«أمام العرش» عمل أدبي رفيع للراحل نجيب محفوظ صاحب نوبل من خلاله عقد محفوظ محاكمات تاريخية لحكام مصر بداية من عصر مينا موحد القطرين إلي عهد السادات. محفوظ استحضر روح آلهة الفراعنة وجعلهم قضاة، أما هو فلعب دور المدعي العام ليدلو بدلوه ويطرح رؤيته السياسية في هؤلاء الحكام. وهنا ننشر الجزء الخاص بعبدالناصر. - جمال عبدالناصر.. فدخل رجل طويل القامة، واضح الملامح، عظيم الشخصية، ومضي في سيره حتي وقف أمام العرش. ودعاه أوزوريس إلي الكلام فقال: - أنتمي إلي قرية بني مر من أعمال أسيوط، ونشأت في أسرة فقيرة من أبناء الشعب فكابدت مرارة العيش وشظفه، وتخرجت في الكلية الحربية عام 1938 واشتركت في حرب فلسطين، وحوصرت مع من حوصر في الفالوجا، وقد هالتني الهزيمة، وهالتني أكثر جذورها الممتدة في أعماق الوطن. فخطر لي أن أنقل المعركة إلي الداخل حيث يكمن أعداء البلاد الحقيقيون، وأنشأت في حذر وسرية تنظيم الضباط الأحرار، ورصدت الأحداث انتظارا للحظة المناسبة للانقضاض علي النظام القائم، وقد حققت هدفي في 23 يوليو 1952 ثم تتابعت إنجازات الثورة مثل إلغاء النظام الملكي، واستكمال استقلال البلاد بالجلاء التام، والقضاء علي الإقطاع بإصدار قانون الإصلاح الزراعي، وتمصير الاقتصاد، والتخطيط لإصلاح شامل في الزراعة والصناعة يستهدف خير الشعب وتذويب الفروق الطبقية، وبنينا السد العالي، وأنشأنا القطاع العام متجهين نحو الاشتراكية، وكونا جيشا حديثا قويا، ونشرنا الدعوة للوحدة العربية، وساندنا كل ثورة عربية أو أفريقية، وأممنا قناة السويس فكنا منارة وقدوة للعالم الثالث كله في نضاله ضد الاستعمار الخارجي والاستغلال الداخلي، وحظي الشعب الكادح في عهدي بعزة وقوة لم يعرفهما من قبل، ولأول مرة يشق طريقه إلي المجالس التشريعية والجامعات ويشعر بأن الأرض أرضه والوطن وطنه، وقد تربصت بي قوي الاستعمار حتي أنزلت بي هزيمة منكرة في 5 يونيو 1967 فزلزلت العمل العظيم من جذوره وقضت علي بما يشبه الموت قبل موافاة الأجل بثلاثة أعوام، وقد عشت مصريا عربيا مخلصا ومت مصريا عربيا شهيدا. وتكلم الملك رمسيس الثاني فقال: - دعني أعرب لك عن عظيم حبي وإعجابي، وما حبي لك إلا امتداد لحبي لذاتي، فما أكثر أوجه الشبه التي تجمع بيننا، كلانا يشع عظمة تملأ الوطن وتتجاوز حدوده، وكلانا جعل من هزيمته نصرا فاق كل نصر، وكلانا لم يقنع بأعماله المجيدة الخالدة فأغار علي أعمال الآخرين ممن سبقوه، وقد ساندني الحظ بأن توليت عرش مصر وهي سيدة الأمم، أما أنت فحكمتها وهي أمة صغيرة وسط عمالقة، وقد وهبتني الآلهة طولا في العمر وقوة في الروح والجسد وضنت عليك إلا بالقليل فعاجلك الأجل قبل الأوان. وتكلم الملك مينا فقال: - ولكن اهتمامك بالوحدة العربية فاق اهتمامك بالوحدة المصرية فحتي اسم مصر الخالد شطبته