الخشت يستعرض توسيع آفاق التعاون بين جامعتي القاهرة والشارقة.. صور    9 مايو 2024 .. نشرة أسعار الخضراوات والفاكهة في سوق الجملة    «الإحصاء»: تراجع معدل التضخم السنوي إلى 31.8% خلال أبريل الماضي    سكرتير مساعد البحيرة يتابع تلقى ملفات التصالح بالمركز التكنولوجى بحوش عيسى.. صور    مصر والأردن تبحثان تدعيم التعاون المشترك بمختلف مجالات النقل    «التخطيط»: 3.9 مليار جنيه استثمارات 274 مشروعًا بمحافظة بني سويف خلال 2023-2024    تقرير: 5 دول أوروبية تتجه للاعتراف بدولة فلسطين    إيران: عواقب وخيمة على داعمي حرب غزة إذا لم تضغط واشنطن على نتنياهو لقبول وقف إطلاق النار    تغيب حسين الشحات عن ثاني جلسات محاكمته في اتهامه بالتعدي على لاعب بيراميدز    أيمن يونس: واثق في لاعبي الزمالك للتتويج بالكونفدرالية.. وزيزو «قائد الأحلام»    ضبط 2035 كجم لحوم وأسماك غير صالحة للاستهلاك الآدمي بكفرالشيخ    محافظ بورسعيد يوجه بتوفير سبل الراحة للطلاب خلال الامتحانات    بعد قليل.. صلاة الجنازة على جثمان والدة كريم عبد العزيز    كوميديا أقل، ورعب أكثر...البيت بيتي 2 يحقق ردود أفعال واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي    السعودية: مهرجان البحر الأحمر السينمائي يفتح باب التقديم أمام الأفلام السينمائية لدورته الرابعة    9 مايو 2024.. نشرة أسعار الحديد والأسمنت بالمصانع المحلية    ضبط 104 كيانات غير شرعية تبيع برامج العمرة والحج.. والسياحة تتخذ الاجراءات القانونية    وزير الإسكان يلتقى نظيره العماني لبحث سبل تعزيز التعاون المشترك بين البلدين في مجال التنمية العمرانية    بدء فعاليات دوري كأس الدكتور منصور حسن لكرة القدم بعلوم ذوي الاحتياجات الخاصة بني سويف    اليوم.. محاكمة المتهم بقتل «طفلة مدينة نصر» بعد التعدي عليها جنسيًا    وكيل "تعليم مطروح" يتابع امتحانات النقل في يومها الثاني    الدفاع المدني اللبناني: 4 قتلى في غارة إسرائيلية على سيارة جنوب البلاد    في يوم النصر.. بوتين يكشف موقف روسيا من "مواجهة عالمية" جديدة    رئيس مهرجان المركز الكاثوليكي للسينما عن رفض عرض فيلم الشيخ جاكسون: الفيشاوي رقص في المسجد    السكة الحديد: تشغيل قطارات نوم وأخرى مكيفة لمحافظتي الإسكندرية ومرسى مطروح    نشرة مرور "الفجر".. انتظام حركة شوارع القاهرة والجيزة    24 عرضا مسرحيا بالمهرجان الختامي لنوادي المسرح    طرح فيلم السرب بالسينمات السعودية .. اليوم    ظهور سلالة جديدة من فيروس كورونا.. "FLiRT" تشكل 25% من حالات الإصابة    تعرف علي الفئات الأكثر عرضة للإصابة بالرمد الربيعي    «التعليم» توفر فرص عمل في المدارس الدولية للتكنولوجيا التطبيقية.. اعرف الشروط    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 9-5-2024    طلب برلماني بوقف "تكوين".. تحذير من خطر الإلحاد والتطرف    مفاوضات القاهرة وثقافة الآباء والأبناء.. مقتطفات من مقالات كتاب الصحف المصرية    ميليشيات الحوثي تعلن استهداف ثلاثة سفن إسرائيلية في خليج عدن والمحيط الهندي    مصدر مطلع: حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية منفتحون نحو إنجاح الجهد المصري وصولا للاتفاق    موعد مباراة الإسماعيلي والداخلية اليوم الخميس بالدوري    علي جمعة: القلب له بابان.. وعلى كل مسلم بدء صفحة جديدة مع الله    91282 بالصف الثاني الثانوي بالقاهرة يؤدون امتحان نهاية العام    قراراتها محسوبة وطموحها عالٍ.. 