رسمت الحضارة الغربية لنفسها صورة براقة.. وهى كذلك بالفعل لكثير من الناس حول العالم، الكل يريد الحياة السهلة، أن يكون للإنسان حقوق يسمعها القادة، أن توفر الدول لمواطنيها الرفاهية فى الصحة والتعليم والإسكان وغيرها من الحقوق الأساسية التى جاءت فى العهدين الدوليين. نجحوا فى تصوير الأمر باعتباره أن الإنسان هو الشغل الشاغل لهم وأصل الاهتمام، وامتدت الأيادى بالأموال الصعبة لمؤسسات حقوق الإنسان من أجل تأصيل تلك المفاهيم فى المشرق المتأخر، كانت حقوق الإنسان دائمًا تسبق الاستثمارات وتصدير التكنولوجيا، والضغوط السياسية تلتف كالحيات على زهرة الحقوق والحريات، بالتوازى كانت وسائل الإعلام تختلق العداءات وتطارد المساوئ فى أى نظام سياسى يتحرك على الجهة المقابلة ويضع أولويات مغايرة تعبر عن مجتمعاته الباحثة عن سكن آدمى وفرصة تعليم ورغيف خبز. تتحدث الخارجيات الغربية وجماعات الضغط ومراكز الأبحاث ومنظمات حقوق الإنسان الدولية دائمًا عن الديمقراطية ونشرها فى المجتمعات الأخرى وتعتبرها أولوية، وهى لا شك أولوية لأى مجتمع متحضر، أو ساعٍ للنهوض، لكن هل يجب أن يتم تصديرها معلبة، بنموذج موحد على كل الدول، هل من المعقول أن تستنسخ تجربة إنسانية تعبر عن مجتمع وقيم تخصه من مجتمع آخر وصل إلى تجربته الخاصة بعد سنوات وسنوات من العمل والنجاح والفشل، وهل من المناسب أن توصم التجارب المغايرة للنموذج المصدر قبل أن تكتمل تجاربها. بل إننا إذا مددنا الخط على استقامته ونظرنا إلى تجارب التحول الديمقراطى القسرية التى تدخل الغرب بأدواته العسكرية والدبلوماسية من أجل فرضها سنجد أننا أمام دول فاشلة لا أصبحت ديمقراطية ولا عادت مستقرة كما كانت، الأخطر أن الغرب حينما شعر بالفشل هرب دون أن يدفع الفاتورة وتركت شعوب تلك البلدان لتلاقى مصيرها وحدها فيما احتفظ الغرب بمناطق نفوذ عسكرية ودبلوماسية للحفاظ على مصالحه وانتهى الأمر. فاتورة باهظة دفعها عالمنا العربى خلال فترة الفوضى التالية على ما أطلق عليه الربيع العربى وربما الرقم الدقيق هو 833 مليار دولار، وما زال التحصيل جاريًا حتى يومنا والقادم من سنوات، أموال خسرناها بسبب تجارب الغرب وتسليم المنطقة برمتها إلى تنظيم إرهابى دموى نكافح أثره المدمر على العقل العربى، بداية من خلط الدين بالسياسة، وموقفه الرافض للآخر الدينى، وقهره للمرأة وتشدده تجاه تمكينها ورفعه للسلاح ضد الحكومات ودعمه للميليشيات المسلحة والإرهابية. غاب الاستقرار والأمن فغابت الاستثمارات وهربت السياحة واختفت فرص العمل وأصبحت الحكومات فى وضع لا تحسد عليه تحت ضغط أزمات اقتصادية عالمية متلاحقة اشتدت مع إغلاق كورونا ثم حرب روسياوأوكرانيا وقرارات مواجهة التضخم الأمريكية التى صدرت تضخمًا شرسًا إلى كل دول العالم، وهروب الدولار من الأسواق الناشئة باتجاه الولاياتالمتحدة والغرب، زلزال اقتصادى ترك الدول