لم يكن ليل ذلك اليوم هادئا، بل كان ليلا صاخبا بمشاهد الأحلام المؤجلة الكثيفة. ولم يكن الاستيقاظ فى ذلك الصباح موسيقيا، بل كان استيقاظا مزدحما بأشواك تدور بسخونة فى ذراعى الشمال، مع نوبات من ألم لا نهاية له فى ذراعى اليمين. حاولت تذكر ملامح الحب الأول فى حياتى لعلى أستعيد جدارة الاستمرار فى الحياة، فضحكت هى فى خيالى هامسة بصوتها الموسيقى «انتبه، فإذا هاجمتك نوبة الرغبة فى القئ فاعلم أنها الذبحة الصدرية وعليك أن تنزل إلى أقرب مستشفى»، وما أن انتهت كلماتها فى خيالى حتى دهمتنى رغبة إخراج كل ما فى معدتى، حتى ملأتنى الدهشة فلم تكن من عادة الحبيبة أن تنبهنى إلى صحتى، بل تسألنى عن أحوالى المالية وهل هى منتظمة أم لا؟. وقررت الانصياع لما أملته علىَّ صورة الحبيبة فى الخيال، فور أن داهمتنى رغبة إخراج ما فى معدتى، فطلبت الأستاذة الدكتورة عالية عبدالفتاح أستاذة الرعاية الحرجة وتلميذة النقى الجليل شريف مختار، فسألتنى عن حالتى فشرحتها لها بدقة، فقالت بلهجة فيها أمر مباشر: «استدعى سيارة إسعاف وعليك بالذهاب الفورى إلى مركز الرعاية الحرجة، وسيستقبلك زميلنا د.تامر فهمى». حدثت تامر فهمى تليفونيا فأوصانى بوضع لزقة مذيبة للجلطات، وقرقشة قرصين إسبرين، ووضع حبة دينترا تحت لسانى. وأن ألتقى به على الفور فى استقبال القصر العينى الفرنسى، هذا الاستقبال الذى أعاد تأسيسه مع زميلته التى تكبره فى الخبرة والتخرج ووراءها تاريخ لايستهان به من الإنجاز الأستاذة الدكتورة عالية عبدالفتاح. أخذت أتتبع فى خيالى تلك المسيرة الطويلة التى بدأت بحلم عارم كأنه الرسالة أو ما أكرره دائما عن صاحب أى موهبة، وهى النبوءة الذاتية التى تدير واقعة كى يصل إلى تحقيق ما يشعر أنه موهوب ومرصود من أجل تلك النبوءة. كان هذا هو إحساس شريف مختار عندما رأى فى الولاياتالمتحدة علما بأكمله يتم تدريسه والعناية بأفراده كفرق موجودة بكل جامعة وكل مستشفى، هو علم الرعاية الحرجة. وجاء شريف مختار إلى القاهرة ليعرض فكرته على العديد من الأساتذة فلم يؤمن بها أو يصدقها سوى الجليل حقا وصدقا د.إبراهيم بدران إبان رئاسته لجامعة القاهرة. واستمر د.شريف مختار ثلاث سنوات يصل الليل بالنهار حتى صار عندنا نواة تطبيقية وعملية لهذا العلم، ومهمة هذا العلم ببساطة شديدة هو التدخل فى اللحظات الحرجة من حياة الإنسان إن هاجمته جلطة أو ذبحة صدرية أو أى عارض مفاجئ قد يؤدى إلى وضع الروح فى يد عزرائيل. وكانت أولى تلميذات د.شريف مختار هى طالبة الدراسات العليا عالية عبدالفتاح، وهى التى رأى فيها د.شريف قول مشايخ الصوفية الكبار عندما سأله تلاميذه «لماذا تصطفى فلانا علينا؟» فأهدى الصوفى الكبير كل تلميذ منهم دجاجة وطلب منه أن يذبحها بشرط ألا يراه أحد، فتفرق التلاميذ ليبحث كل منهم عن مكان لا يوجد به أحد ليذبح الدجاجة، وعادوا جميعا ومعهم الدجاجات المذبوحات ما عدا التلميذ الأثير القريب من قلبه؛ فقد عاد وفى يده دجاجته حية، فسأله القطب الصوفى «لماذا لم تذبح دجاجتك؟» أجاب التلميذ: لم أجد مكانا لا يرانى فيه أحد فعيون الله فى كل مكان، وهو يرى