ربما يبدو العنوان صادمًا، وربما يرى فيه البعض مبالغةً وتزيدًا، لكن تمعن الواقع يُعطّلُ الصدمة، وينفى شبهة المزايدة معًا، فتصريحات وحوارات وتحليلات ومعلومات من يتسمون بالخبراء الاستراتيجيين، تجعل المنطق يجرى فى ظهيرة وسط البلد عاريًا، وهو يقذف المارة بالحجارة. الواقع أنه ليست كل السياسة تجهمًا وصرامة، فبعضها إن لم يكن كلها فى مصر «ضحك ولعب وجد وحب»، والظاهر أن الجد أقل من قليل، والضحك أكثر من كثير، ما ينفى شائعة أن المصريين صاروا أكثر تعرضًا للإصابة بالأمراض النفسية، وعلى رأسها الاكتئاب، بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، التى يهرطق بهاليل «التدليس شو»، عبر فضائيات الجهالة، بأنها أصل المفاسد، حتى إذا أصيب الرجل بالصلع الوراثي، قالوا: «هذه ثمار ثورة خسائر».. كبرت كلمة تخرج من أفواههم. وإذا كان الناس شبعوا حبًا وجدًا ولعبًا «بهم وعليهم»، فإنهم بالضرورة لم يشبعوا ضحكًا، وهذا ليس غريبًا على شعب يخترع النكتة منذ قدماء المصريين، إلى درجة أن أسلافه نقشوا على المعابد رسومًا يمكن وصفها بالكاريكاتير الأول فى التاريخ، ومنها رسوم لفأر تحكم فى قط إلى درجة أن جعله نادلاً يقدم له الطعام، ويقال: إن اللوحة ترمز إلى الحاكم والمحكوم.. اللهم اجعل كلامنا خفيفًا. إذن.. فليكن الحديث عن الضحك و«المضحكاتية» ومنهم إعلامى ينشر ألعابًا إلكترونية بوصفها مشاهد حية من معركة، وآخر ينقل أخبارًا عن مواقع هزلية ساخرة، على اعتبار أنها حقائق دامغة، وأخرى تتاجر بمأساة إخواننا السوريين بمنتهى الدونية، وتتواقح على منتقديها، فتزعم أن الأمر يرجع إلى شعبيتها الطاغية، من دون أن يسترعى انتباهها أن شعبيتها لا تزيد بحال على قيمة شعبية «الرقّاصة صافيناز». إنهم حقًا مضحكون، مجرد رؤيتهم إذا يفغرون أفواههم فى منتهى «التناحة»، تستجلب إلى الذاكرة، حكايات جحا، وصورته بعمامته مدببة الحواف و«سكسوكته المتناثرة»، وعينيه البلهاوين، وحماره الأكثر حكمة وحصافة منه، لكن هؤلاء لا يعدون كونهم «كومبارس» إلى جوار أبطال العرض الرئيسي، أشهر النجوم على الساحة حاليًا.. أولئك الخبراء الاستراتيجيون.. إلا من رحم ربي. لدينا خبراء اصطادوا السمك البلطى من رمال الصحراء، وزرعوا البلاستيك على سفح الأهرامات، واكتشفوا أن الأرض تدور حول نفسها لأنها سكرانة، وأبوظبى عاش حزينًا لأن أم ظبى خطفت «الولد ظبياً» وهربت إلى الدوحة، بمساعدة ضابط استخبارات تركي، ثبت لاحقًا أنه صهيوني، ومجند فى صفوف «داعش».. وكله على كله. ستقول مجددًا إن فى الأمر مبالغة، إذن تريثْ.. واسمعْ واحكم، فما تعتبره تزيدًا، لا يعدو شيئًا أمام الوقائع المصرية المضحكة إذا شئت، والمبكية إذا شئت. أبرز نجوم الكوميديا الاستراتيجية، هو اللواء حمدى بخيت، والذى يستضاف عبر كل القنوات للحديث فى أى شيء وكل شيء، بلهجة مفعمة بالثقة واليقين، يتطرق إلى الظواهر الجيولوجية والمناخية والفيزيائية وتوليد الطاقة وسد النهضة وخطط الولاياتالمتحدةالأمريكية «السرية التى عرفها بنباهته دون غيره»، وسير العمليات العسكرية فى سوريا، وربما خط سير ميكروباص التحرير فيصل، ودور الإخوان فى «خرم الأوزون»! ورغم ظهور الخبير الاستراتيجي، بشكل متواتر، إلا أن نجوميته لم تحترق، فالرجل لديه فى جعبته التحليلية كل جديد ومثير، كما لو كان يرفع «زورونا تجدوا ما يسركم» شعارًا لا يحيد عنه. يبدأ العرض الكوميدى بتصريح خزعبلاتى يقول فيه بخيت: إن القوات المسلحة المصرية أجبرت قطعًا بحرية أمريكية وطائرات مقاتلة ومقاتلين من المارينز، على التراجع عن الشواطئ، بعد محاولة لاحتلال مصر. هذا خبر خطير، لم تعرفه وكالات الأنباء جميعها، ولم يتسرب من أروقة البيت الأبيض أو البنتاجون، ولم يشر إليه مسئول يعتد به فى مصر من قريب أو بعيد، لكن اللواء بخيت عرفه وحده.. فالله أكبر ولله الحمد. أما