7 صفات لامرأة برج الجدي تعكسها ياسمين عبدالعزيز    الأهلي يخطف صفقة الزمالك.. والحسم بعد موقعة الترجي (تفاصيل)    محمد فضل يفجر مفاجأة: إمام عاشور وقع للأهلي قبل انتقاله للزمالك    حكم الحج لمن يسافر إلى السعودية بعقد عمل.. الإفتاء تجيب    طقس اليوم: شديد الحرارة على القاهرة الكبرى نهارا مائل للبرودة ليلا.. والعظمى بالعاصمة 36    أحمد عيد عبدالملك: تكاتف ودعم الإدارة والجماهير وراء صعود غزل المحلة للممتاز    تامر حسني يقدم العزاء ل كريم عبدالعزيز في وفاة والدته    قائد المنطقة الجنوبية العسكرية يلتقي شيوخ وعواقل «حلايب وشلاتين»    إبراهيم عيسى: السلفيين عكروا العقل المصري لدرجة منع تهنئة المسيحيين في أعيادهم    بعد غياب 10 سنوات.. رئيس «المحاسبات» يشارك فى الجلسة العامة ل«النواب»    ناقد رياضي يصدم الزمالك حول قرار اعتراضه على حكام نهائي الكونفدرالية    «أسترازينيكا» تبدأ سحب لقاح كورونا عالميًا    الزمالك يشكر وزيرا الطيران المدني و الشباب والرياضة لدعم رحلة الفريق إلى المغرب    زعيمان بالكونجرس ينتقدان تعليق شحنات مساعدات عسكرية لإسرائيل    أحمد موسى: محدش يقدر يعتدي على أمننا.. ومصر لن تفرط في أي منطقة    استشاري مناعة يقدم نصيحة للوقاية من الأعراض الجانبية للقاح استرازينكا    وزير الصحة التونسي يثمن الجهود الإفريقية لمكافحة الأمراض المعدية    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعل لنا في كل أمر يسراً وفي كل رزق بركة    محافظ الإسكندرية يشيد بدور الصحافة القومية في التصدي للشائعات المغرضة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المخير والمسير.. بقلم: د. مصطفى محمود
نشر في صباح الخير يوم 07 - 09 - 2010


بقلم: د. مصطفى محمود
القرآن معمار فريد.. نسيج وحده.. في الطريقة التي تصفٌّ بها الألفاظ في رصف خاص يفجر ما بداخلها من نغم.. وهو نغم لا ينبع من حواشي الكلمات وأوزانها وقوافيها وإنما من باطنها بطريقة محيرة مجهولة تماما.. وبطريقة تؤدي إلي خشوع المستمع وإدراكه الغامض للمصدر الجليل الذي جاءت منه.
فنحن نصبح أسري للقرآن بمجرد الاستماع إليه.. وقبل أن نتعقل كلماته، فإذا بدأنا نتأمل ونتعقل ونحلل ونعكف علي الكلمات فسوف تنفتح لنا كنوز من المعاني والمعارف والأفكار تحتاج إلي مجلدات لشرحها، ولذلك سوف أكتفي بوقفات قليلة أمام بعض المشكلات الأزلية.. كيف تناولها القرآن وماذا قال فيها. وأولها مشكلة الحرية.
والحرية ثغرة كبيرة يدخل منها الشك ويتسلل منها هواة الجدل من الملحدين.. فأول ما يقوله الواحد منهم ليقيم الحجة علي الدين كله أن يهتف محتجا: (إذا كان الله قدر علي أفعالي، فلماذا يحاسبني؟)
(وإذا كان كل شيء يجري في الدنيا بمشيئة الله فما ذنبي ؟)
والسؤال يطرح معضلة بالفعل
وقد أوصي النبي أصحابه بعدم الدخول في جدل.
وقال لهم. إذا جاء ذكر القدر فأمسكوا.
