يحمل لنا شهر مارس ومنذ 54 عامًا ذكرَى استثنائية وحكاية بطولة وشجاعة مصرية كانت ولا تزال مُسطرة بأحرُف من نور فى سجلات الشرف العسكرية والمعارك الحربية.. ففى يوم 9 مارس عام 1969 نال الفريق عبدالمنعم رياض رئيس أركان حرب القوات المسلحة وقتها الشهادة.. وتخليدًا لذكراه أصبح هذا التاريخ يومًا للشهيد والذى أقرّته القوات المسلحة المصرية عقب تحقيق انتصار حرب أكتوبر عام 1973. يوم الشهيد لأن هذا اليوم يحمل ذكرَى مختلفة عن شخصية مختلفة وترتبت عليه أحداث مختلفة؛ فوجب علينا أن نعيد تنشيط الذاكرة والطواف حول مدار هذا اليوم الاستثنائى، والبداية سنتحدث عن تفاصيل وسبب اختيار 9 مارس تحديدًا ليكون يومًا للشهيد.. فعقب نجاح الفريق عبدالمنعم رياض فى إعادة بناء القوات المسلحة المصرية بعد نكسة عام 1967، نجحت مصر فى عهده فى تحقيق مبادئ استقرّت عليها القيادتان السياسية والعسكرية للبلاد فى هذا التوقيت، بدأت ب«الصمود»، عبر وقف تقدُّم العدو، والدفاع عن المدنيين وباقى التراب الوطنى غير «الأراضى المُحتلة»، ثم «الردع»، وهى المَرحلة التى تحققت فى عشرات المعارك التى أرهبت العدو، وجعلته يفكر ألف مرّة قبل التقدم عن المواقع التى يحتلها، وصولًا ل«حرب الاستنزاف»، والتى كان أحد مهندسيها الرئيسيين. التواجُد على خط النار قبيل استشهاد «رياض» بيوم، وصلته تقارير ميدانية أشارت لتوجيه «ضربات رادعة» لمواقع العدو فى خط بارليف التى كان يعتدى من خلالها على المواطنين والمنشآت الحيوية، عبر قصفها دون تفرقة بين مواطن مدنى أو مُقاتل عسكرى، وكانت ضربات «المدفعية»، وهو السلاح الذى انتمى إليه «رياض» فى بداية مسيرته، هو بطل المواجهة، ليتوجه القائد بنفسه إلى خط القتال الأمامى؛ حيث لم يكن يفصله عن العدو غير المسافة التى تفصل بين قوات الجانبين من قناة السويس، فى منطقة «لسان التمساح». وكان «الچنرال الذهبى»، حسبما عُرف «رياض»، يردد دائمًا وسط المُقربين منه، أن «مكان القادة الصحيح وسط جنودهم، وأقرب إلى المُقدمة منهم إلى المُؤخرة»، ليتقدم إلى خط الجبهة، ويصافح الضباط والجنود، حتى رصده العدو المحتل لشبه جزيرة سيناء حينها، ليجدها فرصة فى «حفظ ماء وجهه» عقب الخسائر التى أوقعها الجيش المصرى فى صفوفه، ليتم الأمر بتوجيه أبراج الدبابات للجبهة المصرية، ومن بينها منطقة تواجُد «الچنرال الذهبى»، وضرب العديد من «الهاونات»، حتى أصابت إحداها الموقع الذى تواجَد فيه، وكانت إصابته قاتلة، ليستشهد وهو «على خط النار» رفقة رجاله يوم 9 مارس عام 1969. قصة بطل استثنائى الفريق عبدالمنعم رياض وحده قصة بطل لا يتكرّر ولذلك استحقت ذكرى استشهاده أن تكون «يوم الشهيد»، وُلد فى ال 22 من أكتوبر عام 1919، فى قرية سبرباى إحدى ضواحى مدينة طنطا محافظة الغربية، ونزحت أسرة عبدالمنعم رياض من الفيوم، وكان جده عبدالله طه على الرزيقى من أعيان الفيوم، وكان والد عبدالمنعم رياض هو القائم مقام «عقيد» محمد رياض عبدالله، قائدًا ل « بلوكات » الطلبة بالكلية الحربية، والتى تخرّج على يديه كثير من قادة المؤسّسة العسكرية. ودرس عبدالمنعم رياض فى كتَّاب قريته، وتدرج