كانت العلاقة بين الكنيستين الإثيوبية والقبطية بدأت فى التدهور، وكان السبب هو رفض الكنيسة القبطية استقلال الكنيسة الإثيوبية ورسامة بابا خاص لها يكون من سلطته إقامة أساقفة أثيوبيين، وفى عهد الأنبا يوساب البطريرك سلف البابا كيرلس السادس، وبعد مفاوضات تدخلت فيها حكومة النقراشى باشا وافق البابا على مطالب كنيسة إثيوبيا. ولكن كان انتظار تنفيذ الاتفاق هو نياحة الأنبا كيرلس آخر مطران مصرى قبطى لاثيوبيا، وقد تنيح فى أكتوبر سنة 1950م وفى يناير 1951 م قام الأنبا يوساب بترقية الأنبا باسيليوس إلى رتبة مطران مع السماح له برسامة خمسة من الأساقفة الاثيوبيين، وفى عام 1956 م بعد نياحة البابا يوساب وأثناء فترة خلو الكرسى المرقسى عاد الأثيوبيون بمطالب جديدة وهى: رفع درجة المطران الإثيوبى إلى درجة أن يكون نائب البطريرك فى إثيوبيا، ويكون لهم حق انتخاب البطريرك سواء فى إعداد لائحة الانتخاب والمشاركة فى الانتخاب وترشيح إثيوبيين للكرسى البطريركى لأنهم جزء لا يتجزأ من الكنيسة ككل فوافقت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية برئاسة مطران بنى سويف وقائمقام البطريرك على جميع المطالب الإثيوبية ما عدا أمراً واحداً ألا وهو مسألة ترشيح البطريرك إذ تمسك الأقباط بالتقاليد أن يكون البطريرك مصرياً أرثوذكسيا، وبناء على هذا رفضت الكنيسة الإثيوبية الاشتراك فى سيامة البابا كيرلس السادس فى مايو عام 1959م. وكانت هذه الأزمة تقلق البابا كيرلس فأرسل قداسته بصفه شخصية الدكتور إدوارد بشرى إلى إثيوبيا حاملاً رسالة شخصية منه إلى الامبراطور هيلاسلاسى يقول فيها: «أبعث بهذه الرسالة إلى جلالتكم بعد أن شاءت نعمة الرب واختارت ضعفى لهذا المنصب الخطير، وأنى أشعر بدعوة الرب وبجسامة المسئوليات التى تتطلبها رعاية النفوس وأثق أن الذى دعانى هو القادر أن يعيننى على توجيه سفينة كنيسته إلى ميناء الخلاص ويسرنى أن أعبر لجلالتكم عما يكنه قلبى وتقديرى لشعبنا الإثيوبى العزيز ولكنيسة مار مرقس ببلادكم المباركة، ولا شك أنه متى سارت روح المحبة المسيحية الحقيقية والفهم والتقدير المتبادل، فإنه يمكن تذليل كل الصعوبات والوصول إلى حلول مرضية وبدء عهد جديد يساعد على توطيد هذه الرابطة المقدسة التى طالما حاميتم عنها جلالتكم وسهرتم على صيانتها وتوطيدها طوال حياتكم ومما يزيد ابتهاجى أن يشترك إخوتى أساقفة إثيوبيا فى وضع أيديهم على رأس بابا الإسكندرية فى صلاة الرسامة لأول مرة فى تاريخ كنيستنا مما سيزيدنى شعوراً بعمق هذه الرابطة وقوتها وأنى أتطلع بعين الفرح إلى ذلك اليوم الذى ألتقى فيه بجلالتكم فى إثيوبيا العزيزة، وفى الإقليم المصرى أيضا حتى يتم سرورنا الروحى فى الرب». وعاد مندوب أبونا مينا يوم السيامة حاملاً رسالة اعتذار عن عدم المشاركة فى حفل الرسامة ولكنهم تفهموا روح المحبة التى تكمن فى قلب القادم ليجلس على كرسى مار مرقس وحاول البابا كيرلس السادس ولم ييأس فى رغبته فى تحسين علاقة الكنيسة القبطية مع إثيوبيا فقال فى رسالته الباباوية الأولى «كما نتوجه بأصدق التحية وبركاتنا الرسولية إلى الأخ الحبيب الأرثوذكسى المبارك حضرة صاحب الجلالة الإمبراطور هيلاسلاسى الأول امبراطور إثيوبيا وإلى جلالة الامبراطورة والأمراء وإخوتنا المطران وجمع الأساقفة