عاد الحريرى إلى لبنان لكن لم يرجع لبنان إلى رشده، لا يزال حزب الله مسيطرًا على مفاصل الدولة اللبنانية دولة داخل الدولة، لا يزال سلاح حزب الله وميليشياته أقوى من الدولة اللبنانية، لا تزال إيران لاعبًا رئيسًا وفاعلاً فى لبنان، ولا يختلف الحال فى سورياوالعراق واليمن عن لبنان. الحريرى أراد إحداث صدمة وتذكير للشعب اللبنانى بأن البديل سيكون دمارًا وخرابًَا، أراد أن يذكر شعبه بأن لبنان وانفراد حزب الله بالقرار يودى بلبنان إلى التهلكة ينزع عنها هويتها العربية لكى يلحقها بالهوية الفارسية. عودة الحريرى ومشاركته احتفالات لبنان بالعيد 74 لاستقلاله واستجابته الإيجابية لطلب الرئيس اللبنانى العماد ميشال عون بشأن التريث فى الاستقالة تؤكد ثلاثة أمور: الأول أن حالة الحشد والتوجيه ضد سعد الحريرى ومحاولة نزع هويته اللبنانية وأنه مسلوب الإرادة قد فشلت؛ فالإعلام الإيرانى - اللبنانى سابقا - شن حملات ممنهجة استهدفت الحريرى وشككت فيه وفى هويته وقوميته. الأمر الثانى الذى تؤكده الأحداث: سعى الإيرانيون ومعهم بالتبعية حزب الله لشن هجوم على السعودية متهمين إياها باحتجاز الحريرى وأنه قيد الإقامة الجبرية، وكلها كانت محاولات يائسة بائسة من جانب إيران ووكلائها فى لبنان وعدد آخر من الدول العربية للهجوم على السعودية، لكن السعودية استطاعت ببراعة إدارة تلك الحملة الشرسة التى وجهت ضدها وخرجت هى منتصرة وانكشفت ورقة التوت عن حزب الله، لذلك كانت التصريحات الصادرة من عواصم أوروبية كلندن وباريس وروما وواشنطن كلها. تحمل حزب الله وإيران مسئولية التأزم السياسى فى لبنان ولعل هذا ما أفقد الرئيس الإيرانى صوابه بحيث خرج وهاجم الجامعة العربية ووصفها بعبارات لا تليق برئيس دولة. الأمر الثالث: جاء قرار وزراء الخارجية العرب فى اجتماعهم بالقاهرة الأحد الماضى ليضع حزب الله وإيران فى مأزق دولى وعالمي، فالقرار الذى أدان تدخلات إيران فى الدول العربية وتحميله وحزب الله مسئولية إطلاق الصاروخ الباليستى الذى أطلقه الحوثيون تجاه الرياض جعل إيران فى حالة دفاع عن النفس أمام المحافل الدولية، حتى إننا لاحظنا وخلافا لما هو معتاد من حسن نصرالله الذى كان دائم الحديث بصوت عال ونبرة حنجورية كيف انخفض الصوت وظهرت المسكنة عليه خلال الأيام الماضية. لقد أدرك نصرالله أن هناك خطوطًا حمراء هو تجاوزها وإن ما كان مسموحًا به وما كان يمكن التغاضى عنه فى الماضى لم يعد مسموحًا به خلال هذه الأيام خاصة عندما تغيرت الإدارات وتبدلت القيادات. وفى هذا السياق نود الإشارة إلى أنه بالرغم من أن سقف السعودية كان أعلى مما وصل إليه الوزراء العرب خلال الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب فإن القرار فى مجمله جاء متفهمًا لطبيعة الدولة وتركيبة الحكومة والشعب اللبنانى وكان محصلة للجولة العربية التى قام بها وزير الخارجية سامح شكرى التى شملت 6 عواصم عربية من أجل التحذير من مغبة الدخول فى صراعات جديدة أو فتح جبهة أخرى فى لبنان لذلك فإنه لولا التحرك المصرى لكان هناك حديث آخر ولكان هناك لبنان آخر. لبنان من الدول التى تتأثر كثيرًا بمحيطها وتفاعلاته الدولية والإقليمية، الجغرافيا السياسية للبنان فرضت عليها سياسة مرنة تتأثر أكثر مما تؤثر، لذلك لم يكن غريبا أن يعلن الحريرى استقالته من الرياض ويعدل عنها فى القاهرة، وتكون باريس قبلته الأولى خارج الجزيرة العربية، وفى هذا السياق كان التحرك الدولى من جانب كل من مصر وفرنسا. الدور المصرى فى ضبط إيقاع المنطقة سياسيًَا وأمنيًا ملحوظ وفعال خلال هذه السنوات الثلاث الماضية، كافة دول المنطقة والعالم تنتظر رؤية مصر وموقفها من أزمات