فى مراحل التعليم المختلفة حتى حصل على الثانوية العامة من مدرسة الخديوى إسماعيل، بعدها التحق الچنرال الذهبى بادئ الأمر بكلية الطب بناءً على رغبة أسرته، ولكنه بعد عامين من الدراسة، فضَّل الالتحاق بالكلية الحربية التى كان قلبه متعلقًا بها. الدراسة بالكلية الحربية انتهى الفريق عبدالمنعم رياض من دراسته بالكلية الحربية فى عام 1938، وتخرّج فيها برتبة ملازم ثانٍ، ثم نال شهادة الماچستير فى العلوم العسكرية عام 1944، وكان ترتيبه الأول، وأتم دراسته كمُعَلم مدفعية مضادة للطائرات بامتياز فى إنجلترا عامى 1945، و1946، وأجاد الشهيد عبدالمنعم رياض عدة لغات منها الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية والروسية، وانتسب أيضًا،لكلية العلوم لدراسة الرياضيات البحتة، ثم انتسب وهو برتبة فريق إلى كلية التجارة. وأتم الفريق عبدالمنعم رياض دراسته بأكاديمية ناصر العسكرية العليا، وحصل على زمالة كلية الحرب العليا عام 1966، وفى عامى 1962 و1963 اشترك عبدالمنعم رياض وهو برتبة لواء، فى دورة خاصة بالصواريخ بمدرسة المدفعية المضادة للطائرات حصل فى نهايتها على تقدير الامتياز، وفى عام 1941، عُيّن عبدالمنعم رياض بعد تخرجه فى الكلية الحربية فى سلاح المدفعية، والتحق بإحدى البطاريات المضادة للطائرات فى المنطقة الغربية العسكرية؛ حيث اشترك فى الحرب العالمية الثانية ضد ألمانيا وإيطاليا. مدرسة المدفعية وخلال عامى 1947، و1948 عمل الشهيد عبدالمنعم رياض فى إدارة العمليات والخطط فى القاهرة، وكان همزة الوصل والتنسيق بينها وبين قيادة الميدان فى فلسطين، ومُنح عبدالمنعم رياض على أثر ذلك، وسام الجدارة الذهبى لقدراته العسكرية التى ظهرت آنذاك.. وفى عام 1951، تولى الفريق عبدالمنعم رياض قيادة مدرسة المدفعية المضادة للطائرات، وكان وقتها برتبة مقدم، وفى عام 1953، عُيّن عبدالمنعم رياض قائدًا ل اللواء الأول المضاد للطائرات فى الإسكندرية. ومن 1955، حتى أبريل 1958 تولى الفريق عبدالمنعم رياض قيادة الدفاع المضاد للطائرات فى سلاح المدفعية، ثم سافر الچنرال الذهبى فى بعثة تعليمية إلى الاتحاد السوفيتى لإتمام دورة تكتيكية تعبوية فى الأكاديمية العسكرية العليا، وأتمّها فى عام 1959 بتقدير امتياز وقد لقّب هناك بلقبه الشهير «الچنرال الذهبى». وفى عام 1960 بعد عودته شغل منصب رئيس أركان سلاح المدفعية، بعدها عام 1961 عُيّن الشهيد عبدالمنعم رياض نائبًا لرئيس شعبة العمليات برئاسة أركان حرب القوات المسلحة، وأُسند إليه منصب مستشار قيادة القوات الجوية لشئون الدفاع الجوى. وفى عام 1964، عُيّن الفريق عبدالمنعم رياض رئيسًا لأركان القيادة العربية الموحدة، ثم رُقِّى فى عام 1966 إلى رتبة فريق. اتفاقية الدفاع المشترك وفى مايو 1967، وبعد سفر المَلك حسين للقاهرة للتوقيع على اتفاقية الدفاع المشترك عُيّن الفريق عبدالمنعم رياض، قائدًا لمركز القيادة المتقدم فى عَمّان، فوصل إليها فى الأول من يونيو 1967 مع هيئة أركان صغيرة من الضباط العرب لتأسيس مركز القيادة، وحينما اندلعت حرب 1967 عُيّن عبدالمنعم رياض قائدًا عامًّا للجبهة