لأنه علم أن المعضلة من المعضلات الفلسفية العالية التي لا يتيسر الرد عليها بعلوم عصره.. وأن الجدل سوف ينزلق بهم إلي متاهة يضيعون فيها.. ولذا فضل الإيمان بالقلب علي الثرثرة العقلية العقيمة وهي وصية لا تنسحب تماما علي عصرنا.. الذي دخلت فيه الفلسفة الجامعات وأصبحت درسا ميسرا يتلقاه ابن العشرين كل يوم.
وبذلك أصبح السؤال مطروحا بشدة.. وفي حاجة إلي جواب ورد شاف من الفلسفة ومن الدين ومن صميم القرآن ذاته.
••
ومن النظرة المبدئية للعالم بما فيه من أرض وسماوات ونجوم وكواكب نري أنه يقوم علي سلسلة محكمة من الأسباب والمسببات وأن كل شيء فيه يجري بنظام محكم.. وإن كان لديك ورقة وقلم فإنك تستطيع أن تحسب بالضبط متي تشرق الشمس ومتي تغرب، لأنها تتحرك حسب قانون.. وكل شيء في الدنيا يتحرك حسب قانون.
إلا الإنسان.. فإنه يشعر أنه يمشي علي كيفه.
الإنسان وحده هو الحر المتمرد الثائر علي طبيعته وظروفه، ولهذا يصطدم بالعالم ويصارعه.. ويستحيل في أي لحظة أن تتنبأ بمصيره.
وحكاية الحتمية الداخلية التي تصورها فرويد فاعتبر الإرادة بسببها حرة في الظاهر، لكن مقيدة في الباطن وأسيرة لجبرية الغرائز وآلية الحوافز الباطنة.. عاد هو ذاته فنقضها فقال إن الغريزة هي خاف غفل تتصرف فيه الإرادة بالكبت أو بالإطلاق أو بالتسامي.
وهكذا عادت الغريزة لتصبح مجرد ظرف تتحكم فيها الإرادة كما تتصرف الإرادة في الظروف الخارجية وتتحكم فيها.. وأصبحت الإرادة بهذا المعني حقيقة متعالية متجاوزة للغرائز.
وبالمثل حكاية الحتمية الطبقية التي أثارها الماديون.. فاعتبروا كل إنسان ابن طبقته.. تحدد له طبقته حوافزه النفسية وعواطفه ورغباته وشخصيته السلوكية.. فهو يتصرف كنبيل أو كإقطاعي أو كبروليتاري لا كفلان الفلاني.. بل هو لا يملك نفسا فيما يتخيل أنه نفس مستقلة بداخله، ما هي في الحقيقة إلا مجموعة الأنماط السلوكية التي استعارها من طبقته. إنها الحتمية الطبقية تعمل من خلاله.. وما هو إلا وسيط تظهر من خلاله القوي الاجتماعية اللا معقولة في تصارعها.
وهي نظرة أوقعت الفكر المادي وعلم النفس الطبقي في أشد التناقض.
فكيف تفسر سلوك رجل مثل تولستوي وهو من النبلاء الإقطاعيين يحكم الوراثة وهو مع ذلك لم يتصرف أبدا كنبيل ولا كإقطاعي بل تصرف كطليعة الفقراء والفلاحين محطما بذلك تلك الحتمية التي اسمها (علم النفس الطبقي).. وبالمثل باكونبين وكروبتكين طليعة الفوضوية وكانا من كبار الأعيان.. وماركس ذاته ابن الطبقة البورجوازية الذي انقلب علي الطبقة البورجوازية.
وماذا تقول عن الفلاح الذي يهمل تنقية الدودة في مزرعة تعاونية..
والعامل الذي يهمل صيانة الأتوبيسات في قطاع عام.
إن هذه الحتمية التي تصورها علم النفس الطبقي هي كلام غير دقيق وغير علمي.
والحقيقة أن النفس الإنسانية انفردت دون صنوف الوجود المادي بأنها تملك قدرة داخلية علي التملص من ال.. لابد.. واللازم..
والضروري والحتوم.. وإن الإرادة الإنسانية لها حريتها في أن تخل بأي تعاقد.. ويستحيل التنبؤ بما يجري في منطقة الضمير.. لأنها منطقة حرة بالفعل.
