كتب: أحمد عبداللطيف ينشغل هذا الباب، الذى تستحدثه «روزاليوسف» بصوت الروائى أو المبدع نفسه. صورة مقرّبة ولصيقة أكثر للعمل. صحيح من الهُراء أن يشرح كاتب عمله، هذه تبسيط مُخلّ. لكن الفكرة هنا تركّز على ما يمكن تسميته ب«كواليس الكتابة». أحيانا هناك ما يودّ الكاتب قوله خارج عمله عن عمله. شهادة ذاتية، إنسانية أكثر، يصف فيها الكاتب رحلته الشخصية فى عمل ما. منذ كان فكرة برقت فى ذهنه وخياله وحتى مراحل البحث والكتابة إلى خروجها للنور فى كتاب. رحلة تحفظ بصمات الظرف التاريخى والاجتماعى والسياسى والإنسانى والشخصى والإبداعى الذى صدر فى أعقابه هذا العمل الأدبى. هُنا يُقدّم أحمد عبد اللطيف، ويعمل صحافيا ومترجما أيضا، شهادة عن روايته «حصن التراب.. قصة عائلة موريسكية»، وهى روايته الخامسة. لا تهدف الرواية التاريخية، فى ما أظن، إلى إعادة كتابة التاريخ، ولا التأكيد على التاريخ الرسمى الذى كتبته السُلطة، بل الأهم من ذلك أنها تفترض وجود «تاريخات» أخرى ممكنة، ومنح الصوت لمن لا صوت لهم ليعبّروا عبر المتخيّل الروائى عن حيواتهم وأسئلتهم، وليفككوا بذلك كل الأساطير السابقة التى تكوّنت على مدار أجيال طويلة. الهدم وليس البناء، التفكيك وليس التركيب، هو ما تطمح إليه رواية تزعم أنها تاريخية. ومن خلال هذا التفكيك والتقويض يمكن التعرّف على حقائق أخرى مفترضة. وتناول شخصيات صارت مُقدسة، إنما كذلك فهم الحاضر؛ خصوصا فى ما يخص التاريخ العربى. ربما منطلِقًا من هذه الأفكار، ومدرِكًا لفقر الأرشيف العربى «إذ الأرشفة فكرة غربية لم يستفد منها العرب كثيرًا؛ خصوصا فى التاريخ القديم» كتبت رواية «حصن التراب» عن عائلة موريسكيّة، والمقصود بها عائلة مُسلمة تنصّرت فى إسبانيا عقب سقوط غرناطة، بل وقبلها بقرون، تحديدًا منذ سقوط طُليطلة. رواية من هذا النوع، قد راودتنى منذ أكثر من عشرين عامًا، كانت فى حاجة إلى استعداد نفسى ودوافع أكبر من إعادة قراءة التاريخ ونقده. إذ قصة الموريسكيين ليست فقط قصة أحداث تاريخية كُبرى وصُغرى حدثت؛ بقدر ما هى قصّة التطرّف الدينى ومحاكم التفتيش والتعذيب، وفقد بشر لحيواتهم وحريّاتهم لمجرّد أنهم أقليّة أو لأنهم مَشكوك فى ولائهم. وإذا كان بعض المؤرّخين يرى أن الانحدار العربى بدأ مع سقوط غرناطة، فربما يمكن أن نقول إن الانحدار نفسه وقع بأيدى العرب أنفسهم حين تبنّوا نفس سياسة من أسقطهم: سياسة الطائفية وكُره الآخر والتصوّر بأننا أصحاب الحق المُطلق وأننا، لكوننا أغلبية، يحق لنا أن نفعل بالأقلية ما نُريد. «حصن التراب» إذن؛ كانت شاغلى لسنوات، ليس لأنها تتناول تاريخًا غامضًا لفئة مقهورة، بل بالأحرى لأنها حاضرنا، ولأننا، كعرب، لا نفعل سوى استحضار الماضى بنفس الاستسلام الذى يجعلنا لا نريد قراءته بعين متفحصة. لكتابة هذه الرواية، قرأت أكثر من «100» مرجع، واطّلعت على أرشيف محاكم التفتيش، وتجوّلت وعشت بالمدن الرئيسة بالرواية، مثل طليطلة وكوينكا ومدريد وجيان وغرناطة ومالجا، زُرت كلّ ما أمكننى زيارته من آثار إسلامية بإسبانيا، ودون مجهود يُذكر استحضرت هذا الزمن، ليس فقط أحداثه وملوكه، بل «البشر»، «الأفراد» الحكايات الصغيرة، التفاصيل المُهملة، الأحجار التى تصنع البنايات لا البنايات نفسها. وبينما كنت أفعل ذلك قرأت روايات التاريخ المتعددة والمتضاربة، انتبهت للثغرات والحقائق التى لا تُصدّق، ومن هذه القراءات استجبت لصوت حدسى الذى كذّب وارتاب. لم أطمح لكتابة رواية تحلّ محل التاريخ، أو يمكن اعتبارها كوثيقة تاريخية. هذا ليس دور الرواية القائمة بالأساس على التخييل، بل رواية تُقدّم وجهة نظر أخري، حكاية جديدة تفتح المجال للشك فى الحكاية الرسمية، وتتجاور معها. رواية تُسائل الماضى بقدر ما تسائل الحاضر، ليس عبر محاكمة، ولكن عبر أسئلة لم أعثر لها على جواب، ولا طمحت العثور عليه. باختصار، «حصن التراب» حكاية بشر عاديين، أبطال لا أبطال، نساهم التاريخ ليسجّل على دمائهم بطولات لقوم آخرين، وليغدو يوم هزيمتهم عيدًا قوميًا للمنتصرين. إلى أيّ مدى لا نزال ممالك الطوائف؟ وإلى متى سنظل كذلك؟ ربما تحمل الرواية روحًا تمرّديّة، على الأقل اعتراضًا على أن نكون حطب المجمرة، حتى لا نكون جسورًا يعبر فوقها الحُكّام إلى أمجادهم. وحتى لا نكون موريسكيين آخرين، ليس فقط بالمعنى الدينى كأقلية مُضطهدة، بل بالمعنى الإنسانى لبشر يدفعون فواتير الآخرين. «حصن التراب»، فى النهاية، حكايتنا جميعًا، وحكاية كل فرد على حدة.