الأردنية، وفى 11 يونيو 1967 اختير الفريق عبدالمنعم رياض رئيسًا لأركان حرب القوات المسلحة المصرية، وبدأ مع وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة الجديد الفريق أول محمد فوزى إعادة بنائها وتنظيمها، وفى عام 1968، عُيّن عبدالمنعم رياض أمينًا عامًّا مساعدًا ل جامعة الدول العربية. وحقق الفريق عبدالمنعم رياض عديدًا من الإنجازات خلال حرب الاستنزاف مثل معركة رأس العش التى منعت فيها قوة صغيرة من المشاة سيطرة القوات الإسرائيلية على مدينة بور فؤاد المصرية الواقعة على قناة السويس، فى آخر يونيو 1967، فضلاً عن تدمير المدمرة الإسرائيلية إيلات فى 21 أكتوبر 1967 وإسقاط بعض الطائرات الحربية الإسرائيلية خلال عامى 1967 و1968، وتدمير %60 من تحصينات خط بارليف الذى تحوّل من خط دفاعى إلى مجرد إنذار مبكر. أوسمة وميداليات متنوعة ونال الچنرال الذهبى الفريق عبدالمنعم رياض العديد من الأوسمة، منها ميدالية الخدمة الطويلة والقدوة الحسنة، وسام نجمة الشرف، ووسام الجدارة الذهبى، ووسام الأرز الوطنى بدرجة ضابط كبير من لبنان، ووسام الكوكب الأردنى طبقة أولى، وكرّم الرئيسُ الراحل جمال عبدالناصر الفريقَ عبدالمنعم رياض بمنحه رتبة فريق أول ومنحه وسام نجمة الشرف العسكرية أرفع وسام عسكرى فى مصر. عملية لسان التمساح ولأن عبدالمنعم رياض واستشهاده لم يكن بالأمر العادى؛ فقد كان سببًا فى تطور عمليات القتال والتمهيد لتحقيق نصر أكتوبر المجيد، فبأوامر شخصية من الزعيم جمال عبدالناصر لمعاقبة الموقع الإسرائيلى الذى خرجت منه الدانة التى تسببت فى استشهاد الفريق عبدالمنعم رياض يوم 9 مارس من العام نفسه، فى أثناء حرب الاستنزاف وتحديدًا فى 19 أبريل عام 1969، وفى يوم الأربعين لاستشهاد الفريق عبدالمنعم رياض قامت قوات الجيش بتنفيذ عملية «لسان التمساح» البطولية من خلال «المجموعة 39 قتال» بقيادة الشهيد العميد إبراهيم الرفاعى؛ حيث استطاع أبطال الصاعقة المصرية قتل كل جنود العدو فى الموقع ورفع العَلم المصرى عليه، والعودة بالعديد من الأسلحة وذخائر العدو دون وقوع أى إصابات كبيرة فى صفوف أبطال الصاعقة المصرية. واختار قادة المجموعة مقر إرشاد هيئة القناة بالإسماعيلية لمراقبة موقع لسان التمساح وأخذوا يستطلعون الموقع على مدار 24 ساعة ويدرسون كل ما يدور به (تسليحه - عدد أفراده - ثغراته - المنطقة المحيطة به - الأسلحة المعاونة)، وكان الموقع مكونًا من أربع دشم؛ اثنتان فى الأمام واثنتان فى الخلف بينها أرض فضاء (أرض طابور) وخلف تلك الدشم كانت مخازن الذخيرة الخاصة بالموقع ومخازن التعيينات والوقود. التدريب على اقتحام الموقع قام سلاح المهندسين ببناء نموذج مطابق لموقع لسان التمساح بمنطقة صحراوية تشبه الأرض الموجود بها موقع لسان التمساح، تدربت المجموعة لمدة شهر على اقتحام المواقع؛ حيث قسمهم قائدهم إبراهيم الرفاعى إلى أربع مجموعات، كل مجموعة مكلفة باقتحام إحدى الدشم الأربع، وكانت تحصينات الموقع توفر له الحماية من القصف الجوى بالقنابل حتى زنة 9 أطنان. فى التاسع عشر من شهر أبريل عام 1969وفى ليلة الأربعين لاستشهاد