الجميع. كانت عالية عبدالفتاح قد قررت منذ أن كانت بالشهادة الإعدادية أن تفعل كل ما تبتسم له عيون السماء، وكل ما لا يخجل منه قلبها المتوقد بعشق العلم، فقررت أن تدخل كلية الطب وتتخصص فى أمراض القلب كيلا تفقد مصر هامات لها قيمة جمال عبدالناصر، فقد أحست أن أحلام الرجل فى رؤية مصر بلدا متقدما كان هو الهاجس الذى يحركه. ولا أحد يمكن أن يصنف طفلة فى الشهادة الإعدادية تحت اسم أى تيار سياسى، ولكن يمكن أن نرى فى حلم الطفلة الصغيرة رغبتها فى أن توقف رحلات افتقادنا للأحباء. ولم يكن نجاحها بالالتحاق بالعمل كمعيدة بقسم الرعاية الحرجة سوى بداية الرحلة التى قرأ فيها أستاذها شريف مختار قدرتها على رؤية عيون الله الرحيمة بالبشر، فتمتلئ عيون الطبيب بمشاعر القدرة على البحث عن إشارة مرور حمراء تضىء فى وجه ملاك الموت فتمنعه من التسلل إلى حياة المريض هامسة له «لقد جئت فى غير ميعادك، لأن مهمة العلم أن يعرف كيف يوقف نهايات الحياة مادامت له القدرة على ذلك. وهكذا صارت عالية عبدالفتاح هى «الصوفية الشابة» التى لم تذبح الدجاجة بسكين غرور غياب عيون السماء عن متابعة كل ما يحدث. وحين قارب د.شريف مختار من عمر مغادرة المناصب الإدارية بعد أن كبر قسم الرعاية الحرجة وصار علما متماسك الأركان، ليتولى من بعد د.حسام موافى قيادة القسم، سألت يومها حسام موافى «بأى عيون ترى شريف مختار؟» ضحك هامسا «لا يوجد سطر فى أبحاث القلب والرعاية الحرجة لم أستوعبه، وأنا من دفعة العميدة مديحة خطاب، وهى وكل زملاء الدفعة يعلمون أنى المتفوق فى دراسة كل ما يخص القلب، ولكن بعد أن راقبت شريف مختار أيقنت أن السماء تختص بعضا من البشر بخواص تظهر فيها الموهبة التى لا حدود لضفافها، هذا هو شريف مختار». ومن بعد تقاعد حسام موافى عن المراكز القيادية بطب القصر العينى اختارت العميدة مديحة خطاب المتفوقة عالية عبدالفتاح على ضوء ما قاله شريف مختار عن قدرتها على رؤية عيون السماء فى كل عمل تقوم به. وبعد فترة جاء وقت تغيير رئاسة قسم الرعاية الحرجة. ولم يشأ عميد الطب سامح فريد أن يجدد لها، ولكن كانت عيون حسام موافى رئيس جامعة القاهرة فى انتظار انتهاء عالية عبدالفتاح من عمل رئاسة قسم الرعاية الحرجة ليسند لها منصب نائبة مدير المستشفى الفرنساوى. ولن أحكى عن قوة الضبط الذى انتقل من قسم الرعاية الحرجة إلى قصر العينى الفرنساوى، ولكن تشهد بذلك عمليات الإحلال والتجديد والإضافة وعدم إنكار جهد من سبقوها، فقد درست لشهور كيف أدار المؤسس فؤاد النواوى تلك المنشأة الهائلة، وماذا أضافت مديحة خطاب إليه حين أدارت هذا الصرح العلمى، وكيف كان أستاذ إدارة المستشفيات سعيد راتب يدير الموقع بعد مديحة خطاب، ثم ما هى خواص شخصية العالم إبراهيم الإبراشى فى أسلوب الإدارة الذى اتبعه من قبل أن تديره الأستاذة الدكتورة مها مراد والتى سبق أن أخرجت مستشفيات أبوالريش من مستنقع الإهمال الجسيم. وجاءت عالية لتعاون مها مراد وكان لابد من تكوين فريق يستفيد من خبرات من سبقوا ووجدت عالية فى تامر فهمى هذا المستوعب لأهمية التفاصيل الصغيرة لإنقاذ أى إنسان