النامية تكافح من أجل الحياة بدلًا من أن تكافح من أجل النمو. ومع تجدد اشتعال الصراع العربى - الإسرائيلى والتحولات الإقليمية الناتجة عن هجمات 7 أكتوبر 2023 ضرب الشرق الأوسط موعدًا مع نقطة تحول جديدة فى تاريخه، فما يجرى خلال الأشهر الثلاثة الماضية يؤكد أن ما بعد 7 أكتوبر ليس كما قبله، أقلها أن إسرائيل كشفت عن وحشيتها ودمويتها فى عصر يسجل كل شيء ويحفظه على صفحات التواصل الاجتماعى، والأهم أن الغرب سقط عنه قناع حقوق الإنسان حينما ساعد فى قتل الإنسان فى غزة. ربما لم يعرف التاريخ لحظة انكشاف لخطاب سياسى مخادع مثلما حدث لخطاب الولاياتالمتحدة حول حقوق الإنسان بعد دعمها غير المحدود لجرائم الحرب الإسرائيلية فى غزة، بل إن المقارنة واقعة بين تحرك إدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن تجاه الرئيس الروسى فى حرب أوكرانيا وحشدها للرأى العام الدولى من أجل إصدار مذكرة توقيف ضد الرئيس الروسى، بينما تقدم الدعم الفج والمساعدات العسكرية للحكومة الإسرائيلية المتطرفة بقيادة بنيامين نتنياهو وايتمار بن غفير لقتل الفلسطينيين فى غزة ودفعهم إلى الهجرة القسرية باتجاه مصر والأردن وهى جرائم حرب تستوجب تحرك المحكمة الجنائية الدولية، ورغم أنها موثقة ومحددة إلا أن المحكمة الجنائية لم تحرك ساكنًا، والولاياتالمتحدة أوقفت أى تحرك لوقف إطلاق النار فى غزة بحق الفيتو، وأعطت الضوء الأخضر لاستكمال عملية القتل الممنهج لمن تبقى من أهل فلسطين، ورفض الحديث عن حقوق الإنسان وقالت إنها لا ترى سوى حق الإنسان الإسرائيلى بينما الفلسطينى عربى بلا حقوق. وتكتمل الازدواجية بأن تدعى الولاياتالمتحدة أنها تنخرط مع مصر وقطر من أجل فرض الهدنة بينما ترفض فى الأممالمتحدة أى قرار يفرض على إسرائيل التوقف، ثم نسمع عن صفقة تسليح أمريكية قادمة للجيش الإسرائيلى حتى يستكمل إجرامه ضد المدنيين العزل الذى ارتكب بحقهم انتهاكات لا حصر لها بل وصنع عداءً مع أجيال قادمة بصور تجريد الفلسطينيين من ملابسهم وتصويرهم بشكل مذل ومهين. ادعت إسرائيل لسنوات أنها واحة الديمقراطية وحقوق الإنسان فى الشرق الأوسط، وتحدثت الولاياتالمتحدة عن حماية لا تنتهى لإسرائيل تصل إلى حد الحصانة المطلقة، حتى شاهد العالم قتلهم للأطفال والنساء والصحفيين، وإذلال الرجال ومنع المياه والغذاء، جرائم متعمدة ولم يحرك العالم المتحضر ساكنًا. ما حدث ويحدث فى غزة لا يمكن تجاوزه، فهو لا يمثل سقوطًا لخطاب حقوق الإنسان الغربى فقط، بل سقوط لكثير من الشعارات المرتبطة، بل وكاشف للهدف الأساسى من تمزيق العالم العربى لتنظيمات وميليشيات، وهو بقاؤه بلا حول ولا قوة فى مقاومة العربدة الإسرائيلية، بلا قدرة على مواجهة أسئلة المستقبل، بلا إمكانية لتوفير الحياة الكريمة لشعوبه، مطعون فى تجاربه الديمقراطية المستقلة.. دول بلا اعتبار تكافح من أجل الحياة.. فقط الحياة. 1