بلغة الإحصائيات، عندنا ما يقارب من مائتى ألف مسجد تنطلق من على منابرها فى اليوم الواحد من كل أسبوع مئات الآلاف من ساعات الوعظ، وملايين الابتهالات والالتماسات إلى السماء. [محمود شلتوت] وبداهة من المفروض أن يصاحب ذلك زيادة اقتراب المجتمع المصرى من القيم الإسلامية.
ولكن الواقع يقول عكس ذلك ويؤكد ارتفاع معدل الخطايا والذنوب والدجل والشعوذة والاختلاس والسرقة والاستيلاء على المال العام.
ويعنى هذا أن خطابنا الدينى مظهر من مظاهر الفساد، وليس حقيقة من حقائق الإصلاح. فكيف يستقيم ذلك؟
وإلى متى سيستمر تجاهل آثاره السلبية من تدمير للعقل الجمعى للأمة، وتشويه الثقافة الإسلامية؟
إن آفة خطابنا الدينى تكمن فى مصدره المعرفى والذى لم يتغير منذ العصور الوسطى.
فأخطر ما فى كتب تراثنا الإسلامى، وأشدها فتكا بعقول الشيوخ والدعاة، الهوامش والشروح. وقد زادته تخلفا على تخلفه، وإظلاما على ظلامه.
فبعد تدمير بغداد ومكتباتها على يد المغول وحرق الأصول المخطوطة لأغلب أمهات الكتب الإسلامية أعيد نسخ أغلبها فى العصر المملوكى بهوامش وشروح علماء العصر المملوكى من أمثال: البدرعينى والقسطلانى والكرمانى، والمطلع عليها يشفق على من درسوها ويتعجب كيف استوعبتها عقولهم.
ومن عجائب الكلام فى هذه الهوامش وأغربها ما جاء فى تبرير «ضراط الشيطان» أثناء سماعه الأذان حيث تقول الرواية: «إذا نودى للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين.. إلخ». «صحيح مسلم، بشرح النووى» ويتفضل الإمام النووى ويزيدنا علما فى هامشه فى هذه الرواية عن سبب ضراط الشيطان قائلا:
«لئلا يسمع الأذان فيضطر أن يشهد عليه بذلك يوم القيامة» وهامش آخر فى البخارى، بشرح الكرمانى يفرد فيه صاحبه صفحات هائلة يشرح فيها لماذا يستحب قتل الوزغ «البرص» قائلا: إن البرص كافر لأنه كان ينفخ فى النار على إبراهيم ويفيدنا بثواب من يقتل البرص من أول ضربة، مع تناقص حسناته كلما زادت عدد المحاولات الخائبة.
ومن يشرع فى قتل الوزغ ويفشل فعليه إثم عظيم وكفارته الحج. ومن يريد الاستزادة من هذه الهوامش والاطلاع عليها يرجع إلى شروح البخارى مثل «البخارى بشرح الكرمانى» و«البخارى بحاشية السندى» ليعرف المصدر الذى تسللت منه الخرافة إلى عقول شيوخنا وكيف سرت فى شرايينهم. [ابن باز]
ولماذا أصبح خطابنا الدينى اجتراراً من اجترار بعد اجترار.
لقد كان هناك بصيص من الأمل فى إصلاح خطابنا الدينى، واختفاء هذه الخزعبلات والترهات من مصدره المعرفى. لوجدت دعوة الإمام الأعظم آذانا صاغية ورغبة جادة من المؤسسة الدينية فى الإصلاح الدينى. فعن خطورة هذه الشروح كتب يقول:
«أريد أن أعلم فى هذا الجامع شيئا نافعا من هذه الشروح العتيقة البالية الخالية من المعنى التى هى أضر من كتبكم القديمة والمؤلفة فى القرون الوسطى. ولكن هل أجد من يساعدنى فى ذلك وإن لم أجد فهل أفلح فيه وحدى».
«الشيخ محمد عبده، الأعمال الكاملة، الجزء الثالث - ص 201 دار الشروق» وحتى الآن لم يجد من يعينه على ذلك وقد مر على دعوته الإصلاحية ما يزيد على مائة عام.
وفى عصر النفط وهجوم الفكر السلفى حدثت فجوة هائلة بين الإسلام والمسلمين، فقد استدعى السلفيون قضايا كانت محصورة فى كتب التراث وغلفوها بآراء شيوخهم وأعادوا طرحها من جديد.
وهذا أخطر ما فعلوه بالثقافة الإسلامية لأن أغلب هذه القضايا تدور حول الجن والمس الشيطانى، وأصبح أغلب شيوخهم متخصصين فى العلم الجنى حتى أن أحد شيوخهم، نصح الرجل المسلم بدهان دبره بزيت الزيتون حتى لا يأتيه الجن ويضاجعه أثناء النوم.
«مجموعة فتاوى بن باز»
وعلى سبيل الدعابة نقول إن الزيت لن يؤتى ثماره بل سيسهل المهمة التى جاء من أجلها الجن.
هذا هو عزيزى القارئ المعين الذى يستقى منه الخطاب الدينى الحالى الذى تخلف عصورا عن ذى قبل. ففى الستينات كتب أحد رواد مدرسة الإمام/محمد عبده وهو الشيخ شلتوت قائلا فى كتاب الفتاوى؟.
«إن صلة الجن والشياطين بالإنسان لا تتعدى الوسوسة والتزيين للشر أما ما عدا ذلك فكله أوهام..».
إن إصلاح خطابنا الدينى يبدأ بخطوتين لا غنى عنهما:
الأولى: تنقية جميع مصادره المعرفية المصنفة مع احتفاظنا بالصحيح وتحفظنا على غير الصحيح. الثانية: استلهام تجربة الإمام الأعظم الفكرية والبدء من حيث انتهى هو ورواد مدرسة العظام.
وسنجد فيها بديلا عن ثقافة «الثعبان الأقرع» و«ضراط الشيطان».