والكهنة والشمامسة وشعبنا الإثيوبى العزيز» وفى 16 مايو 1959 بعد السيامة المقدسة كتب قداسة البابا كيرلس السادس رسالة ثانية إلى الامبراطور هيلاسلاسى جاء فيها: لقد تأثرنا بالغ التأثر وقدرنا شعور الألم الذى عبرتم عنه جلالتكم فى رسالتكم الشفهية لعدم تمكنكم من الاشتراك فى حفل الرسامة، ونحن نتضرع إلى الرب أن تحل نعمة روحه المقدسة فترد إلى الكنيسة سلامها وطمأنينتها بروح المحبة المخلصة''. ولم يقتصر البابا كيرلس السادس على الرسالة السابقة، ولكنه أرسل رسالة أخرى إلى المطران الإثيوبى عبر فيها عن صدق مشاعره ورغبته القوية فى تدعيم العمل الكنسى والرعوى لكنيسة مار مرقس الرسول فى كلا البلدين مصر وإثيوبيا وفى الأسبوع الثانى من يونيو 1959 حضر وفد إثيوبى للمفاوضات وفتح باب الحوار من جديد وشكل البابا كيرلس وفداً قبطياً فى هذه المباحثات وتمخضت تلك المباحثات عن مفاوضات ومؤتمرات للتقارب. لمس الامبراطور هيلاسلاسى امبراطور إثيوبيا فى ذلك الوقت وكان أرثوذكسياُ متديناً عمق المحبة التى يكنها البابا كيرلس للشعب القبطى فى إثيوبيا وهو ما دعاه إلى التقارب مع البابا ليكتشف فيه رجلا صلاحا وتقوى وقداسة فيخضع له كأب روحى يلتمس إرشاده وصلواته وبركاته دائماً وقد تجلت علاقة المحبة بين البابا والامبراطور فى وضع حجر أساس الكاتدرائية بالعباسية، حيث حضر بنفسه وشارك البابا والرئيس عبدالناصر فى وضع حجر الأساس. وإلى جوار الرسائل بين البابا والإمبراطور، لعب الرجل المستنير أيضا دورا كبيرا فى استعادة رفات القديس مرقس الرسول من إيطاليا بعد 11 قرنا. وترجع قصة سرقة جسد القديس مرقس من الإسكندرية إلى نحو 1140 سنة حين فكر بعض البحارة الإيطاليين فى تدبير خطة للاستيلاء على الجسد ونقله إلى البندقية وتصادقوا مع حراس القبر وأجزلوا لهم العطاء، ثم أوهموهم بأنهم سيأخذون جسد القديس لحمايته فى البندقية، ولما كان الأقباط فى مصر يتعرضون لأنواع من الضغط فى ذلك الوقت، حيث أحرقت كنائسهم واضطهد رهبانهم وقساوستهم الذين أخذوا يفرون إلى الأديرة والصحارى فقد وافق الحراس وسمحوا للبحارة الإيطاليين بنقل الجسد إلى مركبهم سرا وسرعان ما انكشف الأمر، وعلم به البطريريك فأبلغ السلطات طالبا منع سفر رفات القديس وانتشر رجال الأمن فى الميناء لتفتيش السفن، ولكن البحارة الإيطاليون كانوا قد أعدوا خطة لتغطية عملية التهريب فشحنوا السفينة بالخنازير، وكان المعروف عن رجال الأمن أنهم لا يقتربون من مركب به خنازير واستطاع البحارة بذلك تهريب جسد القديس وفى البندقية عرضه البحارة على حاكم المدينة الذى وضعه فى كنيسة قصره، وتم تشييد كاتدرائية كبيرة باسمه دفن فيها وأصبحت من أهم معالم البندقية. بعد مفاوضات طويلة استغرقت فترة من الزمن ألح فيها قداسة البابا كيرلس السادس على ضرورة عودة جسد القديس مرقس من فينسيا إلى مصر وقامت سفارة الفاتكيان فى مصر بدور كبير ومهم ولما كان مجد فينسيا وفخرها وعزها وتاريخها كله يقوم على بركة وجود جسد مارمرقس بها وعلى هذا الجسد أقيمت الكاتدرائية المرقسية الذهبية بفينسيا وتعد أعظم كاتدرائية تاريخية فى الغرب بل إن فينسيا اتخذت شعارها أسد القديس مرقس المجنح وجعلته رمزا للمدينة وعلما لها فقد فزع أهل فينسيا من طلب البابا كيرلس السادس بعودة الرفات المقدسة