك وهو مأوى لن يدوم لهم طويلا، وإذا اضطهدنا الوفد كما تضطهدنا الأقليات.. فكيف يكون الحال؟». لا تخلو هذه المخاوف من حق، ولذلك يتساءل كمال «متغابيا» لأنه يعرف درجة الصدق النسبى فى كلمات صديقه : «لماذا تدفع بالأمر خارج حدود الطبيعة ؟ مكرم ليس الأقباط، والأقباط ليسوا مكرم. إنه شخص ذهب، أما مبدأ الوفد القومى فلن يذهب». هذه الثقة «النظرية» المثالية فى كلمات كمال، لا تقنع المسيحى الوفدى الذى يفكر فى تفاعلات «الواقع» الفعلى، وهو واقع يربط بين مكرم عبيد والأقباط. يعى المسيحيون بشكل عام، والوفديون منهم على وجه الخصوص، دور الوفد، ويضفون عليه فلسفة وعمقا كما يتجلى فى قول المسيحى اللا دينى رياض قلدس : «إنى حر وقبطى فى آن، بل إنى لا دينى وقبطى معا.أشعر فى أحيان كثيرة بأن المسيحية وطنى لا دينى، وربما إذا عرضت هذا الشعور على عقلى اضطربت، ولكن مهلا، أليس من الجبن أن أنسى قومى ؟ شىء واحد خليق بأن ينسينى هذا التنازع، ألا وهو الفناء فى القومية المصرية الخالصة كما أرادها سعد زغلول. إن النحاس مسلم دينى، ولكنه قومى بكل معنى الكلمة أيضا، فلا نشعر حياله إلا بأننا مصريون، لا مسلم ولا قبطى». كان الوفد هو الحل الذهبى لمشكلة الاختلاف والصراع، فقد ذاب المسلمون والمسيحيون فى نسيجه القومى الذى لا يعرف التمييز الدينى، وبغياب الوفد، ومع افتقاد التنظيم القومى القوى البديل، تطل الصراعات وتعود الفتن. * تفاعلات الواقع لا تخلو معطيات الواقع من التأكيد على وجود قدر فى التعصب الدينى، مرده إلى اعتزاز أتباع الدين، مسلمين كانوا أم مسيحيين، بالعقيدة التى يعتنقونها، ويقينهم بأنهم وحدهم على صواب، وبتعبير رياض قلدس، أهم الشخصيات المسيحية فى عالم نجيب : «هم عندكم يعتبروننا كفارا ملاعين، وهم عندنا يعتبرونكم كفارا مغتصبين، ويقولون عن أنفسهم إنهم سلالة الملوك الذين استطاعوا أن يحافظوا على دينهم بدفع الجزية»! المسيحيون «كفار ملاعين» من منظور إسلامى، وفى ظل مثل هذا المناخ المشحون بالتوتر والتوجس، تتجلى حقيقة الاختلاف الدينى، والتناقض الذى قد يكون «مستورا» داخل البيوت، لكنه قائم موجود مؤثر. من ناحية أخرى، فإن الواقع نفسه يتسع للمتسامحين الذين تخلو قلوبهم من آفة الكراهية، وهؤلاء المتسامحون ليسوا من المثقفين بالضرورة، فى أكثر البسطاء والعاديين من الناس الذين يحملون قيمة التسامح نظريا ويطبقونها عمليا. ولعل الساحة الاقتصادية هى المجال الأفضل للتعبير عن التجاورية العابرة للانتماء الدينى، ذلك أن المصلحة المادية هى القانون الأسمى الذى يحكم العمل التجارى، ولا توجد مشكلة فى الاختلاف الدينى. قوانين السوق هى التى تحكم وتتحكم فى إيقاع المعاملات، والنشاط الاقتصادى لمسيحيين فى مصر، كما يعكسه عالم نجيب محفوظ يتسع لمشاركة إيجابية فى شتى المجالات، وأهم ما فى الشهادة التى يقدمها الكاتب الكبير أنها عفوية تلقائية، تتراكم عبر نثريات وجزئيات متفرقة، بلا عمد أو قصدية. الحب قادر على تجاوز الاختلاف الدينى، وكذلك النشاط الاقتصادى، والفكاهة بدورها تتحول إلى أداة توحيد وتجانس. المصريون المسيحيون قد يكونون موضوعا للفكاهة التى يفرضها