انتزع الشارع براءتهم، علامات التشوه والاعتداء والأذى تملأ وجوههم، هم ضحايا الطرقات والعشوائيات والمجتمع بأسره، هكذا بدت تفاصيل حياة أطفال الشوارع لما يتعرضون له من اغتصاب وسرقة للأعضاء وتفشى الأمراض المزمنة فى أجسادهم النحيلة. وأمل عودة الكثير منهم إلى ديارهم له مخاطر مماثلة، فأغلبهم تركوا منازلهم نتيجة العنف المنزلى، وهو ما أكده أحمد صاحب ال 9 أعوام الذى وقف يطلب القليل من المال من أجل أن يأكل، بملابسه المتسخة ووجهه البرىء الملىء بالجدية المصطنعة والألم، كان يركض خلف المارة والجالسين من أجل الحصول على الصدقات تحت الشمس الحارقة، أقبل الطفل يروى تفاصيل معاناته منذ هرب من منزله نتيجة زواج أمه من رجل آخر بعد وفاة أبيه: «كنت أتمنى أن أعيش مع أمي، لكنها لم تحمنى من ضرب زوجها المبرح لى، كان يضربنى بسبب وبدون سبب، فقررت أن آخذ أختى الصغيرة ذات ال 5 أعوام ونهرب إلى بيت عمتى، التى رفضت أن تستقبلنا»! ويضيف: «وقفت أطرق على باب منزل عمتى فى حى الجمالية بعيداً عن منزلنا فى السيدة زينب، فتح الباب زوج عمتى وسألنا ماذا تفعل هنا؟ أين أمك؟ وعندما قلت له زوجها يضربنا كل يوم فأتيت إلى عمتى لأعيش عندها، أدخل يده فى جيب بنطاله، وأعطانى 3 جنيهات وقال لى عد للبيت. حينها سرت أبكى فى الشارع وأختى تبكى معى من التعب والجوع، اشتريت لنا فطيرة ب 2 جنيه وأكلت نصفًا وأختى نصفًا، ونمنا فى جامع قريب من منزلنا فى السيدة زينب، وفى الصباح توجهت للمنزل وتركت أختى ووعدتها بأن أعود إليها وأنا غنى وأنقذها من زوج أمى». تتبعنا أحمد إلى مسكنه كان يعيش فى حديقة مبنى جهاز مدينة السادس من أكتوبر، أخرج غطاء وعلبًا من الكراتين من خلف إحدى الشجيرات، وافترش الكراتين ومن فوقها ذلك الغطاء الذى بدا مهترئاً، ولف ما بقى من ذلك الغطاء على جسده النحيل، وأسفل رأسه كيس بلاستيكى به أشياء يحتفظ بها. تركناه لنلتقى به فى اليوم التالى بالقرب من تلك الحديقة، وسألناه: هل تفطر معنا فى أحد المطاعم القريبة من مسجد الحصرى؟ وافق بسرعة، وهناك بدأ يحكى كيف هى حياة أطفال الشوارع، وكيف استطاع أن يحمى نفسه من تقاليدهم القذرة على حد وصفه، وأشار إلى أن حياة أطفال الشوارع ليست بريئة ولا هينة كما يظن البعض بأن أغلب تلك الأطفال يجمعون الأموال كعصابة فيما بينهم، بل إن هنالك العديد من الأمور التى تتم وفى كل منطقة تختلف عن الأخرى، حيث إن فى مناطق وسط البلد كثير من أطفال تلك المنطقة يقومون بممارسة الشذوذ مع كل من يريد الانضمام إليهم والعيش معهم واقتسام الأموال معهم، بينما فى مناطق أخرى كالمدن الجديدة يكون لأطفال الشوارع سيدة أو رجل مسئول عن مجموعة من الأطفال يطالبهم بمبلغ يومى يتعدى ال 500 جنيه وإذا قل عن ذلك يتم ضرب الطفل وحرمانه من مهيته اليومية والتى تصل إلى 30 جنيهاً، ومن ضمن تلك التقاليد أيضاً أن يقوم الأطفال بسرقة الأشياء، كالهواتف