المنطقة، لأن التجارب التى شهدتها المنطقة أكدت دوما صحة التوجه والقرار المصرى من الأزمات التى ألمت بعدد من الدول العربية لذلك لم تكن تصريحات الرئيس السيسى عن الأزمة اللبنانية واستقالة سعد الحريرى وموقفه من تلك الأزمة إلا توجها استراتيجيا لمصر خلال تلك المرحلة، فعندما عبر السيسى عن رفضه لإدخال المنطقة فى أزمات جديدة وفتح جبهات قتال أخرى المنطقة فى غنى عنها كانت بمثابة طوق النجاة للبنان لذلك لم تكن زيارة الحريرى للقاهرة ولقاؤه الرئيس عبدالفتاح السيسى سوى قاعدة انطلاق من أجل الحفاظ على هوية لبنان وعروبتها. مصر دائما تطالب بأن تكون لبنان بعيدة عن الصراعات والتدخلات الإقليمية والدولية ولعل هذا يفسر كيف استطاعت القاهرة والرئيس السيسى إحداث هذا التوافق والتناغم وإدارة تلك الأزمة، فقبل زيارة الحريرى للقاهرة كان نبيه برى رئيس مجلس النواب قد سبقه واجتمع مع الرئيس السيسي. لهذا يمكن أن نلحظ أن مصر هى الدولة الوحيدة المؤهلة للقيام بدور الوساطة فى أزمات المنطقة العربية التى ما أكثرها وذلك لعدة اعتبارات أهم الاعتبارات أن مصر لم تتدخل فى الشأن الداخلى لأى دولة وإنما كانت دائما ما تنادى بضرورة الحفاظ على استقلالية الدول وعدم التدخل فى الشئون الداخلية واحترام السيادة، وأن وقوف القاهرة على مسافة متساوية من جميع أطراف الصراع فى المنطقة باستثناء - الجماعات الإرهابية - ولعل هذا ما يكسب مصر زخمًا سياسيًا واعلاميًا وأمنيًا عندما تتحرك أو تتحدث ويمكن القول إنه فور أن أعلن الرئيس السيسى عن موقفه من الأزمة اللبنانية إلا وأصبحت تلك التصريحات مدخلاً لكل وسائل الإعلام عند الحديث عن حل أو تأزم فى لبنان. ثقل مصر السياسى والأمنى فى المنطقة يكسبها قوة دافعة عند التحرك، فبالرغم من ظهور أدوار متعددة فى المنطقة حاولت أن تستقطب فصائل أو أطرافًا أو حتى جماعات إرهابية، فإنها لم تستطع أن تقدم سوى ضمانات مالية فقط، والضمان المالى غير قادر على إنجاح عملية سياسية أو بناء دول، إنما يكون قادرًا على بناء ميليشيات وجماعات إرهابية فقط لذلك فإن ما تقدمه مصر فى أى عملية سياسية أو أمنية يعجز الآخرون عن تقديمه وفعله لأنهم لا يملكون الميزة المطلقة التى تمتلكها مصر الآن. عندما أعلن الرئيس عبدالفتاح السيسى عن موقفه من الأزمة اللبنانية بعد استقالة الحريرى مؤكدًا على أن المنطقة ليست فى حاجة إلى مزيد من الصراعات والحروب، إذ أكد على أن الاستقرار فى المنطقة هش، فى ضوء ما يحدث من اضطرابات فى العراقوسوريا وليبيا واليمن والصومال والدول الأخري، وأنها بحاجة إلى مزيد من الاستقرار، وليس عدم الاستقرار. الرؤية المصرية بشأن الأحداث التى شهدتها المنطقة منذ عام 2011 لم تتغير لقناعتها بأن البديل فى حالة نشوب صراعات وحروب وفراغ أمنى سوف يكون الإرهاب، ولعل تلك الرؤية ثبتت صحتها ونجاعتها بالرغم من أنه فى أوقات سابقة كانت سببًا فى إحداث قدر من الاختلاف بين القاهرة وعدد من العواصم الشقيقة، إلا أنه بمرور السنوات ثبت للأشقاء أن رؤية مصر كانت الأسلم، فبعد أن كانت مصر الدولة الوحيدة التى تطالب بضرورة الحفاظ على الدولة والمؤسسات السورية اقتنعت الآن باقى الدول المنخرطة فى الصراع السورى بالرؤية المصرية بعد 7 سنوات من الحرب والدمار، لذلك فإن موقف مصر من الأزمة السورية واليمنية ينسحب على الأزمة اللبنانية التى كان من الممكن أن تعصف تلك الأزمة بلبنان وتُدخلها فى سيناريوهات خطيرة لولا الموقف المصرى الذى حمى لبنان من تلك السيناريوهات. القاهرة فى تحركاتها تعبر عن ذاتها وتؤكد أن رؤيتها بشأن تطورات الأحداث كانت أكثر نجاعة فى الإقليم خاصة بعد أن فشلت كل التحالفات والسياسات.