شرايين الحياة إلى سيناء    حزب أبناء مصر يدشن الجمعية العمومية.. ويجدد الثقة للمهندس مدحت بركات    رئيس الوزراء يصل الرياض للمشاركة في المنتدى الاقتصادي العالمي نيابة عن رئيس الجمهورية    لميس الحديدي: رئيسة جامعة كولومبيا المصرية تواجه مصيرا صعبا    قطارات السكة الحديد تغطي سيناء من القنطرة إلى بئر العبد.. خريطة المحطات    إعلام إسرائيلي: معارضة بن غفير وسموتريتش قد تجهض أي صفقة لتبادل الأسرى مع حماس    مصر تواصل الجسر الجوى لإسقاط المساعدات على شمال غزة    تعليق ناري من أحمد موسى على مشاهد اعتقالات الطلاب في أمريكا    المنتخب الأولمبي يخوض وديتين فقط بمعسكر يونيو    محافظ القاهرة: استمرار حملات إزالة التعديات والإشغالات بأحياء العاصمة    "مستحملش كلام أبوه".. تفاصيل سقوط شاب من أعلى منزل بالطالبية    جريمة طفل شبرا تكشف المسكوت عنه في الدارك ويب الجزء المظلم من الإنترنت    أصالة من داخل قصر الإمارات قبل انطلاق حفلها في أبو ظبي ( صور)    رامي جمال يحتفل بتصدر أغنية «بيكلموني» التريند في 3 دول عربية    عزيز الشافعي عن «أنا غلطان»: قصتها مبنية على تجربتي الشخصية (فيديو)    جامعة كفر الشيخ تنظم احتفالية بمناسبة اليوم العالمي للمرأة    "اشتغلت مديرة أعمالي لمدة 24 ساعة".. تامر حسني يتحدث عن تجربة ابنته تاليا    أمين صندوق «الأطباء» يعلن تفاصيل جهود تطوير أندية النقابة (تفاصيل)    افتتاح المدينة الطبية بجامعة عين شمس 2025    غدا.. إعادة إجراءات محاكمة متهم في قضية "رشوة آثار إمبابة"    80 شاحنة من المساعدات الإنسانية تعبر من رفح إلى فلسطين (فيديو)    ما هي مواعيد غلق المحال والكافيهات بعد تطبيق التوقيت الصيفي؟    صور.. إعلان نتائج مهرجان سيناء أولا لجامعات القناة    سمير فرج: مصر خاضت 4 معارك لتحرير سيناء.. آخرها من عامين    حبست زوجها وقدّمت تنازلات للفن وتصدرت التريند.. ما لا تعرفة عن ميار الببلاوي    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    سمير فرج: طالب الأكاديمية العسكرية يدرس محاكاة كاملة للحرب    «الحياة اليوم» يرصد حفل «حياة كريمة» لدعم الأسر الأولى بالرعاية في الغربية    أمل السيد.. حكاية مؤسِّسة أول مبادرة نسائية لتمكين المرأة البدوية في مطروح    رمضان عبد المعز: على المسلم الانشغال بأمر الآخرة وليس بالدنيا فقط    وكيل صحة الشرقية يتابع عمل اللجان بمستشفى صدر الزقازيق لاعتمادها بالتأمين الصحي    حكم الاحتفال بعيد شم النسيم.. الدكتور أحمد كريمة يوضح (فيديو)    طاقة نارية.. خبيرة أبراج تحذر أصحاب برج الأسد من هذا القرار    أنس جابر تواصل تألقها وتتأهل لثمن نهائي بطولة مدريد للتنس    بالصور.. مجموعة لأبرز السيارات النادرة بمئوية نادى السيارات والرحلات المصري    هيئة كبار العلماء بالسعودية: لا يجوز أداء الحج دون الحصول على تصريح    عاجل.. وزير الخارجية الأميركي يتوجه إلى السعودية والأردن وإسرائيل مطلع الأسبوع    بطولة إفريقيا للكرة الطائرة| الأنابيب الكيني يفوز على مايو كاني