منذ إعلان الرئيس الأمريكى دونالد ترامب قراره بالانسحاب من الاتفاق النووى مع إيران، لم يستطع الإيرانيون الحصول على ضمانات «عملية» من الأوروبيين بمواصلة العمل بالاتفاق النووى الموقع فى 2015، واستمرار التبادل التجارى بين أطراف الاتفاق؛ لكنهم وجدوا أن إدارة ترامب ماضية فى تفعيل عقوباتها ضد طهران بل والتصعيد بصورة أقلقت المسئولين الفارسيين. وزير الخارجية الأمريكى مايك بومبيو، حدد 12 شرطًا لتجنب «عقوبات تاريخية» تعتزم بلاده فرضها على إيران ومقدمة لحصار غير مسبوق، وكان إعلان وزارة الخزانة الأمريكية إدراج أفراد وكيانات إيرانية فى قائمة العقوبات، قالت: إنهم على صلة ب«الحرس الثوري» الإيرانى. وذكرت الوزارة أسماء الأشخاص الخمسة، وهم: مهدى أذربيشه، ومحمد جعفرى، ومحمود كاظم أباد, وجاويد شير أمين، وسيد محمد طهرانى. إضافة إلى إدراج وزارة الخزانة الأمريكية رئيس البنك المركزى الإيرانى «فالى الله سيف»، على قوائم الإرهاب وثلاثة أفراد آخرين، بالإضافة إلى رئيس بنك البلاد الإسلامى فى العراق، شكل ضربة مؤلمة لطهران، إذ أعلنت الخزانة الأمريكية أن «فالى» قام بتمرير ملايين الدولارات سرًا لمصلحة الحرس الثورى الإسلامى عبر البنك العراقى من أجل دعم حزب الله. زاد من القلق الإيرانى أن الشركات الأوروبية الكبرى التى وقعت اتفاقيات مع الحكومة الإيرانية بعد عام 2015 بدأت تستجيب للقرار الأمريكى، وبشكلٍ مبكِر، فشركة النفط الفرنسية العِملاقة «إنجى» أعلنت أنها ستوقِف أعمالها فى إيران فى نوفمبر المقبل، وحذت شركة «توتال» النفطية الكبرى حذوها عندما قالت: إنها لن تكمل مشروعها فى قطاعى الغاز والنفط فى حال عدم حصولها على استثناء أمريكى. كما أن هناك صفقات تجارية أخرى أبرمتها الشركات الأوروبية مع الحكومة الإيرانية فى طريقها للتوقف أو الإلغاء من بينها: شركة ساجا للطاقة «نرويجية» التى عقدت صفقة بقيمة 3 مليارات دولار لبناء محطات لتوليد طاقة شمسية، وشركة إيرباص توصلت لصفقة تبيع بموجبها 100 طائرة ركاب إلى شركة إيران إير، وشركة التوربينات الأوروبية «إيه تى آر» «وهى شراكة بين شركتى ليوناردو الإيطالية وإيرباص الأوربية» وافق على بيع 20 طائرة لإيران. يضاف إلى ذلك شركتا سيمنز الألمانية التى وقعت عقودًا لتحديث شبكة السكك الحديدية الإيرانية وإعادة تزويدها ب 50 قاطرة، و«إف إس» الإيطالية المملوكة للدولة عقدت صفقة بقيمة 1.4 مليار دولار لبناء خط سكك حديدية فائق السرعة بين مدينة قوم وأراك، علاوة على «رينو» الفرنسية التى عقدت صفقة لتنفيذ مشروع مشترك، بما فى ذلك إنشاء مركز هندسى ومصنع إنتاج لتعزيز القدرة على إنتاج سيارات رينو فى إيران إلى 350 ألف حافلة سنويًا. أضف إلى ذلك أن الجولة التى قام بها وزير الخارجية الإيرانى محمد جواد ظريف للدول الخمس الموقعة على الاتفاق النووى لم تستطع تقديم ضمانات عملية ملموسة لإيران، ولعل هذا ما دفع ظريف إلى التصريح بعد لقائه مع المبعوث الأوروبى للطاقة ميجيل أرياس كانيتى فى طهران أن تعهدات أوروبا بإنقاذ الاتفاق النووى غير كافية، ويجب القيام بخطوات إضافية، لأن الدعم السياسى ليس كافيًا. تلك التطورات دفعت مرشد إيران آية الله على خامنئى إلى إعلان سبعة شروط للإبقاء على الاتفاق النووى مع القوى العالمية من ضمنها اتخاذ البنوك الأوروبية خطوات لتأمين التجارة مع بلاده بعد انسحاب الولاياتالمتحدة من الاتفاق، كما أنه اشترط أيضا أن تحمى القوى الأوروبية مبيعات النفط الإيرانية فى مواجهة الضغوط