بجرة قلم، واضطررت العديد من أبناء مصر إلي الهجرة التي لم يمارسوها إلا في فترات قهر عابرة! فقال جمال عبدالناصر: - ليس الذنب ذنبي إذا توهم بعض المصريين أن الوحدة العربية تعني الضياع لهم، وليس الذنب ذنبي إذا تحققت أعمال مجيدة علي يدي بعد أن عجز السابقون عن تحقيقها، فالحق أن تاريخ مصر الحقيقي بدأ مع 23 يوليو .1952 وسرت همهمة بين الجالسين مضت تشتد حتي هتف أوزوريس: - النظام والهدوء أيها السادة، أفسحوا صدوركم لأي قول يقال.. فقال أبنوم: - اسمح لي أن أحييك بوصفي أول ثائر من فقراء مصر، وإني لأشهد لك بأن الفقراء لم ينعموا بالأمان والأمل في عهد - بعد عهدي - كما نعموا في عهدكم. ولا مأخذ لي عليك إلا إصرارك علي أن تكون ثورتك بيضاء علي حين كان يجب أن تجري الدماء فيها أنهارا! فتساءل الملك خوفو محتجا: - ماذا يقول هذا السفاح؟! فقال أوزوريس بحدة: - تذكر أنك لست علي عرشك، اعتذر. فقال خوفو بخشوع: - معذرة. وقال الملك تحتمس الثالث: - علي الرغم من نشأتك العسكرية فقد أثبت قدرة فائقة في كثير من المجالات إلا العسكرية، بل إنك لم تكن قائدا ذا شأن بأي حال من الأحوال! فقال جمال عبدالناصر: - تعذر علي النصر علي جيش متفوق في التسليح ومؤيد بأقوي دولة علي سطح الأرض! فقال أمحتب وزير الملك زوسر: - كان واجبك أن تتجنب الحرب وأن تكف عن استفزاز الدول الكبري. فقال جمال عبدالناصر: - كان ذلك يتناقض مع أهدافي وقد خدعت أكثر من مرة. فقال الحكيم بتاح حتب: - إنه عذر أقبح من الذنب. وقال سعد زغلول: - لقد حاولت أن تمحو اسمي من الوجود كما محوت اسم مصر، وقلت عني إنني اعتليت الموجة الثورية عام 1919 فدعني أحدثك عن معني الزعامة، الزعامة هبة ربانية وغريزة شعبية، لا تلحق بإنسان مصادفة ولا كضربة حظ أعمي، والزعيم المصري هو الذي يبايعه المصريون علي اختلاف أديانهم وإلا لم يكن زعيما مصريا أبدا، إن جاز أن يكون زعيما عربيا أو إسلاميا، بيد أنني رغم ذلك لم أضمر لك الرفض، واعتبرت تجنيك علي نزوة شباب يمكن التسامح معها نظير ما قدمت من خدمات جليلة، لقد قامت الثورة العرابية فناضلت نضالاً كريما وأحبطت إحباطا أليما، وقامت ثورة 1919 فحققت من المآثر ما شهد به التاريخ، ولكن تكاثر أعداؤها حتي اجتاحها حريق القاهرة، ثم جاءت ثورتك فتخلصت من الأعداء وأتمت رسالة الثورتين السابقتين، وبالرغم من أنها بدأت كانقلاب عسكري إلا أن الشعب باركها ومنحها تأييده، وكان بوسعك أن تجعل من الشعب قاعدتها وأن تقيم حكما ديمقراطيا رشيدا، ولكن اندفاعك المضلل في الطريق الاستبدادي هو المسئول عن جميع ما حل بحكمك من سلبيات ونكبات. فقال جمال عبدالناصر: - كان يلزمنا فترة انتقال لتحقيق الأسس الثورية. فقال مصطفي النحاس: - حجة دكتاتورية واهية طالما سمعناها من أعداء الأمة، كان بين يديك قاعدة