الكاميروني    ليفربول يُعوّض فينورد الهولندي 11 مليون يورو بعد اتفاقه مع المدرب الجديد    النيابة تطلب تحريات إصابة سيدة إثر احتراق مسكنها في الإسكندرية    مصر ترفع رصيدها إلى 6 ميداليات بالبطولة الإفريقية للجودو بنهاية اليوم الثالث    إنجازات الصحة| 402 مشروع قومي بالصعيد.. و8 مشروعات بشمال سيناء    بالتعاون مع فرقة مشروع ميم.. جسور يعرض مسرحية ارتجالية بعنوان "نُص نَص"    بلينكن في الصين.. ملفات شائكة تعكر صفو العلاقات بين واشنطن وبكين    بيريرا ينفي رفع قضية ضد محمود عاشور في المحكمة الرياضية    "بيت الزكاة والصدقات" يستقبل تبرعات أردنية ب 12 شاحنة عملاقة ل "أغيثوا غزة"    النقض: إعدام شخصين والمؤبد ل4 آخرين بقضية «اللجان النوعية في المنوفية»    مصر تواصل أعمال الجسر الجوي لإسقاط المساعدات بشمال غزة    أهمية وفضل حسن الخلق في الإسلام: تعاليم وأنواع    أبو الغيط: الإبادة في غزة ألقت عبئًا ثقيلًا على أوضاع العمال هناك    ضبط عاطل يُنقب عن الآثار في الزيتون    حصيلة تجارة أثار وعُملة.. إحباط محاولة غسل 35 مليون جنيه    الدلتا للسكر تناشد المزارعين بعدم حصاد البنجر دون إخطارها    وزيرة التضامن توجه تحية لمهرجان الإسكندرية للفيلم القصير بسبب برنامج المكفوفين    خالد بيبو: لست ناظر مدرسة «غرفة ملابس الأهلي محكومة لوحدها»    عمرو صبحي يكتب: نصائح لتفادي خوف المطبات الجوية اثناء السفر    أستاذ «اقتصاديات الصحة»: مصر خالية من شلل الأطفال بفضل حملات التطعيمات المستمرة    وزير الخارجية يتوجه إلى الرياض للمشاركة في أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. مصطفي محمود يكتب : أسماء الله
نشر في صباح الخير يوم 24 - 08 - 2010


«ولله الأسماء الحسني فادعوه بها»
وهناك يوجا خاصة بالتسابيح اسمها «المانترا يوجا» من كلمة «مانترام» الهندية أي تسبيحة. ومن التسابيح السنسكريتية أن يتلو اليوجي في خشوع كلمة. رهيم.. رهام.. آلاف المرات.. وهي كلمات تقابل.. رحيم.. رحمن.. عندنا وهي من أسماء الله بالسنسكريتية.
ويضع اليوجي في عنقه مسابح طويلة من ألف حبة.
والتسبيح الحقيقي في نظر الغزالي لا يكون بمسبحة ولا يكون باللسان وإنما بالقلب.. في الخلوة والسكون والصمت. مع دق القلب تتلو الروح في صمت وبدون صوت.. أسماء الله.
«واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول»
وهي أرقي درجات التصوف ولا يستطيع بلوغها إلا من بلغ سكون النفس وصفاء الروح وامتلك القدرة علي حصر الانتباه والتركيز والانصراف إلي التأمل بجماع القلب والهمة وقويت عزيمته فقهر شهواته وشواغله الدنيوية وصعد درب السالكين إلي الله. وهو صعود أشق من الصعود إلي القمر. لأنه يقوم علي الجهاد الهائل مع النفس.
وأول خطوة للمتصوف أن يتغلب علي نفسه. فالنفس حجاب، والعقل حجاب، والعرف حجاب. وكل هذه الأشياء هي جلد الإنسان الخارجي وليست حقيقته.. ولابد من تجاوز هذه الأسوار حتي يستشرف المتصوف علي روحه في بكارتها ويضع قدمه علي عتبتها ليري ما لا عين رأت ويسمع ما لا أذن سمعت.