الأمريكية وأن تواصل شراء النفط الخام الإيرانى وأن تعد بألا تسعى لمفاوضات جديدة بشأن برنامج إيران للصواريخ الباليستية وأنشطتها بالشرق الأوسط. وطالب بأن تؤمن البنوك الأوروبية التجارة مع إيران وأن تضمن أوروبا مبيعات النفط الإيرانية ضمانا تاما. وفى حالة تمكن الأمريكيين من الإضرار بمبيعاتنا النفطية يجب أن يعوض الأوروبيون هذا ويشتروا النفط الإيرانى، إلا أنه فى الوقت ذاته جدد موقفه بأنه لا يثق فى الدول الأوروبية الثلاث «فرنسا وألمانيا وبريطانيا». ومن الملاحظ على المطالب الإيرانية من الأوربيين أنها تركز على الجوانب الاقتصادية وضرورة دعم إيران فى هذا الجانب فى الأساس خاصة الصادرات الإيرانية من النفط التى تعول إيران عليها كثيرا لتكون المخرج من الأزمة الاقتصادية، لأن الأزمة التى تعيشها إيران وتهدد أركان نظام الملالى هى فى الأساس اقتصادية فتفاقم معدلات الفقر وزيادة معدلات البطالة كانت الأسباب الرئيسية التى دفعت الإيرانيين والشارع الإيرانى إلى الخروج فى مظاهرات يناير الماضى. لقد كان التعويل على المكاسب الاقتصادية التى كانت ستنجم عن تطبيق الاتفاق النووي - إذا قدر له إكمال مدته الزمنية – كبيرة من جانب النظام الإيرانى الذى رأى فيه المخرج للأزمة الاقتصادية الطاحنة التى يعيشها منذ سنوات. ومع تصاعد حدة المواقف الأمريكية ضد إيران وتسارع إجراءاتها ضد عدد من المسئولين الإيرانيين والتى حددتها وزارة الخزانة الأمريكية بأن الأمر يستغرق فترة 90 و180 يوما قبل استئناف عقوبات متنوعة على إيران. ويحل الموعد الأول لإعادة العقوبات فى السادس من أغسطس المقبل، ويشهد تفعيل عقوبات تؤثر على قدرة إيران على شراء الدولار الأمريكى، والتجارة فى الذهب وغيره من المعادن، بجانب قيود على الطيران وصناعة السيارات. أما الموعد الثانى، فيأتى فى الرابع من نوفمبر، ويتضمن إجراءات تتعلق بالمؤسسات المالية والنفطية الإيرانية. وفى نهاية الفترة المحددة ب 180 يوما، تُفعل العقوبات على الأفراد الذين كانوا على قائمة عقوبات الخزانة الأمريكية قبل الاتفاق النووى. إن عملية خنق إيران اقتصاديا ستكون مقدمة للضغط على الشارع الإيرانى كى يخرج مطالبا بتغيير النظام خاصة وأن حلقة التظاهرات التى حدثت فى يناير الماضى والهتافات المطالبة بإسقاط المرشد وإحراق صوره لم تكتمل بعد، ولم تصل لمحطتها النهائية، بالرغم من قمع تلك المظاهرات بالقبضة الحديدية للنظام الإيرانى عن طريق الحرس الثورى الإيرانى. إيران تحاول المناورة مع الأوربيين للخروج بأى مكسب خاصة أن موقف روسيا وإن كان مع الاتفاق النووى والإبقاء عليه؛ إلا أن المصالح الروسية تتقاطع مع المصالح الإيرانية خاصة فى سوريا ولعل هذا ما أدركته طهران بعد المواجهة التى تمت بين الإيرانيين والإسرائيليين على الأرض السورية أكثر من مرة خلال الشهر الجارى، خاصة أن موقف روسيا من تلك المواجهات اتسم بالضبابية، وكان بإمكانها إيقاف الهجمات الإسرائيلية على الأراضى السورية. تمدد النفوذ الإيرانى فى سوريا أقلق الروس والإسرائيليين على السواء ولعل مطالبة الأولى بانسحاب جميع القوى الأجنبية من الأراضى السورية أثناء اجتماع قمة الأسد بوتين فى سوتشى الأُسبوع الماضى، لم يستثن القوات الإيرانية، أمر أقلق الإيرانيين وجعل غموض الموقف الروسى من إيران والاتفاق النووى عرضة لمزيد من المساومات والتنازلات، خاصة أن صفقة صواريخ إس 300 الروسية لم تسلم إلى إيران حتى الآن، ولن تسلم إلى سوريا أيضًا كما أعلنت روسيا مؤخرًا.