لماذا تريد الولاياتالمتحدة احتلال مصر؟.. ومنذ متى كان الجيش الأمريكى يدخل أرضًا قبل أن يجعل طيرانه «عاليها واطيها»؟.. وأين وقعت الاشتباكات بين قواتنا وقوات العدو الأمريكي؟.. فهذه أسئلة لا يجيب عنها سيادة الخبير الاستراتيجي، ربما صونًا لاعتبارات الأمن القومي.. ولا تناقش ولا تجادل يا أخ! على أن الكوميديا لا تتوقف عند هذا الحد، فإذا كان العوام يسخرون فى المثل الشعبي، ممن ينتظرون «السمن من ورك النملة»، تأكيدًا على ضرورة وجود علاقات منطقية بين المقدمات والنتائج، فإن بخيت ليس معنيًا بهذه القوانين، فإذا به يستخرج الأسمنت من الشجر، حينما صرح بتوصل عالم مصرى إلى اختراع سيجعل هذه الخرافة حقيقة، بالإضافة إلى اختراع آخر باسم «فرى إنيرجي» أى الطاقة المجانية، توصل إليه باحث مصرى نابغ، لتوليد الكهرباء «ببلاش». ولا ينافس بخيت على مسرح الكوميديا، سوى الخبير الاستراتيجى حسام سويلم، فتعليقه على فوز اللجنة الرباعية للحوار فى تونس بجائزة نوبل للسلام، بأنه إذا كانت الست رباعية خدمت بلدها. فلا بأس»، علاوةً على أنه يكشف عن أن الرجل لم يقرأ حرفًا من خبر على هذه الدرجة من الأهمية، يستحق أن تستحدث لجنة الجائزة العالمية جائزة باسم سويلم فى الكوميديا. ومن العروض التى تدفع المرء إلى أن يستلقى على قفاه من الضحك ما يقوله سويلم أيضًا من أن سد النهضة فى إثيوبيا سيسقط من تلقاء نفسه، لأنه مشيد على تربة هشة، وبعد الانهيار ستغرق إثيوبيا والسودان معًا، لكن مصر لن تتضرر فالمياه ستتدفق لتملأ بحيرة ناصر، ونستصلح توشكي، وهكذا يمكننا أن نزرع الأشجار التى تطرح «الأسمنت» التى بشرنا بها بخيت.. ويا حلاوة. وبما أننا مازلنا فى حديث «الانهيارات»، فإن سويلم «حلل» حادث انهيار رافعة الحرم المكى فى غضون الحج مؤخرًا، بأنه مؤامرة أمريكية، استخدمت فيها الولاياتالمتحدة سلاحًا سريًا «عرفه وحده أيضًا» يسمى «هارب».. وهو تصريح يبدو مثلما «هارب» من الخانكة، ولا ينافسه قدرة على صناعة الضحك سوى التصريح الذى أدلى به بشأن مجلس قيادة العالم، والذى يستطيع تدمير الدول بلا حروب، عبر التلاعب فى التركيبات الجيولوجية للدول، أو إرسال تسونامى أو زلازل، وكذلك العبث فى ترتيبات القشرة الأرضية، بدلًا من إرسال صواريخ.. وربنا يستر يا جماعة، أصل مصر مستهدفة. وما دام الحديث عن الخبراء، فليس ممكنًا تجاوز اللواء سامح سيف اليزل، والذى يقود القائمة الانتخابية «فى حب مصر»، فالرجل منتشر فى الفضائيات إلى درجة أن المتلقى أصبح يتخيل أنه إذا فتح حنفية المياه ستُنقط منها «قطرات اليزل». ولا يتحدث اليزل على خلاف بخيت وسويلم فى كل الشئون، فالرجل متخصص فى المؤامرات، الإسرائيلية منها و«الحمساوية» والداخلية منها والخارجية.. ومما قاله اليزل:: إن «العدو الصهيوني» يخطط لدخول سيناء بذريعة أن الأمن فيها غير مستتب، وسيحصل على موافقة دولية بذلك، لكن شيئًا من هذا التصريح أو النبوءة الأشبه بقراءة الفنجان و«فتح المندل»، لم يتحقق حتى الآن، رغم أن التصريح كان بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير بستة أشهر، أى منذ نحو أربع سنوات.. ما علينا فالناس سرعان ما تنسي. كما أكد الرجل «الصارم دائمًا» أن هناك خطة لتصفية قيادات القوات المسلحة بعد رصدهم بالأقمار الصناعية، محذرًا من أن إسرائيل تقف وراء هذه المؤامرة الدنيئة، قبل أكثر من ثلاث سنوات، ولم يتحقق شيء مما قال كالعادة. أما فيما يتعلق بمؤامرات حركة «حماس»، فبوسعك أن تجد لليزل مجلدًا أضخم من «لقط المرجان فى علاج الجن والسحر والجان»، وأمام معلومات الرجل الحصرية دائمًا، فربما لن تجد ردًا سوى عبارة شويكار «شيء لا يصدقه عقل»، مع مراعاة أن تنطق القاف كافًا، أو أن تتذكر مقولة الراحل الكبير جلال عامر: «كان نفسى أشتغل خبيرًا استراتيجيًا، لكن أهلى ضغطوا عليّ لاستكمال تعليمي».