الفيشاوي وعلي بابا وقشتمر وريش: المقاهي المحفوظية استثمرت وجوده حياً وتجاهلت ذكراه إذا افترضنا أن الدولة المصرية ابتداءً من مجلسها العسكري العالي مروراً بمجلس الوزراء انتهاءً عند أطياف الحكم المحلي مشغولة بمواجهة الهول اليومي الأعظم الذي نراه كل صباح وكل مساء عن الاحتفال بمرور خمس سنوات علي رحيل نجيب محفوظ فهو عذر أقبح من ذنب. فيبقي السؤال: أين هي مبادرة القطاع الخاص الذي استفاد من نجيب محفوظ حياً.. وكان يمكن أن يواصل الاستفادة منه ميتاً؟. ليس في السؤال أي محاولة لإبراء ذمة الدولة المصرية. ولكنه سؤال مشروع باعتبار أن الرجل لم يكن معادياً لدور القطاع الخاص في الحياة العامة وفي التنمية الاقتصادية. بل كان من المدافعين عنه. أيضاً فإنه خلال حياته وعبر كتاباته قدم صوراً مضيئة لمساهمات القطاع الخاص والرأسمالية الوطنية في الحياة الاقتصادية. وامتلأت رواياته بأبطال من النساء والرجال من الذين استقلوا عن الدولة وأسسوا مشروعاتهم الخاصة التي ربما نجحت وربما تعثرت. ولكن الكتابة عنهم كانت محاولة لإعلاء دور القطاع الخاص في الحياة المصرية. سأكتب فقط عن المقاهي التي كان يجلس عليها نجيب محفوظ. ولن أقترب من الفنادق والكازينوهات والعوامات الراسية في النيل ولا حتي المقاهي الموجودة خارج القاهرة. ومقاهي القاهرة بعضها لم يعد له وجود. لم يبق منه سوي ذكراه. لكن البعض منها ما زال موجوداً حتي الآن. وفضلاً عن أن أصحابه استفادوا من تردد نجيب محفوظ علي هذه المقاهي. فإن الفائدة يمكن أن تكون مضاعفة الآن لو أنهم تنبهوا لمناسبة مرور خمس سنوات علي رحيله عن عالمنا واحتفوا بالمناسبة واحتفلوا بها بالشكل الذي يمكن أن تستحقه. مقهي «الفيشاوي» مازال قائماً وهو المقهي الذي كان يجلس عليه نجيب محفوظ في الفترة التي عمل فيها موظفاً في وزارة الأوقاف. ثم موظفاً في مؤسسة القرض الحسن. كان يتسلل من مكتبه خلال أوقات العمل ويجلس علي الفيشاوي. يدخن الشيشة ويلمع حذاءه ويقرأ. قال لي إنه قرأ رواية: البحث عن الزمن الضائع لمارسيل بروست باللغة الإنجليزية قبل أن تترجم إلي العربية في جلساته علي المقهي. لأنه لم يكن يعرف لغتها الأصلية الفرنسية. وكان يعرف الحاج فهمي الفيشاوي معرفة شخصية وكان مقهي الفيشاوي عبارة عن صالونات مغلقة للعائلات وصالون كبير في المدخل وطرقة طويلة بين هذه الصالونات وكانت الصالونات مخصصة للعائلات وكانت تفصلها عن بعضها البعض ستائر من الكريستال. لم ينقطع نجيب محفوظ عن «الفيشاوي» بعد ذلك في سبعينيات القرن الماضي كنا نذهب إلي هناك في جلسة خاصة نتكلم في أمور لها درجة من الخصوصية لا يصح أن نتكلم فيها في جلسات مفتوحة يحضرها كل الناس كان هذا اللقاء يتم يوم الاثنين من كل أسبوع من السادسة بعد الظهر وحتي التاسعة مساءً وتوقف اللقاء بعد أن اشتدت أزمة التاكسي في القاهرة وأصبح العثور علي التاكسي مثل المعجزات واخترع المصريون بخفة ظلهم المعروف حيلة للعثور علي تاكسي أن يحمل المواطن منهم غدرة خليجية يضعها في جيبه وما أن يأتي تاكسي حتي يضعها فوق رأسه فيتوقف له التاكسي. بعد حصول نجيب محفوظ علي نوبل خصص مقهي «الفيشاوي» قاعة سماها قاعة نجيب محفوظ وظلت مغلقة فترة من الوقت ولا أعتقد أن نجيب محفوظ تردد عليها أو جلس فيها لكني لا أعرف هل مازالت القاعة مخصصة باسمه؟ وهل مازالت مغلقة أم لا؟ ثمة مقهي قريب من شارع المعز لدين الله الفاطمي جري تأسيسه بعد نوبل اسمه مقهي نجيب محفوظ. يتبع إحدي شركات السياحة. وقد ذهبت مع نجيب محفوظ إلي المقهي في إحدي المرات. كان الرجل مندهشاً أن يطلق اسمه علي مقهي دون حتي استئذانه. وقد جلسنا وانصرفنا دون أن ينتبه أصحاب المقهي إلي أن هذا الجالس هو الكاتب الذي يحمل المكان اسمه. من أشهر المقاهي التي جلس عليها نجيب محفوظ مقهي «ريش» بشارع سليمان باشا. تضبط عليه الساعة في الخامسة والنصف من بعد ظهر يوم الجمعة عندما يصل إلي المقهي. ثم تضبط الساعة مرة أخري عندما ينصرف في الثامنة والنصف. واستمر نجيب محفوظ مداوماً علي الحضور للمكان وحوله كل أدباء مصر الشباب وأدباء الوطن العربي وضيوف مصر من مثقفي العالم إلي أن تقرر أن يغلق المقهي أبوابه يوم الجمعة من كل أسبوع فبحث الرجل عن مكان آخر. مقهي علي بابا في ميدان التحرير كان إحدي محطات نجيب محفوظ بعد إغلاق ريش يوم الجمعة كان يتردد عليه صباحاً. كان يخرج من بيته في السادسة صباحاً ويمشي علي قدميه حتي ميدان التحرير ويجلس في المقهي ويقرأ صحف الصباح ويشرب قهوته السادة ثم يقوم بجولة صباحية في شوارع وسط القاهرة ويعود إلي منزله سيراً علي الأقدام. وأذكر بعد حصول نجيب محفوظ علي نوبل وبعد أن أصبح إنساناً مطارداً من الصحافة والإعلام أن فكر في عدم النزول والبقاء في بيته. وقد ذهب إليه في منزله صاحب مقهي علي بابا وعاتبه لأنه لم يعد يزوره ويجلس عندهم. فما كان من نجيب محفوظ وقد تأثر من الزيارة إلا أن قام وارتدي ملابسه وذهب إلي المقهي واستأنف جلساته الصباحية يطالع فيها ما يجري في ميدان التحرير لكن المقهي أغلق بعد ذلك في ظروف غامضة. ومازال مغلقاً حتي الآن ولا يعرف مصيره ولا مصير القاعة التي كان يفضل نجيب محفوظ الجلوس فيها صباحاً ليتمكن من رؤية ميدان التحرير في ذلك الوقت الجميل من الصباح الباكر. من مقاهي القاهرة مقهي «قشتمر» الذي يقع في شارع الجيش بالقرب من ميدان الظاهر. هذا المقهي يحمل اسم رواية من روايات نجيب محفوظ. وعلي الرغم من أن الرواية خصصها نجيب محفوظ كنص روائي مكتوب عن صديقه صلاح جاهين. فإن معظم الأحداث تدور في المقهي. وهذا المقهي الذي مازال يحمل نفس الاسم حتي الآن قطعة من تراث مصر. فهو ملك محمد عبد الوهاب مطرب القرن وخلده نجيب محفوظ في نص روائي وقد عرض علي صاحب المقهي أن يتم تحويله إلي مركز ثقافي يحمل اسم قشتمر واسم نجيب محفوظ ومحمد عبدالوهاب. وأكد لي أن ورثة عبد الوهاب أصحاب المكان ليس لديهم مانع. وكتبت هذا الكلام. وأكثر من هذا اتصلت بمحافظ القاهرة السابق الدكتور عبدالعظيم وزير وأبدي اقتناعه بالفكرة ولكن الفكرة لم تخرج إلي الوجود لدرجة أنني طلبت من المحافظ السابق أن يعين حراسة للمكان حتي لا يتم هدم المقهي في غفلة من الزمن لكي تبني مكانه عمارة من عمارات أيامنا المشوهة. ولا أعرف إن كان هذا قد تم أم لا؟ بالقرب من مقهي قشتمر كان يقع مقهي عرابي الذي يطل علي ميدان الجيش. وكان يجلس فيه أصدقاء نجيب محفوظ الذين يكبرونه في العمر. ويرفعون الكلفة عند الكلام معه فقد كان أصغرهم عمراً وكان نجيب محفوظ يذهب إلي هذا المقهي بعد ظهر يوم الخميس ويظل فيه وسط أصدقاء الطفولة والصبا والشباب حتي يحين موعد انصرافه فيشتري الكباب والكفتة من مطعم قريب ويستقل تاكسياً في طريقه إلي منزل محمد عفيفي أو توفيق صالح فيما بعد من أجل سهرة الحرافيش. وعندما فوجئ بنا - جمال الغيطاني وكاتب هذه السطور -ندخل عليه مقهي عرابي دهش في أول الأمر. ولم يكن مستريحاً لوجودنا وسط أصدقائه القدامي الذين لعب معهم الكرة الشراب في حواري العباسية. لكنه تقبل الأمر مع مرور الوقت.. هذا المقهي لم يعد له وجود الآن فقد جري هدمه ليفتتح مكانه محل لبيع الأثاث المستعمل ثم بيع ليصبح أكثر من محل آخر لكن المقهي لم يعد له وجود. هذه المقاهي لماذا لم يفكر أحد أصحابها أو يفكرون معاً في عمل أي شيء من أجل الاحتفال بذكري مرور خمس سنوات علي رحيل نجيب محفوظ أعرف أن الصعوبة الكبري في حياتنا أن نعمل معاً فكل واحد منا يحاول أن ينجح بمفرده. وأن يهرب بنجاحه بعيداً عن الآخرين وأن يتم هذا النجاح والآخرون نيام، لكن هل يمكن أن نكسر هذه القاعدة ويحتفل أحد هذه المقاهي أو أن تحتفل كلها معاً بمرور خمس سنوات علي رحيل نجيب محفوظ؟ ستقول لي إن المناسبة مرت في الثلاثين من أغسطس الماضي. وأنه بعد العيد لا يمكن أن «يفتل الكحك» فأرد عليك بأنه مازال في هذا العام أمامنا مناسبتان الأولي يوم 12 أكتوبر القادم حيث تمر 23 سنة علي حصول نجيب محفوظ علي نوبل وهي أول نوبل تأتي للأدب العربي وربما كانت الأخيرة في حياة جيلنا علي الأقل ومجيئها كان حدثاً أدبياً وثقافياً وحضارياً وأي حدث. المناسبة الثانية تحل يوم 11/12/2011 وفي هذا اليوم تكتمل مائة سنة علي ميلاد نجيب محفوظ. فقد ولد في مثل هذا اليوم منذ قرن مضي وعندما قلت له ونحن نحتفل بعيد ميلاده الرابع والتسعين عقبال عيد ميلادك المائة استغرب الأمر كان في أعماقه يحلم بذلك وكنا أيضاً نتمناه لكن ما كل ما يتمني المرء يدركه ثمة مسافة كبري بين الأمنيات والأحلام وبين الواقع. لا يتصور أحد أن هذا كلام ترف يكتبه مثقف لم يجد ما يكتبه إلا هذا الكلام، فالاحتفال الذي تقيمه مقهي أو مجموعة مقاهي بذكري نجيب محفوظ هو عمل ثقافي وحضاري لكنه أيضاً عمل سياحي له مردود مالي ربما يتفوق كثيراً علي ما أنفق فيه، ولو فكرنا في العائد الذي يحصل عليه الإنجليز من احتفالاتهم بشكسبير علي مدار السنة كلها أو العائد الذي يحصل عليه الروس من الاحتفال بتولستوي لأدركنا أن السياحة الثقافية هي السياحة الأبقي والأكثر استمراراً علي مدار العام كله.