السياق، بمعزل عن التعصب أو التزمت، ودون تعمد إهانة أو إساءة. فى جلسات المرح، وبخاصة تلك التى يصاحبها مخدر أو تغلغها قهقهات السكارى، يبدو كل شىء مباحا، فلا غرابة أن يجتمع «الشيخ» و«القسيس» فى نكتة واحدة ! * الفتنة الطائفية شهدت نهايات عصر الرئيس السادات فتنة طائفية لعلها من أخطر ما عرفه تاريخ مصر الحديث والمعاصر، وهى الفتنة التى وصلت إلى ذروتها بقرارات واعتقالات سبتمبر سنة 1981 وانتهت باغتيال السادات نفسه فى السادس من أكتوبر، أثناء الاحتفال العسكرى بذكرى النصر فى حرب .1973 لم تكن حملة السادات موجهة ضد المسيحيين وحدهم بطبيعة الحال، بل إن الفتنة نفسها لم تكن إلا جزءا من منظومة خلل تميز العصر كله، وثمة حوار مهم تقدمه رواية «يوم قتل الزعيم»، بين علوان فواز ورئيسه فى العمل أنور علام والأرملة جولستان. يقول أنور: يتحدثون عن مضاعفات فتنة طائفية فتساءلت جولستان : - ما معنى ذلك؟ - ويتساءل علوان : - أين الحكومة؟ - فقال أنور علام : - أيام قلق من يوقظ الفتنة الطائفية؟، ومن خالق الأيام المليئة بالقلق ، وما الذى ترتب على إشعال الفتنة وإثارة التوتر؟. كانت قرارات الرئيس السادات فى سبتمبر تتويجا مأسويا للتخبط والعشوائية، وهو ما يعبر عنه الوطنى العجوز محتشمى زايد، ابن ثورة 1919 والمنتمى إلى تراث الوفد وقيمه الداعية إلى الوحدة الوطنية: «ما هذا القرار أيها الرجل؟!. تعلن ثورة فى 15 مايو ثم تضيعها فى 5 سبتمبر ؟ تزج فى السجن بالمصريين جميعا من مسلمين وأقباط ورجال أحزاب ورجال فكر ؟ لم يعد فى ميدان الحرية إلا الانتهازيون.. فلك الرحمة يا مصر». هذا النمط من التفكير والتحليل لا يقتصر على محتشمى وحده، فهو سمة للجيل كله. لقد رحل آخر الأحياء من أصدقاء الجد العجوز، ولم يكن قد أدلى برأيه فى أحداث سبتمبر، لكن الأمر لا يبدو موضعا للخلاف: «فاتنى أن أسمع تعليقك على 5 سبتمبر ولكننى أعرفه». محتشمى وصديقه ينتميان إلى تراث ومبادئ الوفد، وما يقوله محتشمى هو جوهر ما يأتى على لسان الزعيم مصطفى النحاس، فى سياق محاكمة الرئيس السادات «أمام العرش»، فهو يقول : «واشتدت الضائقة بالناس، وحدث ما يحدث عادة فى مثل تلك الظروف من أعراض الفتنة والتطرف، فتركت الأمور تستفحل كأنك لا تبالى، ثم انفرجت بفتنة فألقيت بالجميع فى السجون فأغضبت المسلمين والمسيحيين والمتطرفين والمعتدلين، وانتهى الأمر بمأساة المنصة». عندما تشتد الأزمات الاقتصادية ويضيق الناس بالحياة فإن الفتنة تطل، والتطرف يزداد. وعندما يكون رد الفعل بدوره متطرفا وعشوائيا وعنيفا، فإنه يزيد الاشتعال ويمهد للمأساة. دفع الرئيس السادات ثمنا فادحا للفتنة التى فشل فى إخمادها لكن المعالجة السياسية الخاطئة لابد أن يتم التعامل معها فى إطار موضوعى عادل، لا يبرئ المتورطين المنفذين، اعتمادا على تحميل السلطة وحدها مسئولية الأمر كله. لقد ازدادت حدة التعصب فى المجتمع المصرى، وهو ليس تعصبا دينيا ضد المسيحيين، بقدر ما هو تصعب اجتماعى وفكرى عام، يطال الجميع بلا تمييز، ويتجاوز الدين إلى مناحى الحياة كافة. الهم وطنى عام، وليست الفتنة الطائفية إلا جزءا من هذا الهم الوطنى الثقيل !