لا شيء يحول بين الإنسان وبين أن يضمر شيئا في نفسه. إنه المخلوق الوحيد الذي يملك ناصية أحلامه.
ولكن هذه الحرية البكر الطليقة في الداخل ما تلبث أن تصطدم بالعالم حينما تحتك به لأول مرة في لحظة الفعل.
إن رغبتنا تظل حرة مادامت كامنة في الضمير والنية.. فإذا بدأنا التنفيذ اصطدمنا بالقيود.. وأول قيد نصطدم به هو جسدنا نفسه الذي يحيط بنا مثل الجاكتة الجبس ويحاصرنا بالضرورات والحاجات ويطالبنا بالطعام والشراب ليعيش ويستمر ولا نجد مهربا من تلبية هذه المطالب.. فنجري خلف اللقمة ونلهث خلف الوظيفة ونضيع في صراع التكسب ونفقد بعض حريتنا..
بعضها وليس كلها.. وهو ثمن ضروري.. فرغباتنا لا تستطيع أن تعلن عن نفسها بدون جسد.. وجسدنا هو أداة حريتنا كما أنه القيد عليها.
وليس جسدنا وحده بل أجساد الآخرين أيضا أدواتنا.. فنحن ننتفع بما يصنعه العامل وما يزرعه الفلاح وما يخترعه المخترع وما يكتبه الكاتب وكل هذه ثمار أجساد الآخرين وحرياتهم. إن المجتمع أداة هائلة موضوعة في خدمتنا بما فيه من بريد ومواصلات ونور ومياه وصناعات وعلوم ومعارف.
وحينما يركب أحدنا قطارا فإنه يركب في نفس الوقت علي حرية جاهزة أعدها له آلاف العمال والمهندسين والمخترعين.. وهو يدفع في مقابل هذا الكسب ضريبة من حريته.
وليس المجتمع وحده هو الذي يتقاضاه ضرائب ولكن الكون كله..
جاذبية الأرض وضغط الهواء ومياه المحيطات والسماء بكواكبها.. كلها تحاصره وتحاصر حريته وتطالبه بنوع من الوفاق معها.
وهو بالوفاق يربح حريته دائما
بالوفاق مع العالم يمتطيه كما يمتطي الجواد.
فهو حينما يفطن إلي اتجاه الريح ويضع شراعه في مواجهته يمتطي الريح ويسخره لخدمته.. وحينما يفطن إلي أن الخشب أخف من الماء ويصنع مركبا من الخشب يمتطي الماء.
وبالمثل حينما يفطن إلي نفع الناس ويسير في اتجاههم يكسب الناس ويكسب معونتهم.
إن الإنسان يعيش مضطربا بين عالمين.. عالم إرادته الحرة بداخله.. وعالم المادة حوله الراسف المغلول في القوانين.
وسبيله الوحيد إلي فعل حر هو معرفة هذه القوانين والفطنة إلي استغلالها بالوفاق معها.. وهو دائما أمر ممكن.
ولهذا فالحرية حقيقة لا تنفيها المقاومات والظروف الخارجية.. بل إن هذه المقاومات تؤكد الحرية.. فلا يمكن أن تكشف حريتنا عن مدلولها في الخارج إلا بوجود عقبات تزحزحها وتتغلب عليها.. إنها تكشف عن مدلولها من خلال صراع.. وبدون هذا الصراع لا يقوم لها معني.
والضوابط الخلقية والقوانين الاجتماعية لا تنفي الحرية وإنما هي أشبه بعلامات المرور.. وضعت لتنظم المرور وتفسح أكبر حرية للكل.
وأنت حينما تقيم الضوابط علي شهوتك تكسب حريتك لأنك تصبح سيد نفسك لا عبدا لغريزتك.
أما حرية القمار والسكر والعربدة والمخدرات والتبذل الجنسي فهي ليست حريات وإنما درجات من الانتحار وإهدار الحياة وبالتالي إهدار الحرية.
وكل اختيار ضد الحياة لا يكون اختيارا.
وكل اختيار ضد القانون الطبيعي ليس اخيتارا وإنما إهدار للاختيار وكلنا نعلم أننا إذا أردنا أن نزداد حرية ونحن نسبح اخترنا السباحة مع التيار وليس ضده.