الفريق /عبدالمنعم رياض تحركت المجموعة بقيادة / المقدم إبراهيم الرفاعى ومعه قادة المجموعات ومعهم ضابط استطلاع وأبطال المجموعة من الصف والجنود، وعسكر الجميع فى مبنى الإرشاد بالإسماعيلية المواجه لموقع لسان التمساح. الضفة الشرقية مع آخر ضوء للنهار قامت المدفعية المصرية بقصف الضفة الشرقية للقناة لضمان دخول أفراد العدو للمخابئ، وأثناء القصف بدأت المجموع العبور وقد رافقهم حتى حافة القناة من الضفة الغربية الأب الروحى للمجموعة العميد مصطفى كمال الذى قام بالتنسيق مع العميد محمد عبدالحليم أبو غزالة قائد المدفعية فى الجيش الثانى وقتها، وبدأ عبور الرفاعى وأبطال المجموعة إلى الضفة الشرقية فى عدد ستة قوارب زودياك وبعد هبوطهم على الضفة الشرقية اتجهوا مباشرة لموقع لسان التمساح. اتصل الرفاعى بالعميد مصطفى كمال وطلب منه إيقاف القصف المدفعى وبدأوا الهجوم على الموقع قبل أن يفيق العدو أو يخرج أفراده من مخابئهم التى احتموا بها من القصف المدفعى المصرى، وبدأ الهجوم بإلقاء القنابل اليدوية والقنابل الحارقة من فتحات التهوية بالدشم وقطع أسلاك التليفونات وقام الأفراد بحرق العربات الموجودة بالموقع وإسقاط العَلم الإسرائيلى وتدمير المدافع وتدمير الموقع بالكامل. خرج أفراد العدو من الدشم هاربين كالفئران لتحصدهم طلقات أفراد المجموعات، وبذلك تمكنت المجموعة من القضاء على الموقع بالكامل وكانت محصلة العملية قتل 44 فردًا هم كل قوة الموقع، وبعد الاستيلاء على الموقع بالكامل تم نسف مخازن الذخيرة ومخازن الوقود إضافة إلى نسف مدرعة ودبابتين وقتل طاقمهما نتيجة لغم تم زرعه بجوار الموقع، إضافة إلى الاستحواذ على إريال جهاز لاسلكى، وتم إنزال العَلم الإسرائيلى ورفع العَلم المصرى وانتهت هذه العملية الساعة التاسعة مساءً وانتظرت المجموعة بالموقع ساعتين كاملتين قبل العودة. القضاء على أسطورة الجندى الإسرائيلى عاد أفراد المجموعة سالمين بعد أن أذاقوا العدو مرارة الهزيمة، وبعد هذه العملية أطلق موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلى على إبراهيم الرفاعى ورجاله اسم «أشباح الليل» لأنهم لا يتركون خلفهم أى أثر بعد تنفيذ عملياتهم، كما أطلق عليهم البعض اسم «رأس النمر»، وقد كرّم الزعيم جمال عبدالناصر أفراد المجموعة وزار من جُرح منهم بالمستشفيات.. وتعتبر عملية لسان التمساح المواجهة الحقيقية الأولى بين الجندى المصرى والجندى الإسرائيلى منذ حرب 1948، وفيها تم القضاء على خرافة أسطورة الجندى الإسرائيلى. أقوال مأثورة ولأنه كان قائدًا عسكريًا مختلفًا فقد كان للچنرال الذهبى العديد من الأقوال المأثورة التى تعتبر دستورًا عسكريًا يصلح فى كل زمان.. فهو القائل: «لا تتسرع فى قراراتك وحينما تقرر لا تتراجع أو تتردد، وكن بين جنودك فى أحلك الظروف ولا يرون منك علامات القلق والارتباك، وكن دائمًا بين جنودك فى السلم ومعهم فى الصفوف الأمامية فى الحرب». وهو القائل أيضًا: «كن قدوة صادقة لجنودك، واحمل معك ميزانًا حساسًا للثواب والعقاب، واهتم بشئون جنودك ومشاعرهم، ولا تكن تقليديًا أو نمطيًا واسعَ للإبداع والابتكار». 1