ترامب وضع العرب والمسلمين أمام الأمر الواقع.. فعل ما لم يجرؤ أى رئيس أمريكى على فعله منذ عام 1995، عندما أقر الكونجرس الأمريكى قانونًا يعرف بقانون السفارة الأمريكيةبالقدس! كافة الإدارات الأمريكية بدءا من كلينتون وبوش وأوباما كانت ترجئ الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية لها. الحسابات كانت دقيقة ومعقدة.. يحسب لها ألف حساب طوال العقود الماضية، منذ بدء الصراع العربي-الإسرائيلى، الذى تحول واختزل بعد ذلك إلى صراع فلسطيني- إسرائيلي! فعلها ترامب وحقق حلم إسرائيل الذى طالما سعت لتحقيقه منذ عام 1948. حققه ترامب، وصنع فى الوقت ذاته كابوسًا للعرب والمسلمين فى الذكرى المئوية لوعد بلفور المشئوم.. فإذا كان الإنجليز حققوا حلم الصهيونية العالمية بإقامة دولة لهم على أرض فلسطين، فإن الأمريكان ضمنوا أمن وبقاء إسرائيل بالقدس كعاصمة لهذا الكيان الصهيونى. وفى حقيقة الأمر.. فإن التدهور الذى شهدته القضية الفلسطينية خلال السنوات الأخيرة خاصة فى أعقاب الانقلاب الذى قامت به حماس فى قطاع غزة عام 2007 أفقد القضية الفلسطينية زخمها لدى المجتمع الدولى، ولم تعد تحتل الأولوية لدى الأجندة الدولية.. وصار الحديث عن ضرورة إحداث تقارب فلسطيني- فلسطينى أولا.. وبعد ذلك يتم الحديث عن تقارب فلسطيني- إسرائيلي! إضافة إلى ما شهدته الدول العربية فيما بينها من حروب وصراعات سواء فى اليمن وسوريا وليبيا والعراق!.. المسلمون بينهم صراعات وخلافات وحروب بالوكالة مثلما يحدث من تجاذبات بين السعودية وإيران أو ما يحدث بين تركيا والسعودية والإمارات من خلاف نتيجة دعم الأخيرة للجماعات الإرهابية. ولم تستطع أغلبية الدول على الصعيد الإسلامى أن تقدم شيئًا بشأن القدس سوى مزايدات وشعارات ومواقف سياسية؛ لتحقيق مكاسب قومية سواء كانت فارسية أو عثمانية أردوغانية. لكن السؤال الذى يطرح نفسه ما الذى أوصلنا لهذا اليوم ؟ هل فقدت الدول العربية والإسلامية أوراق الضغط على الإدارة الأمريكية ورئيسها ترامب الذى جاء إلى الدول العربية وحقق صفقات تجارية وعسكرية قدرت بنحو 460 مليار دولار من دولة واحدة. الدول العربية والإسلامية لم تفعل شيئا منذ احتلال القدس وحتى الآن لم تستطع تغيير شيء، الأولويات لدى الدول العربية والإسلامية تغيرت وتبدلت الاهتمامات وأصبحت منشغلة بأمنها وبوجودها، بعد أن كانت فى وقت سابق منشغلة بحدودها. الدول العربية قبل الاضطرابات والمظاهرات والفوضى التى عمت كل الدول العربية بدءًا من العام 2011 كانت لحد ما قادرة على المناورة والتأثير على القرار الأمريكى.. ولعل هذا ما عرقل الإدارات الأمريكية السابقة ودفعها إلى التريث وتأجيل اتخاذ هذا القرار. الوضع الآن تغير.. والأحداث التى تشهدها الدول العربية كانت عظيمة.. هناك دول لم تستطع أن تواجه تلك التطورات والتغيرات، سقطت تلك الدول فى حروب وصراعات أهلية فى اليمن وسوريا وليبيا، الدول العربية التى عهدناها منذ اتفاق سايكس بيكو لم تعد قائمة الآن.. تغيرت الخريطة الجيوسياسية للدول العربية ولم يعد هناك (يمن) واحد، أو عراق واحد، أو حتى سوريا واحدة.. وليبيا فى طريقها إلى هذا السيناريو. وقد سبق هذا السودان والصومال.. ومن ثم فإن الإدارة الأمريكية وجدت الوقت المناسب؛ لتنفيذ قرار القدس. وفى حقيقة الأمر إن ما فعله ترامب بحكم أنه رئيس (دولة عظمى) فعله آخرون فى منطقة الشرق الأوسط، رؤساء دول فى المنطقة انفردوا بالقرار صارت لهم اليد الطولى فى الشأن العربى. إيران أيضا انفردت وأصبحت فاعلة فى القرار فى عدد من العواصم العربية.. بل إن قائد الحرس الثورى الإيرانى تفاخر فى وقت سابق بأن إيران باتت تسيطر على مفاصل الدولة واتخاذ القرار فى أربع عواصم عربية هى : (بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء)، وإسرائيل هى الأخرى تصول وتجول فى سماء سوريا ولبنان، وتضرب طائراتها