نخلص من هذا إلي أن حرية الإنسان حقيقة بالرغم ما يقوم حولها من حدود ومقاومات.. وأن الإنسان حر حرية مطلقة في منطقة ضميره فهو يستطيع أن يضمر ما يشاء.. وحر حرية نسبية في التنفيذ، في منطقة الفعل والعمل بحسب ما يقوم حوله من حدود ومقاومات.
ويبقي بعد ذلك اللغز الأزلي في علاقة الإنسان بالله، وعلاقة حرية الإنسان بالإرادة الإلهية المطلقة.
وهنا يجئ دور القرآن ليلقي كلمات كالومض الخاطف يعطي بها مفاتيح هذا الأشكال الأزلي.
ولأن القرآن كتاب دين وليس كتاب فلسفة فإنه يكتفي بالومض والرمز والإشارة واللمحة.
فيقرر أولا أن حرية الإنسان كانت بمشيئة الله ورغبته ومراده.. وأن ما يجري من حرية الإنسان لا يجري إكراها للخالق ولا إكراها للمخلوق وإنما بهذا قضت المشيئة.
ويقول القرآن في وضوح:
«ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً.. أفأنت تكره الناس حتي يكونوا مؤمنين».
لقد رفض الله أن يكره الناس علي الإيمان وكان هذا في إمكانه.. ولكنه أراد الإنسان أن يكون حرا مختاراً، يختار الإيمان أو الكفر كما يشاء: «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر».
«لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي».
«ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها».
«وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمي علي الهدي».
إن الله يتركنا ولو اخترنا العمي علي الهدي.. وقد سبقت بهذا مشيئته.
بل فعل بنا أكثر من هذا، فخيرنا حتي في أن نختار.. عرض علينا هذه الأمانة «وهي الحرية والمسئولية» عرضها لنقبلها أو نرفضها كما نشاء وهي الأمانة التي رفضتها الجبال.. فحمل الإنسان الأمانة التي رفضتها الجبال.. وكان بنفسه جهولا ظلوماً.
«إنا عرضنا الأمانة علي السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا».
لقد جهل الإنسان تبعة هذه الأمانة وأهوالها ومهالك الغرور التي سوف سيظلم بها نفسه وغيره.. ولكن الله كان يعلم بهذه المحنة الهائلة.. وكان يعلم أن هذه المحنة سوف تزكي الإنسان وتطهره وتربيه.
«وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون».
ولا نعرف كيف تم هذا العرض علي الإنسان بأن يكون حراً أو لا يكون، ولا متي تم هذا العرض.. هل حدث في مبدأ الخلق مع آدم.. أو مع الأرواح قبل نزولها إلي الأرحام.. فهذا غيب مطلق.
والقرآن يكتفي بأن يعطي ومضة ولمحة، وبهذه الحرية التي قبلها الإنسان مختارا حقت عليه المسئولية والمحاسبة وأشار القرآن لهذا في آيات حاسمة قاطعة: «كل نفس بما كسبت رهينة»، «كل امرئ بما كسب رهين»، «وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه»، «قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون»، «ولا تزر وازرة وزر أخري».
لا يستطيع أحد أن يفتدي آخر أو يحمل عنه ذنبه وإنما لكل عمله وعلي كل وزره.
وبمقتضي هذه الحرية جعل الله من «ضمير الإنسان ونيته وسريرته» منطقة محسومة وقدس أقداس.. لا يدخلها قهر أو جبر.. وقطع علي نفسه عهداً بأن تكون هذه المنطقة حراما لا يدخلها جنده.
فالمبادرة بالنية حرة تماما، وكل منا له أن يضمر وينوي ويسر في سريرته ما يشاء وإنما يبدأ التدخل الإلهي لحظة خروج النية إلي حيز الفعل.. فيعطي الله لكل إنسان تيسيرات من جنس نيته ومن جنس ضميره وقلبه.. وهو عين العدل.. ليكون الفعل بعد هذا معبرا عن دخيلة فاعله.
«فأما من أعطي واتقي وصدق بالحسني فسنيسره لليسري.. وأما من بخل واستغني وكذب بالحسني فسنيسره للعسري».
