أزمة عاطفية دفعت «أحمد» إلى الانضمام لتنظيم الدولة «داعش». تزوجت حبيبته من آخر، فتبدد حلم حياته لضيق ذات اليدين، ثم لعن الحياة التى تخلو من العدالة والرحمة، وبعدها رفع شعار «الإسلام هو الحل»، حتى يكون مبررًا لإفراغ شحنات كراهيته للمجتمع، وكفره بكل شيء، وسفكه للدماء. مضى فى سكة الندامة، سافر إلى «الرقة» السورية، شارك فى قتل «النصارى أعداء الدين»، من دون أن يرتعش له جفن.. لكنه بعد عامين، بدأ يكتشف الحقائق، وصار يعض أصابع الندم على ما اقترف، معربا عن أمنياته العودة إلى مصر، ومحو تلك الصفحة الدموية من تاريخه. «أحمد» الذى كنت أعرفه نظرًا لكونه أخا لصديقة لي، أخيرًا بعد إلحاح مستميت اقتنع بإجراء هذا الحوار، للكشف عن تفاصيل رحلته من القاهرة وصعوده إلى المراكز القيادية فى التنظيم الإرهابي، ذاك الصعود إلى الهاوية، ورغبته فى العودة إلى مصر. فى الحوار الذى أجريناه عبر صفحته ب«فيسبوك» يبدو الشاب متأرجحًا بين مرجعيات مختلفة، فهو من جهة يعرب عن رغبته فى العودة والارتماء فى حضن أمه، ويتحدث عن جرائم «داعش»، لكنه يؤكد بالتوازى فى مفارقة غريبة على أن ما فعله كان سعيا لنشر الإسلام «بحد السيف» كما تعلم من الشيوخ. هذا التضارب لا تعقيب عليه، والدعوات الفاشية إلى قتل الآخر ننقلها وإن كنا نرفضها، بحيث يكون الحوار رحلة فى عقل داعشي. الشاب البالغ من العمر 26 عاما يقول: ملابسات انضمامى إلى «داعش» تتمثل فى زواج الفتاة التى أحب، والديون التى كانت تحاصرني، والبطالة والفقر وانسداد الأمل. مع المحنة الخانقة، بدأت أقترب إلى الله، وأتعرف على شيوخ أكدوا لى أن سبب اعوجاج ميزان العدل يرجع إلى البعد عن الإسلام، وكنت أتابع صفحات «داعش» على مواقع التواصل، فبدأت أقتنع بأفكارهم.. كنت مهتزًا تائها متوترا كغريق يحاول التعلق بقشة، ومن ثم شددت الرحال إلى سوريا. وهل وجدت الإسلام والعدالة اللتين تنشدهما عند الدواعش؟ - بالطبع لا.. رأيت دماء تراق لأتفه الأسباب، ورأيت متاجرة بشعائر الله من أجل «حز الرؤوس». هل كنت مهتمًا بالسياسة قبل سفرك؟ - على الإطلاق، بل إننى لم أشارك فى الثورة، لكن ظلم الأنظمة العربية، وفساد العرب الذين أصبحوا مسوخًا يقتدون بالغرب، لا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتفشى المظالم والفقر.. كلها عوامل دفعتنى إلى أن أسعى إلى التغيير بحد السيف. سيقال إن العنف لن يفضى إلى حل.. لكن علينا أن نتساءل: من يصنع العنف؟.. هل هى الشعوب المقهورة؟ أم الأنظمة التى تسلب الناس حقوقها، إن الظلم هو الذى يصنع العنف. حدثنى عن ملابسات انضمامك لداعش؟ - فى أحد الأيام ذهبت لصلاة الفجر، قبل موعدها بنحو ساعتين، وكنت فى ضيق لأن أسرة الفتاة التى أحببتها لم تقبل بى بسبب أحوالى المادية، كان مرتبى 1400 جنيه وهو مبلغ لا يكفى لفتح منزل، وكانت ديونى تتخطى 40 ألفاً، وأثناء جلوسى بزاوية وجدت شبابا يدخلون ويجلسون بتفرق.. كل فى مكان بعيد عن الآخر، حتى وصل الشيخ كانوا يلقبونه بكنية أبى حنيفة المصري، وأغلقوا باب المسجد وتجمعوا ووقفوا ينظرون إلي، فاقترب منى ذلك الشيخ وبدأ يسألنى عدة أسئلة عن اسمى وعمري، وعملى وسكني. بدأت أحكى له عما يزعجنى فبدأ يخبرنى كيف أن المجتمع أصبح بلا دين وأن هذا ليس من الإسلام ولا من سنن الرسول وطلب منى أن أحضر معهم الدرس الديني، فى البداية كان الأمر مقصورًا على تفسير آيات عن الجهاد ونصرة الإسلام، وسرد أمثلة تدين النظام الذى يتبع الغرب. والحقيقة أن الحديث استهوانى فأصبحت أواظب على حضور الدروس، وبعد 3 أشهر، قال لنا الشيخ إن هناك وسيلة سفر للجهاد فى العراق أو سوريا أو مصر وكل منا عليه أن يختار الأفضل له، فاخترت أنا وشابان سوريا. لكن أفعال «داعش» و«النصرة» أساءت الإسلام؟ - يجب أن يكون للإسلام سيف.. فإذا كان الله غفورًا رحيمًا، فإنه أيضًا شديد العقاب. إن فتوحات الإسلام لم تتحقق بالكلام والخطابات، ولا حتى بما يسمى بالخطاب الدينى الوسطي، وإنما بحد السيف.. القتال ليس غاية فى حد ذاته، لكنه لنشر الرحمة فى الأرض.. هذا ما تعلمناه من شيوخنا الثقات. لدينا نصوص قرآنية نستند إليها، وبخاصة سورتى الأنفال والتوبة، حيث يقول عز وجل: «فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم»، وكذلك «قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم». المعروف أن مقاصد تلك الآيات تتعلق بحالة الحرب؟ لا أعلم.. لكن الذى لا يقبل الشك أن المشركين لا حق لهم إلا من تراجع عن شركه، ونطق شهادةص «لا إله إلا الله محمد رسول الله». وكيف كانت الرحلة من القاهرة إلى الرقة؟ - كان ذلك أثناء حكم جماعة الإخوان، حيث كانت العلاقات مع تركيا فى أحسن حالاتها، كان السفر للانضمام للجماعات المسلحة أمراً سهلا.. وقد أخذ الشيخ جوازات سفرنا وبعد عدة أيام قال: لنا سنسافر إلى تركيا بتأشيرة سياحة، واستعددنا لذلك، وأعطانا الشيخ مصاريف السفر 2000 دولار، وطلب منا أن نرتدى ملابس لا تدل على هيئتنا، «شورت وتيشيرت وكاب» وأشياء كتلك وأن نحمل معنا كاميرات نصور بها القليل من الصور السياحية من مصر. وكيف كان الاستقبال فى تركيا؟ - استقبلنا رجلان تركيان من الأناضول فى المطار بحفاوة، وقالا لنا إننا أبطال ومجاهدون والله سينصرنا وينصر الإسلام بإذن الله، بعد أن تسقط الأنظمة ويعم الإسلام وينتصر، وكان لهما لقبان هما أبوعبدالله وأبوالوليد. ومن تركيا إلى سوريا، كانت الرحلة طويلة عبر مطار إسطنبول، ولما بلغنا الحدود السورية وجدنا عشرات الرجال والشباب من كل الجنسيات، تجمعنا وتصافحنا وكانت علامات القلق ترتسم على وجوه الجميع. واستقبلنا بعدئذ رجل عراقى وقال لنا إما أن ننضم للتنظيم فى البصرة فى العراق أو فى حلب أو إدلب أو الرقة، وطلب أغلبنا الانضمام للتنظيم فى سوريا، وسرنا طويلا، نشد أزر بعضنا البعض من أجل الاستمرار، وكنا نخيم ويأتى لنا بالطعام بضعة من الشباب الذين يدلوننا على الطريق. وماذا عما حدث فى الرقة؟ - استقبلونا بالطلقات والأحضان والتهليل والتكبير فزدنا حماساً وأقاموا لنا وليمة، وبعدما أكلنا توجهنا إلى مبنى لنرتاح فيه للصباح، وأتذكر ليلتها أن جسدى كان يصرخ ألماً من شدة الوجع. ألم تراودك فى لحظة ما وأنت «لسه على البر» فكرة التراجع؟ - فى البداية نعم.. لكن ما إن اشتركت فى القتال ورأيت الدماء حتى أصبحت مستغرقًا فى الأمر.. هناك شهوة ما فى ممارسة الحرب، ربما هى أمر غريزي، الناس لا يعرفون الحرب يلعنونها ولما يخوضونها يدمنون سفك الدماء. لكن بعد مرور بعض الوقت، أصبحت أكثر ميلا إلى الانعزال، وأجلس لأفكر لماذا أتيت إلى هنا؟ ما طبيعة التدريبات العسكرية التى تلقيتها؟ فى اليوم التالى لوصولى بدأت التدريبات القتالية، أيقظونى قبل بزوغ الشمس بقليل، وسلمونى أسلحة وأخذونى مع رفاقى للمدربين الذين طلبوا منا أن نتبع حركاتهم وعلمونا كيف نستخدم السلاح، وكان يتم إلقاء خطب حول «فضل الجهاد». هل تعرف أسماء المدربين؟ - هنا ينسى الإنسان اسمه الأصلي، ويصبح له كنية، وهذا بالنسبة للجنود والمدربين والقادة. هل قتلت إنسانًا؟ - لو لم أفعل لكنت أنا المقتول.. نعم قتلت أنصارًا وجنودا لنظام الأسد وعناصر من حزب الله الشيعى وإيرانيين وعراقيين. هل ستهرب.. وماذا عن المخاوف من تصفيتك؟ - لا أعلم، إننى أدعو الله ليل نهار، أريد أن أرى أمي، لا أريد أن استمر هنا، أتيت هنا وأنا فى ال 23 تقريبا وكل يوم أتمنى الخلاص. إنه الجحيم، شباب كثيرون وفتيات وأطفال أبرياء ليس كل من فى التنظيم مجرمون، هناك من يتم تصفيتهم بلا ذنب. يبدو من كلامك أنك مازلت مؤمنًا بأفكار داعش.. فماذا عن حديثك برغبتك فى العودة إلى مصر؟ - خلال عامين رأيت من عناصر التنظيم إمعانًا وحشيًا فى سفك الدماء، كانوا يقتلون بلا أسباب، لذلك بدأت أغير موقفى من البقاء إلى جوارهم، لكنى بالطبع لن أتخلى عن الثوابت «الفقهية». هناك اجتزاء لآيات الكتاب، لتبرير القتل، وهناك حالات تهجير واستخدام أطفال فى الحروب.. نشر الإسلام وإن كان بحد السيف، لا يتم بهذه الطرق.. هذا خروج عن المقاصد. وماذا عن سحب المنطقة العربية إلى صراعات مسلحة بين السنة والشيعة؟ - الحرب ليست بين السنة والشيعة فحسب، بل إنها حرب الكل ضد الكل.. سهل أن يمارس الناس التنظير وهم خلف شاشات الحواسيب، أو فى الفضائيات، لكن الحرب لها قوانينها، فإما أنا أو أنت.. هذا هو الموقف ببساطة. فى ضوء كلامك لا أستطيع أن أفهم لماذا تريد العودة؟ - الأمور هنا فى قمة الدموية، كأننا فى فيلم رعب، كل من فكر بالرحيل مات مقتولا، أشعر بأننى صرت مثلما فأر فى مصيدة، ليس سهلا الخروج وليس سهلا البقاء. ربما تستقر رصاصة فى صدرى خلال المواجهات فتريحنى من هذا الجحيم.. قد يكون ذلك سبيلا للخلاص. إن «الدواعش» يراقبون هواتفنا، لديهم تقنيات حديثة ومهندسون يعرفون أساليب القرصنة، كما يتعقبون حساباتنا على مواقع التواصل، نحن هنا تحت الحصار. أحد الشباب المغربيين أخبرنى منذ أيام أنه يريد الهرب، وصباح أمس قطعوا رأسه أمام الجميع بتهمة الشرك.. النساء هنا والاطفال من أهالى الرقة رضخوا للتنظيم خوفا من القتل المجانى والملاحقة بتهمة الشرك التى تكفى لحز رأس أى إنسان.. وإلى جوار فاشية «داعش» تنهال عليهم براميل البارود وقنابل الجيش الروسى والسوري.. إنها الحرب كما قلت، وقانونها إما أنا أو أنت، لا فرق بين بريء ومذنب، فالكل مشاريع قتلي. أما عن الظروف الاقتصادية فمن أصعب ما يكون، نحن لا نجد قوت يومنا، إلى درجة أننا أصبحنا نأكل أوراق الشجر.. هذه ليست حياة. ماذا عن الهدنة مؤخرًا؟ - كذب.. كانت تلك أبشع أيام عشناها، فقد توقفت الطائرات قليلاً لكن هجمات الجماعات المسلحة التابعة للنظام والشيعة وأنصار الحشد وحزب الله لم تتوقف، كنا نفقد يومياً شبابا وفتيات، عربًا وأجانبًا. ما مدى صحة ما يتردد بوجود قوات سعودية على الأرض؟ - لا أستطيع الجزم بالأمر، لكن ما أثق فيه حسب كلام القادة، أن دول الخليج تمدنا بالسلاح حتى نتصدى للنفوذ الإيراني وحزب الله والأسد. ماذا تريد أن تقول أخيرًا؟ - أريد أن أعود لبيتي، لن أؤذى أحداً، وسأتلقى العلاج النفسى إذا تطلب الأمر، واتمنى ألا تقتلنى قوات الأمن او تعتقلنى فأنا لم أقتل أى شخص بريء بل أردت أن أساند إخواننا وقتلت إيرانيين وعناصر من حزب الله، وأظن أن هذا لا مشكلة فيه مع أنظمتنا التى تحاربهم ايضاً، خاصة بعد دخول القوات السعودية.