الوعى الكامل بطبيعة وشكل وجبهات المعركة، وبحجم الخطر وعِظم المؤامرة.. الوقوف على نوايا العدو وأدواته وإمكانياته، ومساحة المناورة والتكتيك التى يتبعها.. الفهم الجيد والتقدير الموضوعى لما يجب أن نمتلك لكى نواجه وما ينبغى أن نجهز لكى ننتصر.. هى مداخل حاسمة وأمور مصيرية فى فهم حقيقة الصراع ومعرفة أين نقف الآن؟ وما الذى نريده؟ وما الذى يجب أن ننتبه إليه ونتجاوزه لكى نصل إلى ما نريد؟! والإجابة على تلك التساؤلات تكمن فى «الكلمة المفتاح» التى بدأت بها محور قضية النقاش، وسلاح المعركة الحاسم، وهدف الحرب الاستراتيجى والنهائي.. (الوعي). مرحليًا.. انتهت الحروب التقليدية التى تأتى فيها دولة بجيش لكى تستعمر دولة أخري، توارت فكرة الاحتلال المدجج بالآلة العسكرية والجيوش خلف فكرة الاحتلال الناعم وتدمير وتفتيت الدول من الداخل، فلم لا والنتيجة نفسها يمكن الوصول إليها بأقل الإمكانيات وبأكبر الخسائر وبوسائل أكثر حداثة.. قناة فضائية، مواقع إلكترونية، كتاب، بث شائعات وأكاذيب، بث فتن طائفية ونعرات مذهبية، تدمير الروح المعنوية، تشكيك الشعوب فى قياداتها وجيوشها الوطنية، وغيرها الكثير والكثير من الأدوات التى تتجاوز ساحة الحروب التقليدية من معارك برية وبحرية وجوية - والتى تتسبب فى خسائر مادية فادحة وقد لا تحسم المعركة ولا تصل للهدف المنشود - لتشمل تلك الأدوات نطاقات جديدة تدار على مختلف الجبهات المتاحة سواء كانت سياسية، أو اقتصادية، أو ثقافية، أو فكرية، أو إعلامية. المهمة النهائية والمطلوبة هى تفشيل الدولة وزعزعة تماسكها وهدم مؤسساتها الوطنية.. ولا مانع من تجنيد كيانات وأفراد يساعدون على تأجيج الشعوب والزج بهم ليكونوا العنصر الحاسم واللاعب الرئيسى فى تلك الحروب.. الطريقة المثالية لتحقيق ذلك الهدف هى احتلال العقول والرؤوس وتزييف وعى الناس. فالتعريف الأبسط والأوضح والأكثر تلخيصًا لهذا النوع من الحروب هو (تسخير إرادات الشعوب من أجل تنفيذ مخطَطات العدو). إذًا فالمعركة الأساسية الآن هى معركة الوعي، لأننا أمام خصم يختلف أيديولوجياً وأمام حرب تختلف تكتيكيًا عما هو معهود وسائد على مر العصور وعبر جميع الحروب التى عرفناها، وحتى الجماعات الإرهابية والعصابات المسلحة التى تحتاج إلى مواجهة مسلحة هى أحد مخالب هذا العدو وأدواته المهمة التى تخدم فى النهاية وبشكل منهجى فكرة إنهاك الدولة وتعمل على تشتيت الرأى العام وتحطيم الروح المعنوية ونشر الفتن والقلاقل وزعزعة الاستقرار وإثارة الاقتتال الداخلى أيضا. ورغم بزوغ مصطلح ( الجيل الرابع من الحروب) على الساحة فى السنوات الست الأخيرة إلا أنه ظهر للمرة الأولى فى عام 1989 عندما نشرت مجموعة بحثية أمريكية بقيادة كاتب اسمه (ويليام ليند) - وهو خبير سكك حديدية ونقل فى الأصل، ومعه درجة علمية فى التاريخ من جامعة (برينستون) واشتهر بأنه خبير فى الشئون