ها هنا وعد آخر من الله بأن يجعل تيسيرات الأفعال مطابقة لدخائل القلوب فيجد الشرير تيسيرات الشر، ويجد الخير تيسيرات الخير.. ومن يعلم الله فيه الهدي يهديه، ومن يعلم فيه الضلال يتركه للشياطين تضله.
«فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا».
وفي آيات أخري نراه يقول: «ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم».
«فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم» ولأن الله علم بكل شيء مسبقا.. وأحاط بكل شيء علما.. نراه يتكلم في القرآن عن من: «حق عليه القول» «ومن سبقت له منا الحسني» «ومن حقت عليه الضلالة» «حق القول مني لأملأن جهنم بالجنة والناس أجمعين».
فقد علم مسبقاً وسلفا بأن الإنسان سيفسد في الأرض وسيسفك الدم ويظلم نفسه ويظلم الآخرين.. ويستحق بذلك درجات متفاوتة من العقوبة.
كل هذا كان في سابق علمه، وليس هذا بالجبر ولا بالحتم.. كما يحدث أن تتوسم في أحد أبنائك حب العلم والتحصيل فتمده بالتسهيلات والتيسيرات وتبعثه إلي الخارج في بعثة.. وتري في الآخر العكوف علي الفساد وصحبة السوء فتكتفي بما له من حظ محدود من التعليم في بلده.. ولو فعلت عكس ذلك لكنت ظالما.. ولا كرهت أبناءك علي غير طبائعهم.
كما أن هذا التوسم المسبق ليس فيه عنصر إكراه ولا جبر.. إنما هو مجرد سبق علم.. فأنت تعلم مسبقا من أخلاق ولدك بأنه سوف ينصرف إلي اللعب ويهمل كتبه.. فإذا انصرف إلي اللعب بالفعل وأهمل كتبه فإن ذلك لا يكون إكراها منك ولا جبرا ولا عنوة وإنما لأن هذه طبيعته التي سبق علمك إليها.. وإنما تأتي التجربة فتكشف له نفسه.. وبذلك يحق عليه العقاب صدقا وعدلا.. فقد علم من نفسه ما لم يكن يعلم.
و«علمت نفس ما قدمت وأخرت» ولهذا جاءت الدنيا لتكون حقل تجربة واختبارا لمعادن النفوس. «خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً»..
وحتي لا تكون لأحد أعذار في أفعاله فيقول لحظة الحساب فعلت كذا وكذا تحت تأثير العرف والتقاليد والبيئة والمجتمع والتربية.. إلخ.. إلخ.. حسم الله الموضوع فقال له القرآن «ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به.. ولكن ما تعمدت قلوبكم».
إن ما يدور في القلب هو موضوع المحاسبة بالدرجة الأولي وليس ما يجري علي مسرح الفعل.
«يوم تبلي السرائر»
إن السريرة هي محل الابتلاء ومحل المحاسبة.
والسريرة هي السر المتجاوز للظروف والمجتمع والبيئة والتربية.. كما أسلفنا في شرحنا المسهب.. فهي المبادرة المطلقة.. والابتداء المطلق الذي أعتقه الله من كل القيود.
إنها روحك ذاتها وهي الكاشفة عن حقيقتك بمثل ما تكشف بصمة أصبعك عن فرديتك.. وروحك فيها من حرية الله لأنها نفحة منه، «فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين»، ولأن فيك من روح الله ومن حريته فأنت محاسب علي هذه الحرية، وهذا منتهي العطاء الإلهي ومنتهي العدل أيضاً.
ومن هنا يأتي المزج بين الروح وبين الله في آيات عميقة الدلالة، «وما رميت إذ رميت ولكن الله رمي».
يأتيك النصر بيدك وبيد الله في ذات الوقت فتكون لحظة الانتصار هي يد الله ورميتك رميته ومشيئتك مشيئته.
ومن هنا قد يعترض معترض.. فيقول: «فلماذا لا تكون النية هي الأخري مقدرة»؟ والجواب علي ذلك يأتي من صميم القرآن: «في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا»، «كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب»، «والذين اهتدوا زادهم هدي»، «فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم»، «سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق».