وفديَّة شعبية انهلت عليها بدباباتك، وعجزت عن إقامة بديل عنها فظلت البلاد تعاني الفراغ، ومددت يدك إلي المنبوذين من الأمة فوقعت في تناقض مؤسف بين عمل إصلاحي يعتبر في روحه امتداداً لروح الوفد وأسلوب حكم يعتبر امتداداً لحكم الملك والأقليات، حتي قضي أسلوب الحكم علي جميع النوايا الطيبة! فقال جمال عبدالناصر : - الديمقراطية الحقيقية كانت تعني عندي تحرير المصري من الاستعمار والاستغلال والفقر. فقال مصطفي النحاس : - وأغفلت الحرية وحقوق الإنسان، ولا أنكر أنك كنت أمانا للفقراء ولكنك كنت وبالا علي أهل الرأي والمثقفين وهم طليعة أبناء الأمة، انهلت عليهم اعتقالا وسجنا وشنقا وقتلا حتي أذللت كرامتهم وأهنت إنسانيتهم ومحقت إيجابيتهم وخربت بناء شخصياتهم والله وحده يعلم متي يعاد بناؤها، أولئك الذين جعلت منهم ثورة 1919 أهل المبادرة والإبداع في شتي المناشط السياسية والاقتصادية والثقافية، بل أفسد الاستبداد عليك أجمل قراراتك، انظر كيف فسد التعليم، وتفسخ القطاع العام، وكيف قادك التحدي للقوي العالمية إلي الهزائم المخجلة والخسائر الفادحة، ولم تِفد من الرأي الآخر ولم تتعظ بتجربة محمد علي، وماذا كانت النتيجة؟ .. دوي وجلجلة وأساطير فارغة تقوم علي تل من الخرائب.. فقال جمال عبد الناصر: - لقد نقلت وطني من حال إلي حال كما نقلت العرب وسائر الأمم المغلوبة علي أمرها، وسوف تعالج السلبيات حتي تزول وينساها الزمن ويبقي ما ينفع الناس، وعند ذاك يقر الناس بعظمتي الحقيقية. فقال مصطفي النحاس : - ليتك تواضعت في طموحك، ليتك عكفت علي إصلاح وطنك وفتح نوافذ التقدم له في شتي مجالات الحضارة. إن تنمية القرية المصرية أهم من تبني ثورات العالم، إن تشجيع البحث العلمي أهم من حملة اليمن، ومكافحة الأمية أهم من مكافحة الإمبريالية العالمية، وا أسفاه لقد ضيعت علي الوطن فرصة لم تتح له من قبل، فلأول مرة يحكم ابن وطني من أبناء البلاد دون مناوئ من ملك أو مستعمر، ولكنه بدلا من مداواة ابن وطنه المريض دفع به إلي مباراة البطولة العالمية وهو ينوء بأمراضه فكانت النتيجة أن خسر البطولة وخسر نفسه. وهنا قالت إيزيس: - إن فرحتي برجوع العرش إلي أحد أبنائي لا تقدر، وإن أعماله الجليلة لتحتاج إلي جميع جدران المعابد لتسجيلها، أما الأخطاء فلا أدري كيف أدافع عنها. فقال أوزوريس: - لو كانت محكمتنا هي صاحبة الكلمة الأخيرة في الحكم عليك لاقتضانا العدل تأملا وعناء طويلين، فقليلون من قدموا لبلادهم مثلما قدمت من خدمات، وقليلون من أنزلوا بها مثلما أنزلت من إساءات، ولكن بالنسبة لأنك أول من يجلس علي عرشها من أبنائها، وأول من يخص الكادحين برعايته فإننا نسمح لك بالجلوس بين الخالدين لحين انتهاء المحاكمة، وستذهب بعد ذلك إلي محكمتك مؤيدا بتزكية مناسبة. ونادي حورس: - محمد أنور السادات.