هنا - فى ساحة المشهد الحسينى - الكل مجذوب.. تقودك خُطاك لتشكو له من الخطايا.. تلبى نداء قلبك ليطمئن.. وتحمل مطلبك وأنت واثق من الاستجابة.. هذا هو حال كل الهائمين فى رحاب سيدنا الحسين.. تفقد مصائب الدنيا ثقلها أمام مقامه وكأنه يحملها عنك.. كل يأخذ على قدر حاجته من نوره ولا يخذل أحدًا. قادتنى إليه الخطوات فى الأيام الأولى من رمضان فوجدت الشوق فى أعين كل المحيطين بى، يهرولون إلى مقامه كأنهم عطشى يريدون الارتواء؛ خصوصًا بعد إغلاق دام ثلاثة أسابيع لأعمال التطوير. مرت تلك الأسابيع طويلة على مريديه وألهبت الشوق فى صدورهم فجاؤوه من كل فج عميق. أمام المقام، يقف رجل يبدو أنه تجاوز السبعين من عمره، يمسح بعينه المقام الشريف وكأنه يتملى فى شىء فقده طويلًا، وينطق بهمهمة صعيدية سمعت منها: «كده تسيبنى كل ده.. ما انت عارف إنك صحبى وحبيبى اللى بعرف أشكيله وأفضفض معاه»، يخاطب المقام بتلك الكلمات بينما تغادر الدموع عينيه. بعدما انتهى من وقفته الطويلة مع سيدنا الحسين، قلت له: «شكل مطلبك كبير»، نظر لى وكأنه يدافع عن نفسه من تهمة ما: «والله ماعاوز حاجة.. عاوزه ما يقطعش بيّا.. ولا ينقطع المَدد». لم يكن الحاج سعيد القناوى ككل المريدين لمقام الحسين أو «الزوار الطيارى» كما يصفهم؛ فهو زائر يومى أو «صديق لسيدنا الحسين» كما يحب أن يعرّف نفسه. يأتى «القناوى» يوميًا إلى سيدنا الحسين منذ 10 أعوام بعد أن ماتت زوجته، وأصبح وحيدًا فى الدنيا بلا زوجة أو ولد أو حتى أصحاب، يقول: «من يومها وأنا اتصاحبت على سيدنا الحسين.. كل يوم أجيله أشتكيله وأحكيله على اللى حصل فى يومى.. أو حتى أفضل قاعد جمبه ساكت.. وأروح بيتى مرتاح.. وطول العَشر سنين اللى فاتوا كانت التلت أسابيع اللى اتقفل فيهم المقام أصعب أيام عشتها.. وكأننى انهارده لقيت مَيّه فى الصحرا». تفديك روحى يا ضريحًا حوى حسيننا السبط الإمام الهمام بيت كريم هَلّ منه الهدى فصار كالبيت العتيق الحرام كم فيه من نور ومن رونق كأنه روضة خير الأنام لا تزال ساحة الإمام الحسين تعج بالمشتاقين والمجاذيب، توزع سيدة الحلوى على كل الموجودين بابتسامة رضى ووجه مبتهج وهى تكرر: «الحسين بيحبكم».. تكمل الطوف على كل الموجودين بخطوة أبطأتها سنوات العمر وجيب كأن ما به من حلوى لا ينفد مَهما أخذت منه؛ بل يزيد. اعتادت الست زهرة، رُغم كبر سنّها أن تأتى بين وقت وآخر لزيارة المقام: «كل امّا الدنيا تضيق عليا باجى للحسين وعمرى ما خذلنى أبدًا دايمًا بمشى من عنده مبسوطة وقلبى مطمن فلازم أفرّح الناس معايا وأبسطهم زى ما فرّحنى». أغلب طلبات «زهرة» من الحسين تكون من نصيب أبنائها: «دايمًا بطلب منه يفضل جمب عيالى فى الزمن الصعب ده.. عندى بنت فى رابعة هندسة وولد دكتور أسنان ودول اللى طلعت بيهم من الدنيا وشقيت عليهم بعد لمّا أبوهم مات علشان أكبّرهم.. والبركة كانت أهم حاجة فى مشوار تربيتهم». من كثرة ما تقابل فى تلك المنطقة وتتابع ثقة الناس فى تلبية احتياجاتهم، وتشعر وكأنك فى «هيئة بريد السماء»، حالة كاملة تشعرك أن الهواء مختلف فى منطقة الحسين وأكثر نقاء من بقية الأماكن بالقاهرة.. لم يقطع تلك الأفكار التى تدور فى رأسى سوى حديث شاب فى العشرينيات من عمره، باستخفاف لتلك الحالة أثناء جلوسه على أحد المقاهى المجاورة للمسجد: «أنا مش فاهم الناس دى عامله كده ليه.. الحسين أصلًا مش مدفون هنا». وكأن صوت ذلك الشاب واستنكاره ذاب وسط الزحام ولم يسمعه أحد - رُغم ارتفاع صوته - سوى القهوجى، الذى رد عليه بمنتهى الطمأنينه: «أكيد الناس حاسة بحاجة انت