واعتذروا بشدة من عدم إمكانهم الاستجابة لهذه الرغبة لأنها تصطدم مع وجود مدينتهم وكأن البابا كيرلس السادس طلب إلغاء وجودهم والقضاء على كيان مدينتهم وتاريخها وحضارتها ومجدها وفخرها وعزها وتعثرت المفاوضات فى البداية وبدا طلب البابا كيرلس السادس مستحيلا، لكن البابا كيرلس ألح وأصر بكل ما يمثله بابا الإسكندرية من قوة وإصرار واضطر البابا أن يتدخل فسأله بطريرك فينسيا الكردينال أوربانى أن يهدى الرفات إليه هو شخصيا بوصفه الحبر الرومانى ولايعطيه كل جسد القديس مرقس بل جزء منه ويحتفظ لفينسيا وأهلها بالجزء الباقى بركة لهم ولمدينتهم فلم يستطع البطريرك أوربانى بطريرك فينسيا أن يرفض طلب الحبر الرومانى بوصفه بابا الكنيسة الكاثوليكية ووجد فى عرض البابا بولس حلا مقبولا يرضى جميع الأطراف فوافق على ذلك وفعلا تقدم بطريرك فينسيا بإهداء البابا بولس السادس جزءا من جسد القديس مرقس وهو الجزء الذى أهداه الحبر الرومانى إلى البابا كيرلس السادس والكنيسة القبطية الأرثوذكسية فكانت هذه الهدية الثمينة الغالية علامة وصل للمحبة المسيحية بين الكنيستين التاريخيتين العريقتين. وكانت فرحة أقباط مصر ومسلميها فرحة أعمق من أن يعبر عنها بعودة رفات قديس مصر الأول وأول بطريرك لها وهو مؤسس المسيحية فيها بعد السيد المسيح . أثناء أداء هذه التحية الإكرامية لرفات مارمرقس الرسول كان الكهنة القبط ينشدون الألحان الكنسية المناسبة، وقد استحوذت على قلوب الجميع مصريين وأجانب ومرت تلك اللحظات رهيبة وسعيدة وكان الموقف كله مثيرا وخيم على القاعة جو عميق من الروحانية والتقوى والقداسة والورع بعد ذلك نهض البابا بولس السادس والأنبا مرقس رئيس الوفد ليتبادلا الهدايا، فقدم الأنبا مرقس هدايا البابا كيرلس السادس وكنيسة مصر القبطية وهى أربع: صندوق فاخر مغطى ومبطن بالقطيفة الحمراء، ويضم كتاب العهد الجديد باللغة القبطية البحيرية، وكتب عليه باللغتين القبطية والإنجليزية من البابا كيرلس السادس إلى البابا بولس السادس وصندوق فاخر مغطى ومبطن بالقطيفة الحمراء ويشتمل على قطعة نسيج أثرية ثمينة ترجع إلى القرنين الخامس والسادس الميلادين عثر عليها فى بلدة الشيخ عبادة بمحافظة المنيا وصندوق فاخر مغطى ومبطن بالقطيفة الحمراء ويحمل أسطوانات القداس الباسيلى وألحانه كاملة وصندوق فاخر مغطى ومبطن بالقطيفة الحمراء ويحمل سجادة ممتازة طولها متران، 30 سنتيمترا، من صنع فلاحى قرية الحرانية بمصر، وقد سجلت على هذه السجادة رسوم عدة، تمثل قصة يوسف الصديق كاملة وقد أعجب بابا روما بهذه الهدايا الثمينة كل الإعجاب وشكر بابا الإسكندرية شكرا جزيلا وقال: إنه سيحتفظ بهذا كله فى الفاتكيان ذخيرة لكل الأجيال. ثم وزع البابا بوليس السادس بيده هدية تذكارية لكل أعضاء الوفد البابوى القبطى، عبارة عن صليب رسم عليه المسيح مصلوبا، ويقفان على جانبى الصليب القديس بطرس الرسول على يمين المسسيح، والقديس بولس الرسول على يساره. ومن خلف الصليب نقش اسم بولس السادس الحبر الأعظم. كما أهدى البابا لجميع الكهنة والمرافقين ميداليات تذكارية نقشت عليها صورتا مار بطرس وماربولس الرسولين من جهة، وعلى الوجه الآخر نقشت صورة بولس السادس الحبر الرومانى ثم قدم البابا الرومانى للأنبا مرقس رئيس الوفد البابوى القبطى.∎