والأموال والملابس، ويعمل بعض الأطفال «مكوجية» يلفون على المنازل ويقولون إنهم من محل «المكوجى» ويسرقون تلك الملابس والأغطية وغيرها. فاطمة 17 عاماً ومصابة بمرض الإيدز. كانت يوما طفلة من أطفال الشوارع وهى فى 11 من عمرها، وعند الاستفسار عن سبب إصابتها بذلك المرض قالت عندما هربت من دار الأيتام فى سن ال11 بعد خروجى مباشرة من المدرسة فى ميت عقبة، كنت أعرف مجموعة من الأطفال الذين كانوا ينامون فى الشارع، فذهبت وطلبت منهم أن أعيش معهم لأن فى دار الأيتام كان يتم ضربنا وتقوم المشرفات بأخذ كل ما يقدم إلينا من مساعدات وملابس، وحرقنا بالملاعق الساخنة، قررت أن أهرب وأن أعيش فى الشارع بعيدا عنهم، لكن الأمر كان أشد عذابا من ذلك الملجأ، حيث كان يتم اغتصابنا من أطفال الشوارع الأكبر سناً وكان هذا عرفاً فى تقاليد الشارع، فانتقل إلى المرض، وعندما توجهت إلى إحدى العيادات الخيرية التابعة لأحد المساجد، قامت الطبيبة بطردى وقالت لى: «يا زبالة»! ومنذ ذلك اليوم الذى كنت فيه فى عمر ال15 عاماً، لم أتوجه للعلاج فانتشر المرض وأصبح ظاهراً على جسدى ويرفض الجميع الاقتراب منى أو جعلى أقترب منهم، وأعانى بشدة من أجل الحصول على القليل من المال من أى شخص، إلا من يتعاطفون معى فيرمون لى المال على الأرض أو يطالبوننى بعدم لمسهم ويضعون المال من بعيد رمياً فى يدى، لتنهى حديثها قائلة: «هموت قريب وهرتاح» وهى تبتسم بعينين لا حياة فيهما! «ليس خطئى أننى أصبح من أطفال الشوارع»، هكذا كان رد ميادة التى كانت تقف تحمل تلك اللافتة بالقرب من محطة مترو دار القضاء العالى، فهى تقف حاملة تلك اللافتة ليشاهدها القضاة أثناء خروجهم من مبناهم، وعند سؤالها عن سبب أن يراها القضاة تحديداً قالت ميادة ذات ال15 عاماً: «هما اللى بإيدهم العدل»، لتستطرد حديثها، بأن الشرطة تقوم بالقبض عليهم من كل مكان، وتحتجزهم فى الأقسام بدلاً من أن تقوم الدولة بحمايتهم وإنشاء أماكن تحميهم مما يتعرضون له من اغتصاب واعتداء جسدى ونفسى وإدمان وتجارة بأجسادهم وبيع لأعضائهم بالإجبار من قبل تجار البشر، قائلة: «الشرطة قبضت على أخواتى ال 2، وأنا دلوقت من غير رجالة تحمينى». وتابعت ميادة حديثها أنها وإخوتها تركوا منزل عمتهم بعد وفاة والديها بحادث سيارة منذ 4 أعوام، نتيجة ضربهم والاستحواذ على كافة أموالهم التى كان يتركها والداها فى المنزل وذهب والدتهم وبيع أثاث المنزل، والتعامل معهم كأنهم خدم لأطفال عمتها ولزوج عمتها، مما اضطرهم فى إحدى الليالى للتخطيط للهرب هى وإخوتها ال 2 أحمد 18 عاماً ومازن 12 عاماً، وسرقة ذهب والدتهم من عمتهم والهرب، وعندما لجأوا للأمن لم يساعدهم أحد، بل قامت عمتهم بتوجيه تهم سرقة، مما تسبب فى سجن أخيها الأكبر أحمد وتحويلها هى وأخيها الأصغر إلى الإصلاحية لمدة 7 أشهر مع العمل. واستكملت حديثها: «عندما خرجنا من الإصلاحية توجهنا