جمال عبد الناصر ملف إصلاح وهيكلة الصحافة ظل فى مقدمة الملفات المسكوت عنها طوال أكثر من ستة عقود وبالتحديد منذ صدر قرار تأميمها فى مطلع الستينيات من القرن الماضى.. وبالرغم من ذلك ظلت صاحبة الجلالة آخر القلاع التى يتحصن بها النظام السابق وأذنابه من المنتفعين وأصحاب المصالح.. فكان من الطبيعى أن يضع شباب ثورة 25 يناير قضية تطهير المؤسسات الصحفية ضمن أولوياتهم، والدعوة لتصحيح مسار تلك الصحف انطلاقاً من دورها كسلطة رابعة، مهمتها الدفاع عن الحريات العامة ومكافحة الفساد، ونشر ثقافة الديمقراطية وضبط إيقاع المجتمع. ترى ما الجهة القادرة على القيام بهذا الدور بنجاح فى الوقت الراهن؟ فهل الدكتور يحيى الجمل نائب رئيس مجلس الوزراء والمشرف على ملف الصحافة قادر على اختيار قيادات صحفية جديدة لهذه المؤسسات، وما ضمانات حياده والمعايير التى يختار بناء عليها؟ يحيى الجمل مع خالص التقدير لمكان ومكانة الدكتور يحيى الجمل كأحد دعاة التغيير والحرية وكفقيه قانون مرموق فى مجاله إلا أننى لم أتفاءل خيراً عندما اختاره الفريق أحمد شفيق رئيس الوزراء السابق ليكون مسئولاً عن إجراء التغييرات الملحة فى الصحف القومية.. هذا الشعور استمر بالطبع مع تمسك رئيس الوزراء الجديد الدكتور عصام شرف به للقيام بنفس المهمة.. عدم التفاؤل لا يرجع إلى التشكيك فى نزاهة وحكمة الدكتور الجمل بقدر القلق من عدم تخصصه وقدرته على الإحاطة بدهاليز ودروب الصحافة المصرية السحيقة، وعدم تمكنه من الفرز الدقيق لتمييز الصالح من الطالح وقلة الإلمام بكوادر صناعة الصحافة فى مصر، لأنه ببساطة ليس مجال تخصصة وتتوقف علاقته بالصحافة عند تسليم مقالاته المتميزة للصحف. انطلاقاً من المثل القائل «أهل مكة أدرى بشعابها» فقد كنت أتوقع من الدكتور شرف إسناد هذا الدور إلى شخصية صحفية مشهود لها بالكفاءة والمهنية مثل الأستاذ «سلامة أحمد سلامة» خاصة أن اسمه لم يغب عن المجلس العسكرى المؤقت وتمت دعوته إلى اجتماع حضره عدد كبير من الشخصيات العامة من بينها الدكتور محمد البرادعى وعمرو موسى وغيرهما.. إذا كان مجلس الوزراء يساوره القلق أن يفتقد الأستاذ سلامه أو غيره مبدأ الحيادية فى اختيار الأسماء المطروحة.. كان بإمكانه تشكيل مجلس من الحكماء والشخصيات العامة والمثقفين تكون الغلبة فيه للصحفيين المهنيين المخضرمين ويتم التصويت داخل هذا المجلس على الأسماء المطروحة بناء على مقابلات شخصية يجريها المجلس مع الأسماء المرشحة لشغل المواقع القيادية فى تلك الصحف.. هذه مجرد اجتهادات أقدمها للدكتور عصام شرف لوضعها فى الاعتبار إذا رغب بصدق أن يحسم واحدا من أهم القضايا الخطيرة والملحة فى مرحلة ما بعد25 يناير، وبذلك يكون له السبق فى وضع أول حجر فى بناء صحافة وطنية حرة!! فى إطار البحث عن حلول لإصلاح ما أفسدته أنظمة الحكم السابقة فى ملف الصحافة المصرية، يجب الاعتراف أولاً بأن الإرث الضخم من المشكلات فى الصحف القومية الذى تسلمه الدكتور عصام شرف وفريق عمله