فى حالة خطر داهم. واستمر العمل يسير فى طريقه إلى أن انتقلت إدارة مستشفى القصر العينى الفرنساوى إلى الدكتور عمرو جاد، وقررت عالية عبدالفتاح أن تتفرغ لما اعتبرته مشروع عمرها وهو تأسيس مركز خاص لإعادة ضبط كهرباء القلب، خصوصا أن ثلاثة من الممولين الذين لا يسألون إلا عن الدقة والإتقان فى المجال الذى تذهب إليه تبرعاتهم، وأولهم طارق عامر رئيس مجلس إدارة البنك الأهلى، وهو الرجل الذى قام بإلغاء بند هدايا رأس السنة والتى كان يوزعها البنك على بعض من العملاء وكان يكلف البنك اثنى عشرة مليون جنيه سنويا، وقرر المساهمة فى تأسيس المشروع الحلم الذى يداعب عالية عبدالفتاح من سنين طويلة، وتقرر تنفيذ المشروع الحلم فى مركز استقبال القصر العينى هذا الذى يلجأ إليه المحتاجون، أغنياؤهم وفقراؤهم. ومازال العمل يجرى على قدم وساق، بنقود البنك الأهلى، ثم بنقود رجل الأعمال محمد الأمين وشريكه منصور عامر. وحتى نعلم قيمة الفقراء فى حياة عالية عبدالفتاح، إليكم ما رأيته بنفسى، فقد منعنى المرور ذات ظهر إلى الوصول حيث موعدى مع د.عالية فى بداية إصابتى بضغط الدم، ولما كنت أعلم أنها أخذت عن أستاذها شريف مختار طاقة العمل من التاسعة صباحاً وحتى الخامسة بعد الظهر، لذلك أيقنت أنى حين أصل سأجدها وستتولى الكشف على ضغط دمى وتنظر فى قائمة التحليلات التى سبق أن طلبتها منى. وحين صعدت إلى الدور السابع حيث حجرة الكشف لأساتذة الجامعات، وجدت عالية مشغولة عنى برعاية مريض ظننته واحدا من كبار رجال القوم. وفوجئت بعد ساعة ونصف من الانتظار أنها كانت تنقذ موظفا بسيطا من موظفى المستشفى وتضعه فى سرير ضمن الأسرة المخصصة لكبار الأساتذة، وحين ضحكت معها متسائلا «ماذا تفعلين إن جاءت حالة عاجلة لأستاذ جامعى؟» قالت: وهل أترك موظفا لتخرج روحه من جسده وهو من أفنى عمره من أجل خدمتنا نحن أساتذة الجامعة؟. إن جاءت حالة عاجلة لأستاذ سأجد لها مكانا لكنى لست مستعدة أن أضحى بحياة إنسان من أجل أن أترك سريرا فى الإنعاش منتظرا لحادث قد يأتى أو لا يأتى. حين دخلت منذ عام إلى غرفة العمليات لتركيب دعامات للقلب، أيقنت أن جهد شريف مختار الذى حلم به فى أن يتحول علم الرعاية الحرجة من مجرد حلم فى رأسه إلى منظومة عمل. وكان معه فى غرفة العمليات كل من عالية عبدالفتاح والموهوب أحمد عبدالعزيز الذى يقوم بتركيب دعامات القلب فى مستشفى وادى النيل، وبجانبهم تامر فهمى الذى شهد له بالتفوق سيد ضبط موسيقى غرف القلب عالمنا المعاصر وهو البروفسير نتالى فى جون هوبكنز بالولاياتالمتحدة، وكنت راقدا متفرجا على مشهد قلبى الذى عانى من تكسر النصال على النصال، هزائم كثيرة وانتصارات قليلة. كنت أعلم أن الجهاز الذى يعمل به شريف مختار ثمنه يزيد على مليون دولار اشتراه من هدية واحد من الأثرياء، فلم يأخذ المليون دولار لنفسه أو لأولاده بل أهداه لقسم الرعاية الحرجة. واندهشت حين رأيت قلبى أمامى على شاشة التليفزيون، فسألتهم «أين صورة حبيبتى التى كنت موقنا من قبل أن قلبى على صورتها؟» فضحكوا جميعا وقالوا «ثلاثة شرايين فى قلبك تقترب من الانسداد». سألتهم «من أين ستأتون بثمن الدعامات الثلاث التى ستقومون بتركيبها؟» أجابتنى عالية: أبلغت أسامة سرايا رئيس تحرير الأهرام بالموقف فقال لى إنه اتفق مع كرم جبر رئيس مجلس إدارة روزاليوسف على اقتسام التكلفة بين الأهرام وبين روز اليوسف. المهم أن تقوم بالسلامة . سألت تامر فهمى «ماذا يفعل من ليس عندهم مقالات بالأهرام ولم يعملوا فى روزاليوسف وصباح الخير أكثر من خمسين عاما؟» لم يرد. ولكن الممرضة التى كانت تقود الترولى الذى أرقد عليه لأعود إلى سريرى تكفلت بالرد، فقالت «طبعا تسأل عن الفقراء؟ الفقراء يموتون يا سعادة البك قبل أن يصلوا إلينا»، أنت لا تعلم أن ثمن الدعامة الواحدة إن كانت دوائية هو اثنا عشرة ألف جنيه، وليس سهلا على الفقراء أن يعثروا على هذا المبلغ للدعامة الواحدة. وعلى الرغم من أن الدعامات ينخفض ثمنها كل شهر أو شهرين إلا أن بعضا من الأطباء وبعضا من المستشفيات يفعلون مثلما يفعل تجار اللحم والخضار حين لا يخفضون الأسعار، لأن الفارق هو ما يشترى أحدث سيارة وتذكرة السفر إلى أوروبا ومصاريف الأولاد فى الجامعات الغالية. أيقنت أن ضمير حاتم الجبلى يجب أن يتدخل فى إعادة تسعير الدعامات حتى يمكن إنقاذ أنصاف الفقراء ومحدودى الدخل الذين نتغنى بحبهم ليل نهار. هل يمكن أن يموت الفقراء قبل أن يصلوا إلى سرير فى الرعاية الحرجة؟ دار هذا السؤال كثيرا فى رأس شريف مختار ودار بنفس سرعته فى رأس عالية عبدالفتاح، ولابد أنه دار فى رأس حاتم الجبلى الذى قرر الاستفادة من الكلية الجديدة التى يؤسسها شريف مختار مع نقابة الأطباء كى يتم تدريب أطباء وزارة الصحة العاملين فى حقل أمراض القلب على كل جديد فى على الرعاية الحرجة، ولذلك قام بتعيين عالية عبدالفتاح كمساعدة له فى هذا المجال، وطبعا سيتم تدريب الأطباء فى نقابتهم دون أن يتحملوا أعباء مالية كتلك التى يتحملها أى متدرب فى الخارج. لم أندهش من كرامة شريف مختار التى امتلكت الحلم قديما وصار الحلم مجرد نبوءة ذاتية فرضت نفسها على المجتمع المصرى بأكمله، ولم أندهش لصدور قرار بتعيين عالية عبدالفتاح كمساعدة لوزير الصحة من أجل تدريب الأطباء على الرعاية الحرجة. يبقى أن يلتفت أساتذة قسم الهندسة الطبية بكليات الهندسة لتصميم وتصنيع أسرة ووسائل الرعاية الحرجة بدلا من استيرادها بآلاف الجنيهات، فإذا كان السرير فى مركز شريف مختار يكلف المريض خمسين جنيها فى اليوم الواحد، فهو يكلف أى مريض بأى مستشفى آخر ما لايقل عن ألف جنيه. وإذا كنا قادرين على أن ننقل العلم من رءوس وأيدى أساتذته إلى من يطلب هذا العلم، فلماذا لانجد أستاذا فى الهندسة الطبية يهدينا مركز تصنيع أجهزة الرعاية الحرجة مثلما فعل شريف مختار؟ هاهى الأيام تمر، وفات عام بالتمام والكمال على إعادة انتظام دقات القلب دون مغص ودون أزمات. ولا توجد كلمات شكر، فقد تعود الكبار ممن هم على شاكلة شريف مختار وعالية عبدالفتاح ومعهم خبير موسيقى دقات القلب تامر فهمى تعودوا على العطاء دون انتظار لثمن. ورغم ذلك لن أغفر لهؤلاء الثلاثة أنى لم أجد قلبى على هيئة حبيبتى كما كنت أتوهم وأعيش على هذا الوهم الجميل.