ومن هذا يتبين أن الله يترك المبادرة بالنية دائمًا لك ثم بعد ذلك يأتي قضاؤه فيزيدك مرضًا إذا أضمرت المرض في قلبك ويهديك إذا بادرت في سريرتك بميل إلي هدي.. ويصرفك عن الهدي إذا أضمرت الكبر.
إن منطقة الضمير متروكة دائمًا لك لتبادر بما تشاء.. وبعد ذلك ينزل عليك القضاء ويحق عليك القول.
وهذا يدل علي أن قانون الخلق الأول هو أن تكون الروح محرابًا وقدس أقداس لا يدخلها قهر.. ولا يكرهها الله علي شيء لا هو ولا جنده ولا أنبياؤه ولا أولياؤه.
إنها «السر الأعظم» الذي لا يعلم به إلا الله يوم تبلي السرائر.
وفي هذا يقول حديث نبوي شريف عن أبي بكر:
«لا يفضلكم أبو بكر بصلاة ولا بصيام ولكن بسر وفر في قلبه».
ويقول الله في قرآنه:
«ود كثيرًا من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم».
لم يخلق الله الحسد في قلوبهم، ولم يودعه ضمائرهم، ولكنهم يحسدونكم اختيارًا من عند أنفسهم.. والعبارة هنا صريحة «من عند أنفسهم».. وهي تنفي التدخل الإلهي وتقطع بوجود هذه المنطقة الداخلية التي تركها الله حرة.
ويقول الله تعالي مخاطبًا الشيطان: «إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين».
إن الشيطان لا يستطيع أن يدخل قلبك إلا إذا فتحت له الباب اختيارًا وكنت من الغاوين، ولكنه لا يستطيع أن يقتحم عليك قلبك جبرا وقسرا.
إن الله قد كفل لهذا القلب الحماية ولم يجعل لأحد من جند الشر أو الخير سلطانًا قاهرًا عليه إلا إذا أراد صاحب هذا القلب اختيارًا أن يستضيف ويدعو ويحتضن دواعي الشر أو دواعي الخير فحينئذٍ يكون له ما أراد.
نحن أمام قدس أقداس بالفعل.. وحرم محرم تقوم عليه الأسوار ولا يدخله حتم ولا جبر ولا إكراه.
وما يحدث لنا من إكراه بالفعل في عالم الواقع لا يمكن أن يصل إلي داخل ضمائرنا. يمكنك أن تجبرني بالقوة علي أن أرفع يدي أو أقف مرغمًا أو أهتف باسمك، ولكن لا يمكن أبدًا أن تجبرني علي أن أحبك.
ولهذا لا تعطينا الأديان رخصة لنقول يوم الحساب.. إن فلانًا أغراني أو فلانًا أجبرني، أو فلانًا أكرهني.. أملاً في أن يلقي الواحد ذنبه علي الآخر فقد جعل الله من أعماق الضمير والسريرة.. منطقة حرام لا يستطيع أن يدخلها جبار بجبروته.
يمكن أن تكره خادمك علي فعل.. ولكنك لا تستطيع أن تكرهه علي أن يضمر شيئًا في سريرة قلبه.
والقرآن يعتبرك حرًا مسئولاً مهما حاطت بك ظروف الاستبداد فيقول إشارة إلي أمثال هذه الظروف:
«ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها».
لا أعذار.
حينما تقضي اللحظة أن تختار.. فأنت تختار نفسك بالفعل.
إن النية حرة.
والسريرة حرة في أضمارها لما تشاء.
أما الفعل هو حر ومقدور في ذات الوقت.
والمشكلة هي أن نحاول أن نفهم هذا الازدواج وكيف لا يلغي الواحد منه الآخر.. كيف لا يلغي القدر الحرية.. وكيف لا تلغي الحرية القدر.
وهذا أمر نستشفه من الآيات استشفافًا.. فهي تلمح ولا تصرح حتي لا تلقي بالناس في بلبلة. يقول الله في كتابه:
«إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين».
لو شاء لفعل ولكنه لم يفعل.. لأنه لم يشأ أن يقهرنا علي إيمان فتنتفي بذلك حرية الاختيار التي جعل منها جوهر وجودنا.. فقد أراد لنا أن نكون أحرارًا نؤمن أو نكفر.