لا يرجع إلى فترة حكم مبارك الطويلة، بل تعود بداية أزمة الصحافة إلى زمن الحقبة الناصرية وبالتحديد عندما اتخذ الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بحسن أو سوء نية قرار تأميم الصحافة، فقضى على آخر أمل فى حرية الرأى بمصر، قرار التأميم سبقته حملة شعواء بحق الصحافة والصحفيين، ففى خطاب عيدالثورة عام ,1959 هاجم ناصر الصحافة واتهمها بعدم إلقاء الضوء على قضايا المواطنين الكادحين، فى الوقت الذى تخصص فيه مساحات كبيرة لأخبار أبناء الطبقة الأرستقراطية، وسيدات المجتمع، واصفاً الصحافة بأنها تقدم صورة بعيدة كل البعد عن المجتمع الاشتراكى الجديد.. كان هذا الخطاب إشارة واضحة إلى النية المبيتة لتكميم الأفواه وتقييد الحريات واستخدام الصحافة فى توجيه المجتمع.. وسط هذه الاتهامات اطمئن الجميع إلى أن المناخ معبأ ومشحون ضد الصحافة والصحفيين فتم اتخاذ قرار التأميم الذى يعتبر السكين الذى ذبح الحرية وأدخل صاحبة الجلالة فى محنة من مايو 1960 لم تستطع التخلص منها حتى الآن. على مدى ستة عقود متواصلة، استمرت الصحافة المصرية تئن فى صمت تحت سيطرة ورقابة أجهزة الحكم المتعددة وبدلاً من أن ترعى مصالح المجتمع ظل دورها قاصرا على الدفاع عن الحاكم وقراراته بالحق وبالباطل والترويج له بعيداً عن أصول وقواعد العمل المهنى أو الأخلاقى.. من المثير أن عددا من العاملين فى بلاط صاحبة الجلالة ساهموا وتحمسوا لتأميم مهنتهم، كان الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل فى مقدمة هؤلاء المشاركين فى قرار «التكميم».. وفى ظل هذه الأجواء الغائمة ظهرت أقلام عديدة قاومت جريمة التأميم كان أبرزها الأخوين مصطفى وعلى أمين، سلامة احمد سلامة وجلال الدين الحمامصى وعائلة أبوالفتح التى اضطر أغلب أفرادها للهجرة خارج البلاد هرباً من المراقبة والملاحقة الأمنية.. كان قرار التأميم سبباً فى سحب البساط من تحت أقدام الصحافة فأفقدها دورها الوطنى المنوطة به وأصبحت بمثابة نشرات تروج الدعاية الممجوجة للدكتاتور.. ربما يكون التحسن الوحيد الذى شهدته الصحافة تم على استحياء فى أواخر عهد الرئيس السادات بعد أن أجرى حزمة من الإصلاحات كان من بينها تأسيس المنابر ومن ثم السماح لهذه الكيانات الحزبية حق إصدار الصحف.. تلك الخطوة كانت طوق النجاة للصحافة المصرية فظهرت تجارب صحفية لامعة رغم العراقيل والصعوبات التى واجهتها باعتبارها صحافة حزبية معارضة.. لكن حال الصحف والمؤسسات القومية ظل كما هو لم يطرأ عليه أى تعديل جوهرى، حتى جاء عصر مبارك الذى لعبت فيه الصحافة دورا سلبيا كرست خلاله لمفاهيم خاطئة حول الاستقرار والتنمية الوهمية باستثناء تنمية ثروات أسرته وحاشيته الفاسدة. لكن فى الخمس سنوات الأخيرة قبل سقوط حكمه سمح الرئيس السابق لأول مرة بظهور شركات صحفية خاصة.. رغم النجاح والثقة التى تمتعت بها تلك الصحف إلا أنها تظل تجارب ناقصة باعتبارها صحافة رجال الأعمال يصطدام العاملون فيها دائما بشبكة علاقات ومصالح