العسكرية- بحثا بعنوان The Changing Face of War: Into the Fourth Generation أى «الوجه المتغير للحرب: نحو الجيل الرابع» ونُشر هذا البحث فى مجلة The Marine Corps Gazette وفى هذا البحث المهم أوضح ويليام ورفاقه أن حروب الجيل الرابع لا تعتمد على المركزية، وأن التقدم التكنولوجى الكبير سيغير النظرة الجذرية للحروب، وبالتالى قسموها إلى أربعة أجيال يمكن عرض مُلخص لها كما جاء فى الورقة البحثية: الجيل الأول: يُطلق لقب الجيل الأول على صراعات الفترة الممتدة ما بين عام 1648 وحتى 1860 وأسست حروب هذا الجيل للثقافة النظامية للمؤسسات العسكرية، نتيجةً للفكر التنظيمى داخل أرض المعركة، والذى تبعه ترسيخ مجموعة من التقاليد العسكرية كالأزياء الموحدة والتحية والترتيب القيادي. الجيل الثاني: ظهر الجيل الثانى على يد الجيش الفرنسى أثناء وبعد الحرب العالمية الأولي، وشهدت تلك الفترة استخدام القوة النارية الشاملة متمثلة فى نيران المدفعية غير المباشرة، وأصبح الهدف هو استنزاف العدو، وتلخصت العقيدة القتالية الجديدة فى أن أسبقية القصف تكون بالمدفعية ثم يحتل المشاة الأرض، فى ظل تنسيق بين نيران المدفعية المركزية فى أرض المعركة وتمركز المدرعات وقوات المشاة، وازداد التركيز على القواعد العسكرية والإجراءات والتعليمات، كما ظهرت الأولوية لطاعة الأوامر عن الارتجال. الجيل الثالث: نشأ الجيل الثالث كنتيجة مباشرة للحرب العالمية الأولي، حيث قام الجيش الألمانى بتكوين ما يعرف بالحرب الخاطفة أو حرب المناورات، وبنيت العقيدة القتالية على أساس السرعة وعنصر المفاجأة والتشويش الذهنى والمادى للعدو، وتحول الهدف للجيوش أثناء المعركة إلى اختراق خطوط العدو والوصول لمؤخرته وإحاطته. الجيل الرابع: هى إدارة المعركة عن بُعد بحيث تحطم فيها دولة دون أن تخسر جنديا واحدا ولا تحرك دبابة أو طائرة. وتعتمد على تسخير إرادات الغير لتنفيذ مخططات العدو، فلا تستهدف حروب هذا الجيل تحطيم القدرات العسكرية وإنما إفشال الدول من الداخل عن طريق نشر الفتن والقلاقل وزعزعة الاستقرار الاقتصادى والاجتماعى وإثارة الاقتتال الداخلي. وتقنيات الجيل الرابع من الحروب تستهدف النظام الذهنى للمجتمع عن طريق خلق أنظمة ذهنية داخلية متناحرة على جميع المستويات، وتشكيل جماعات ضغط فى الإعلام المرئى والمسموع والمكتوب ومؤسسات المجتمع المدنى لتهيئة المجتمع لهذا التغيير الذهني، ولعل استخدام الطائرات (بدون طيار) فى مراقبة أجواء الدول وتطويرها وتزويدها بتقنيات تتراوح من أجهزة الرصد والتجسس إلى أجهزة قادرة على الهجوم والاغتيالات هو الوجه الأبرز للتحول التدريجى فى هيكلة الحرب العسكرية لهذا الجيل من الحروب. وكذلك فرق المهمات الخاصة التى تنفذ عمليات تمتد من الخطف والاغتيال والتدمير إلى إثارة الفتن والقلاقل تمهيدا لتحولات سياسية. وتطورت مفاهيم الجيل الرابع بدخول