مش حاسسها.. وحتى لو اللى بتقوله صح الحسين فى قلوبنا». بعد هذا الرد شعرت أن الحسين يختار حتى العاملين بالمقاهى المجاورة له وليس زوّاره فقط، حالة من السلام لا يمكن أن يكدرها تشكك عابر، وتروض استنكار شاب يجلس على المقهى ليكون هو نفسه من المجاذيب ذات يوم. وأن يصبح ذلك الموقف آلة زمن فتحت لنا الآن. 2 سبتمبر 1153م خصص د. سعد ماهر محمد خمسة فصول كاملة عن الإمام الحسين فى موسوعته المهمة: «مساجد مصر وأولياؤها الصالحون»، الصادرة عن هيئة قصور الثقافة.. فتنقلنا لنعيش تفاصيل نقل الرأس الشريف من عسقلان ليستقر فى القاهرة؛ حيث وصل به إلى القصر الأمير سيف المملكة تميم يوم الثلاثاء العاشر من جمادى الآخرة (2 سبتمبر 1153م ).. وهى الواقعة التى يحكى عنها المقريزى: «فقدم بالرأس الأستاذ مكنون فى عشارى من عشاريات الخدمة وأنزل به إلى الحديقة، ثم حمل فى السرداب إلى قصر الزمرد، ثم دفن عند قبة الديلم بباب دهليز الخدمة». فيما يكمل ابن عبدالظاهر جزءًا آخر من الحكاية قائلًا إن: «طلائع ابن رزيك بنى جامعه خارج زويلة ليدفن بها الرأس، طلبًا للفخر فغلبه أهل القصر على ذلك وقالوا لا يكون ذلك إلا عندنا فعمدوا إلى هذا المكان وبنوه له ونقلوا الرخام إليه، وكان ذلك فى خلافة الفائز على يد طلائع سنة 1154م». ومن ذلك نفهم أن رأس الحسين بقى عامًا مدفونًا فى قصر الزمرد، حتى أنشئت له قبة خصيصًا سنة 549ه وهى المشهد الحسينى الحالى. وعن تلك الحالة التى تعرض لها جسد الحسين، قال سبط الجوزى عن وجود الرأس بالقاهرة: «فى أى مكان كان رأس الحسين أو جسده فهو ساكن فى القلوب والضمائر قاطن فى الأسرار والخواطر».. ألا يذكرك ذلك بما قاله القهوجى؟! سبط تفرع منه نسل المصطفى وأضاء مصر بوجهه الوضاء فهو الكريم ابن الكريم وجدّه خير الأنام وسيد الشفعاء. لا يتجاوز سن عرفة «القهوجى» أربعين عامًا، يتحرك ملبيًا طلبات الزبائن بجسد نحيف لا تخفى الملابس أماكن التقاء عظامه ببعضها ولا يتوقف عن طلب مَدد الحسين من مقهاه المجاور: «مش الناس بتقول من جاور السعيد يسعد.. مين أدى بقى وأنا جمب سيدنا الحسين طول النهار دى حاجة تفرّح الواحد وتخليه مطمّن». أمّا عن الموقف الذى دار بينه وبين الشاب فقال: «ما حدش بييجى هنا بمزاجه حتى لو جاى يقعد على القهوة برده مندوه من الحسين.. وكلام الشاب ده مجرد مكابرة، لكن معدنه نضيف.. وكتير عدّوا علينا بالشكل ده ودلوقت ما يقدروش يغيبوا عن زيارة الحسين». عمل «عرفة» من مقابلة زوار الحسين، يقول عن أغرب موقف واجهه: «أنا طول عمرى مؤمن بكرامات الحسين.. لكن ده ما يمنعش أبدًا إنى بستغرب لما بشوف حاجة قدامى.. من حوالى 4 سنين جالى بيه كبير هنا من زوار الحسين وادالى 30 ألف جنيه قاللى دول أمانة عندك تديهم لصاحب النصيب ومشى.. المهم خدت الفلوس وفضلت عندى 3 أيام ومعرفش هعمل فيهم إيه.. لحد مالقيت واحد خارج من عند سيدنا الحسين وجاى على القهوة وهو شايل الهم حاولت أفتح معاه فى الكلام لحد ما اتكلم وعرفت إن والدته تعبانه وعاوزه عملية ب30 ألف جنيه.. ساعتها عرفت إنه صاحب النصيب ولما خدهم ما بقاش مصدق نفسه إن الدعوة استجابت بالسرعة دى». لا يمل عرفة من الحكايات.. ورغم كثرتها فإنها قادرة على الإدهاش دائمًا، يفتخر دائمًا بأنه «وسيط الكرامات».. ولا يكف عن طلب المَدد أثناء تقديم الطلبات. بهذه الطريقة كل من حول الحسين يعملون فى خدمة زواره ومجاذيبه؛ حيث لا تنضب الحكايات ولا تنتهى المطالب أبدًا.. طريقه مفروش بالشوق والخروج من عنده معهود بالاستجابة.. والمقاهى حوله جزء من مشهده الكبير. 2 3