الملاك الذين عادة ما يسعون إلى جنى أكبر المكاسب من وراء مشروعاتهم الصحفية.. وبقى الصحفيون المصريون محاصرين بين سندان القيود فى المؤسسات الحكومية ومطرقة بزنيس أصحاب تلك الصحف! إن التدخلات الأمنية بحق الصحافة طوال العقود الماضية تركت آثارها السلبية على واقع مهنة الصحافة العليلة فتراجع المستوى المهنى، وتداخل الرأى مع الخبر واختلط الإعلان بالإعلام، وانقلب كثير من الموازين، فتاهت أصول وقواعد المهنة بين أجيال فقدت الأمل فى إصلاح وتغيير الواقع المرير وأجيال جديدة حاولت التكيف مع الأوضاع المقلوبة فلم يجدوا سوى الانتهازية وسيلة لتحقيق طموحاتهم. من المسئول عن هذا الوضع المتردى للصحافة المصرية؟ بالطبع عوامل كثيرة ساهمت فى النزول بصاحبة الجلالة إلى هذا المستوى المؤلم والمهين.. أهمها سطوة أجهزة الأمن تماماً على الصحفيين بطريقة مبالغ فيها لدرجة أن أحد القيادات الأمنية برر لى ذلك بأنه لو أخطأ طبيب فإن الضحية سيكون مريض واحد بينما لو أخطأ صحفى سيكون عدد الضحايا ضخماً.. هذه الرؤية هى التى كانت تحكم القيادات الأمنية التى تتولى الرقابة والسيطرة على الصحافة والصحفيين طوال السنوات الماضية، وربما ما كشفت عنه وثائق مباحث أمن الدولة وما تسرب من تسجيلات تليفونية بين بعض الصحفيين ورجال الأعمال مؤخراً يكشف عن العلاقة غير السوية بين أجهزة الأمن من ناحية وبين الصحفيين والعملاء والمتمولين من ناحية أخرى. أما القضية الأكثر خطورة على مهنة الصحافة فتتلخص فى أسلوب اختيار القيادات الصحفية فى المؤسسات الحكومية، حيث تولت القيام هذه المهمة جهات غامضة تتجاهل النزاهة والمهنية والحيادية والحرفية عن عمد لحساب الولاء والطاعة فى القيادات المرشحة، مما ترك آثارا تدميرية على البنية التحتية لمهنة الصحافة.. النموذج الصارخ على ذلك معايير اختيار آخر فريق صحفى مازال يمارس مهام عمله فى تلك المؤسسات حتى الآن.. وفى الخمس سنوات الأخيرة ابتدع النظام السابق عضوية الحزب الوطنى صكا لتبوؤ المناصب القيادية، ومن ثم تحولت هذه العضوية إلى باب خلفى لتدمير ما تبقى من المهنية فى المؤسسات الصحفية التى كانت مدارس رائدة فى الماضى. محمد حسنين هيكل بما أن الحكومة أخذت على عاتقها الإنفاق بكرم على المؤسسات الصحفية الكبرى من أموال دافعى الضرائب فهل حان الوقت للبحث عن آلية جديدة لإدارتها ووضع معايير شفافة لاختيار قيادتها بما يضمن حماية مهنة الصحافة من الانقراض ووقف مسلسل نزيف المال العام فى تلك المؤسسات الفاشلة؟ فى ضوء واقع الصحافة المرير هل يستطيع الدكتور يحيى الجمل أو غيره إيجاد حلول جذرية لإنقاذ صاحبة الجلالة من براثن الانهيار والتخلف وإعادة الثقة بينها وبين الرأى العام الذى انصرف عنها فى السنوات الأخيرة إلى الفضائيات والوسائط الإعلامية الأخرى لعله يجد فيها مأربه؟! وهل تكون ثورة 25 يناير فرصة لإيقاظ الصحافة من سباتها العميق والطويل لتعود نبراساً يضىء كل شبر فى أرض مصر؟! هذا ماستجيب عنه الأيام القادمة.