وصواريخها أى هدف ترى فيه تهديدا لأمنها ولم يحرك أحد ساكنا. تداعت الدول العربية.. لم يعد بمقدورها فعل شيء.. وحتى القرار الذى اتخذته الدول العربية فى قمة القاهرة 2000 وقمة عمان 2001 مؤاده قطع جميع العلاقات مع أية دولة تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل أو تنقل سفارتها إليها فى ظل الظروف الراهنة فإن العرب غير قادرين على تنفيذه أو تطبيقه. الدول العربية فى أشد حالات الضعف والوهن منشغلة بحروب وصراعات داخلية فيما بينها.. انقسم العرب على أنفسهم.. بل إن هناك دولاً تحالفت وتعاونت مع إيرانوتركيا من أجل استهداف أمن واستقرار دول عربية (مثلما تفعل قطر)، وتحالفها مع إيران ضد السعودية والإمارات ومصر والبحرين. الدول العربية نفسها تخاذلت فى دعمها للقدس والأقصى.. العرب تقاعسوا عن سداد التزاماتهم المالية لصندوق الأقصى والقدس، ولم تسدد التزاماتها المالية فى صندوقى القدس والأقصى المقدرة بنحو 500 مليون دولار لكل منهما وتم إنشاؤهما عام 2000 بموجب قرار قمة القاهرة، والتى عقدت فى أعقاب الانتفاضة الفلسطينية الثانية والتى قامت جراء قيام شارون وقوات الاحتلال الإسرائيلى بانتهاك المسجد الأقصى). قرار الرئيس الأمريكى جاء فى وقت كانت فيه مصر تقوم بلم (الشمل الفلسطينى) من خلال عملية مصالحة شاملة بين الفلسطينيين؛ لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية.. جاء القرار ليعيد الجهود المصرية إلى المربع الأول، وبدلا من أن يتم التباحث حول توحيد القيادة الفلسطينية أوجدت الإدارة الأمريكية حجة وذريعة لنشاط الإرهاب والجماعات المتشددة التى تبدأ بياناتها ونشاطها وشعارها بالقدس والأقصي- بالرغم من أن تلك الجماعات لم توجه رصاصة واحدة أو يذهب إرهابى واحد لإسرائيل والقدس حتى الآن لتحرير المدينة المقدسة - فكيف يمكن أن تحارب الجماعات الإرهابية فى المنطقة، وهى التى ترفع شعار القدس والأقصى ؟! حركة النجباء العراقية أعلنت أن قرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل يمكن أن يصبح (سببًا مشروعًا) لمهاجمة القوات الأمريكية فى العراق والمنطقة، مع أن السياسات الأمريكية بالمنطقة هى التى أوجدت تلك الحركة وغيرها من الجماعات المتشددة فى المنطقة. قرار الرئيس ترامب أوجد ذريعة لتنامى وزيادة التطرف والإرهاب فى العالمين العربى والإسلامى، ودفع بالرأى العام العربى والإسلامى إلى الدخول فى مواجهة وصراع مع إسرائيل بوصفها الدولة القائمة بالاحتلال.. تلك الدولة التى حاولت مرارا وتكرارا فرض أمر واقع على المسجد الأقصى وعلى المدينة المقدسة باعتبارها عاصمة لإسرائيل، إلا أن الشارع الفلسطينى كان الفاعل الرئيس فى إبطال مفعول تلك الإجراءات الإسرائيلية.. ولعل ما حدث فى باحات المسجد الأقصى منذ شهرين من جانب إسرائيل عندما أقدمت على تركيب بوابات أمنية على مداخل المسجد الأقصى خير دليل على فاعلية وقوة الشارع والرأى العام الفلسطينى. فى السابق.. كانت الأنظمة العربية تكتفى ببيانات للشجب والإدانة عندما يتم المساس بالقدس من خلال إجراءات تغير هوية المدينة المقدسة أو المسجد الأقصى، وكان الشارع العربى والإسلامى هو بطل الحالة.. كان الشارع العربى ينفجر من الغضب.. المظاهرات كانت تعم كافة العواصم العربية والإسلامية.. لكن هل الشارع العربى الآن كما هو لم يتغير ؟ أعتقد أن أمورًا وأحوالاً كثيرة تغيرت.. الشارع العربى فى حالة صراع داخلى.. القتال فى الشوارع العربية هو السمة الغالبة والمسيطرة.. الشارع اليمنى يقاتل بعضه البعض.. الشارع السورى موزع بين مُهجَّر ونازح ولاجئ أو يقاتل بعضه البعض.. ليبيا ليست بأحسن حال من سوريا! وحتى على الصعيد الدولى.. وبعيدًا عن بيانات الشجب والإدانة التى صدرت عن عدد من الدول الأوروبية، فالاتحاد الأوروبى منشغل هو الآخر بقضايا تهدد مصيره ووحدته، وأصبح الكل منشغلاً بهمومه وقضاياه.