إلى الشارع كنا ننام فى أى مكان كانت تطاردنا الكلاب ويطردنا حراس العمائر والحدائق، حتى المساجد لم نجد فيها مكانا يؤوينا، كنا نعمل فى بيع «الزبالة» كنا نجمع البلاستيك وعلب المشروبات الغازية ونبيعها فى منطقة الزبالين بالمقطم، ونعود للنوم فى أى مكان فى الشارع، إلى أن ألقى الأمن القبض على إخوتى ال2 وأنا تركونى، وأقف اليوم أسألهم ما ذنبنا نحن الأطفال فى ألا نجد مأوى ولا رحمة؟ بيتنا هو الشارع الآن». وعلى الرغم من وجود العشرات من الجمعيات الخيرية لحماية أطفال الشوارع فإن الحملات التى تجعلهم يعرفون الطريق لها ضئيلة ولا تصل إلى أغلبها بحد قول الدكتورة عبلة البدرى، رئيس قرية الأمل، وهى مؤسسة خيرية تدافع عن حقوق أطفال الشوارع، التى أكدت أن كثيرًا من الأطفال يضطر إلى ممارسة الدعارة، والوقوع فى الإدمان على المخدرات ويصبحون هدفا للإيذاء الجسدى، والعديد منهم يفتقرون إلى شهادات ميلاد ولا يستطيعون الالتحاق بالمدارس، أو الحصول على الرعاية الصحية المجانية والمطالبة بالجنسية المصرية، وهم فى نظر المجتمع غير مرئيين إلى حد كبير. وقالت الباحثة الدكتورة رضوى فرغلى، مؤلفة كتاب «أطفال الشوارع، الجنس والعدوانية، دراسة نفسية»، إن هؤلاء الأطفال ليسوا «بلطجية» كما يطلق عليهم أثناء وجودهم فى الاشتباكات أو المظاهرات، لتفسر ذلك بأن عنفهم ضد الذات والمجتمع هو رد فعل طبيعى نتيجة عنف المجتمع ضدهم وأن ما يقال عن استئجارهم أكاذيب بلا أدلة. وتضيف فرغلى: «إن أطفال الشوارع قد صنعوا مجتمعًا كونوه بأنقاض إنسانيتهم وجعلوا لأنفسهم طقوساً مشوهة يصعب اختراقها، فالشارع هو مجتمع أيًا كانت مجرياته عليهم أن يكونوا جزءًا منه، فكانت القسوة فكرا والحياة تغتصبهم فجعلوا من معتقداتهم «التعميد الجنسى» لكل فرد جديد سيدخل عالمهم يجب الاعتداء عليه جنسياً وهذا فى رؤيتهم أولى خطوات الاندماج فى مجتمعهم المصغر الذى نتج عنه حالات بالمئات مصابة بالإيدز ولا أحد يهتم ولا يسأل. ومن الناحية الدينية ذهبنا بتلك القضية للدكتور أحمد عمر هاشم عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف الذى وجه رسالة إلى كل مسئول، أن على الجميع أن يعى خطورة ترك هؤلاء الأطفال لكل من «هب ودب» ليستغلهم تبعا لأهوائه الشخصية ومصالح سياسية عبر إطلاقهم للاستغلال والانتخابات وغيرها. وأشار إلى حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) وطالب فضيلة الشيخ أن نرعى هؤلاء الأبناء ونوفر لهم الوعى من أجل أن يكونوا قادرين على صد من يستغل حاجتهم. موضحاً أن التشريع الإسلامى أقر بأن الاعتداء على الأطفال واستغلال براءتهم من أجل أهواء مشبوهة من الجرائم التى يوقع على فاعلها أشد العقوبات من حبس وتغريم، ومن القواعد الفقهية فى هذا أن الذى يدفع صبيا لأعمال إجرامية يعد شريكا له فى الجرم، وعليه إثمه، لأن الصبى لا يؤاخذ شرعا على تصرفاته العدوانية.