ولم يجعل الله إبليس إبليسًا.
وأنما إبليس اختار لنفسه الكبرياء والجبروت والتعاظم حينما رفض أن يكون في خدمة آدم مثل بقية الملائكة وقال:
«أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين».
اختار إبليس لنفسه الغرور بغير علم ولا حق.. فاختاره الله ليغرر بالناس وقضي عليه قضاء من جنس ضميره.
وبالمثل أبصر النقاء والطهر في قلب محمد فاختاره نبيًا للهداية:
«والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا».
ولهذا السبب أيضاً.. لعدم القهر والجبر.. أخفي الله نفسه في الإنجيل وأخفي نفسه في القرآن لأنه لم يرد أن يلجمنا بالتجلي القاطع الفاصل فيقهرنا علي الإيمان قهرًا.. فجعل من التوراة والإنجيل والقرآن كتبا يمكن أن نؤمن بها ويمكن أن نشك فيها.. وقال عن قرآنه:
«يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا».
وضمن آياته البراهين ولكنه لم يجعلها أبدًا براهين ملزمة تأخذ بالخناق وتقهر العقل.. وإنما تركك دائمًا لترجح شيئًا علي شيء حرصًا منه علي حريتك.. ولتقول ما تريد بدون مؤثرات كابحة.. فتفصح عن دخيلتك وسريرتك ويحق عليك القول.
لقد أرادك أن تكون من أحد الأوجه إلها صغيرًا تحاكي الله في مملكته الكبري.
وفي آية نموذجية يشرح القرآن ما بين القدر الإلهي والحرية الفردية من تلاق ويرفع ما بينهما من تناقض.. حينما يروي ما حدث من تكاسل المنافقين عن نصرة الرسول وعدم الخروج معه في غزواته:
«ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين.. لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين».
ها هنا منافقون بالقلب لا يريدون بالنية أن ينصروا نبيهم.. فيقضي عليهم الله بمثل نيتهم فلا يريد لهم كما لم يريدوا لأنفسهم ويثبطهم ويكره لهم الخروج كما كرهوه لأنفسهم.
ها هنا يبدو كيف تماثل أمر الله واختيار الإنسان وانتفي التناقض.. فلم يكن التناقض إلا في وهمنا نتيجة عدم الفهم.
وأصبح من السهل علينا أن نفهم آيتين متناقضتين مثل:
«فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر».
«وما تشاءون إلا أن يشاء الله».
ففي الآية الأولي يصف الله إرادة الإنسان الحرة.
وفي الآية الثانية يتكلم عن إرادته الإلهية وهي القدر.
وما بين الاثنين من تناقض هو تناقض في الظاهر فقط.. فقد فهمنا أن الله يريد للإنسان ما يريد الإنسان لنفسه «إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم».. وهو يقدم للإنسان من التيسيرات ما يماثل ضميره وقلبه وبالتقاء الاثنين.. الحرية والقدر.. ينفذ القضاء ويتم الفعل بإرادة الله ومشيئته وفي نفس الوقت باختيار الإنسان وحريته بلا تناقض «قل كل من عند الله».
ثم تأتي الآية القرآنية الحاسمة فتختم الموضوع!
«واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون».
ومعني هذا أن الله يدع القلب حرًا فتكون لكل إنسان سريرة هو حر فيها. ولكنه يقيم سلطانه بين المرء وقلبه.
فهو يحول بين المرء وقلبه بالتمكين والإحباط لطفا ورحمة ليقي أحباءه السيئات.. وليقدم التيسيرات لكل حسب ضميره ونيته ومبادراته.. إما لليسري وإما للعسري.
ثم تكون الرجعة في النهاية إليه يوم القيامة فيحاسب كل إنسان علي وفق سريرته.. فقد كان كل منا حرًا في سريرته وهو عنها مسئول.
بهذه الكلمات التي تضيء كالومض الخفي يعطي القرآن المفتاح لأعوص مشكلة في الفلسفة.. مشكلة الجبر والاختيار.
البقية فى الأسبوع القادم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.