الجماعات والتنظيمات الإرهابية المسلحة، بقصد إنهاك القوى الأمنية، وتفتيت مؤسسات الدولة وإيقاعها أمنيا واقتصاديا وتفكيك وحدتها الترابية ونسيجها الشعبي، فهذه التنظيمات الإرهابية مدربة وممولة وتملك إمكانيات لوجيستية وخلايا خفية من المتطرفين والمرتزقة تنشط لضرب مصالح الدولة. بحيث تصبح الحرب مفتوحة، دون قيود أخلاقية، بين دولة وعصابات مقاتلة. فتتوالى العمليات الانتحارية، ومهاجمة المدنيين أو قوات الأمن، لاستنزافهم وتشتيتهم وإرغامهم على الخضوع، بالإضافة إلى السلوكيات المروعة بأرض المعركة، مثل الذبح والحرق والسيارات المفخخة. ومن مظاهر هذا الجيل استخدام المعرفة المتطورة والتكنولوجيا الحديثة، بشن هجمات إلكترونية أو تقليدية تعطل المؤسسات الحكومية والبنى التحتية، واستخدام برامج وشبكات المعلومات ومواقع التواصل للحشد وتوجيه الجهود وإدارة الجموع، وبث الشائعات والأخبار المغلوطة. ويستخدم التزييف الإعلامى وسيل المواد الدعائية التى تشجع على فقد الثقة بالحكم وتوارى الشعور بالأمن على جميع المستويات، وبث نتائج كاذبة، عن انتصارات وهمية للإرهابيين على الأرض لبث المزيد من الارتباك وفقد ثقة المواطنين بالقيادة. معركة الوعى أولاً وأخيرًا قال العميد خالد عكاشة عضو المجلس الوطنى لمكافحة الإرهاب والتطرف ل«روز اليوسف»: إن الرأى العام هو الذخيرة الحقيقية والكتلة الأساسية فى مواجهة حروب الجيل الرابع، لافتاً إلى أن الشعوب قبل الحكومات عليها عامل كبير فى استيعاب الانجرار إلى مرحلة حرب متطورة من خلال إيجاد أزمة شرعية فى مواجهة الدولة، وأضاف عكاشة: الإدراك والوعى هما السلاح الحاسم والرئيس فى تلك الحرب وأن الشعب المصرى والرأى العام أثبت انحيازه ووقوفه فى المكان الصحيح فى اللحظات الحاسمة من عمر الوطن. وحذر عكاشة من مواقع التواصل الاجتماعى مشيرًا أنها إحدى أهم أدوات التأثير السلبى فى هذا النوع من الحروب حيث تستخدم كمنصات لبث الشائعات وضرب الروح المعنوية للجمهور وهذه هى أول وأهم مفاتيح الهزيمة. من جانبه قال الدكتور ياسر عبدالعزيز، الخبير الإعلامى: إن مصر تواجه خططًا واضحة من أجل إسقاطها، وأن الحل الأمثل هو وجود رسالة إعلامية تؤدى لتشكيل وعى حقيقى وبناء فكرى صلب للمواطن يستطيع من خلاله مواجهة كل هذا التشويش وخاصة أن العدو يستخدم أدوات ناعمة هدفها شق وحدة المجتمع وتمزيقه. اللواء تامر الشهاوي، عضو مجلس النواب، أكد أن مصر تواجه معركة تغييب وتزييف وعى للمصريين فى كل المجالات بلا استثناء، وأن الحل الحاسم هو اليقظة والوعى والمكاشفة بالحقائق وهو ما يفعله الرئيس السيسى فى جميع خطاباته حيث يصارح الناس بالوقائع والحقائق. وكذلك التحليل العلمى للأحداث الداخلية والإقليمية والدولية من خلال مؤسسات قوية ومتخصصة مشيرًا إلى أن الشعب نفسه هو صمام الأمان الأول لأى دولة تريد المحافظة على أمنها القومى.