والتصوف إدراك عن طريق المدارك العالية.
والمتصوف عارف
ولكن هدف معرفته هو الله في كماله.. وليس طلب المعارف الجزئية كالطبيعة والكيمياء والجغرافيا والتاريخ
إنه يسعي إلي معرفة كلية بحاسة مختلفة ووسيلة مختلفة عن وسيلة المنطق وأدوات العلم الوضعي المألوفة ولهذا كانت أول عقبة أمام المتصوف هي نفسه ذاتها ومألوف عاداته. «فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة»
وفي بعض أخبار داود أنه قال.. يارب أين أجدك.. فقال له.. اترك نفسك وتعال.. غب عنها تجدني.
وفي هذا يفسر بعض المتصوفة كلام الله لموسي في القرآن:
«فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوي»
إن المقصود بالنعلين هما النفس والجسد.. هوي النفس وملذات الجسد.. فلا لقاء بالله إلا بعد أن يخلع الإنسان النعلين: نفسه وجسده بالموت أو بالزهد.
والله يصورهما كنعلين لأنهما القدمان اللتان تخوض بهما الروح في عالم المادة وعن طريقهما نزلت من سماواتها إلي الأرض.
ولهذا يبادر المتصوف بأن يخلع النعلين ليخطو أول خطوة في الوادي المقدس.
والقرآن يخبرنا أنه بعد الموت والبعث يتم الشهود فنري الله ونلقاه.
«واتقو الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين»
«وكلهم آتيه يوم القيامة فردا»
«يا أيها الإنسان إنك كادح إلي ربك كدحا فملاقيه»
«ولقد جئتمونا فرادي كما خلقناكم أول مرة»
«وجاء ربك والملك صفا صفا»
«وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما»
«ولو تري إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم»
«تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجراً كريما»
«يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم علي شيء ألا إنهم هم الكاذبون»
«هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر»
وقد أنكرت بعض الفرق الإسلامية إمكانية رؤية الله في الآخرة وفسرت هذه الآيات بأنها رموز وإشارات ومجاز لا حقيقة، وأنها تفهم علي باطنها لا علي ظاهرها.
وكانت حجتها أن العين لا تري إلا المحدود المتناهي في الزمان والمكان، والله لا محدود ولا متناه ومتعال علي الزمان والمكان وبالتالي لا يمكن لعين أن تراه، وهي حجة واهية وتصور مادي دنيوي.. فهم يتصورون أن الروح سوف تبصر بعين مادية في الآخرة وستكون لها حدقة وأجفان وستظل ملابسة للزمان والمكان المعروف في الدنيا، وهو أمر ينكره القرآن فيقول عن النشأة الأخري «وينشئكم فيما لا تعلمون» أي أنه سوف ينشئنا نشأة مختلفة تماماً عن كل ما نعلم.
ولا غرابة في أن يكون للروح بصر شامل يدرك اللامحدود.. وأن تري الله كما يراه الملائكة.
والقرآن يعرفنا بتسعة وتسعين اسماً من أسماء الله الحسني.. بعض هذه الأسماء مما يختص الله به نفسه مثل اسم «الله» وأسماء أخري مثل الكريم والحليم والرءوف والودود نطلقها علي أنفسنا فنقول عن الواحد منا إنه كريم وحليم ورءوف وودود ولكن لا يصح أن نقول إنه «الله» لأنه اسم علم علي الذات الإلهية بينما الأسماء الأخري أسماء للصفات والأفعال الإلهية والذات الإلهية سر مطلسم ليس لبشر أن يخوض فيه.. أما الصفات والأفعال فلنا أن نتأمل فيها.
والله يجيب من يدعوه بأسمائه.. «ادعوني أستجب لكم».
«وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان»
وهي حقيقة.. ولكن الوسيلة إليها ليست مجرد شقشقة اللسان بأن نقول يارب.. فكل واحد يقول يارب.. بعقل فارغ تمامًا عن مدلول الكلمة.. إنما النداء علي الله أمر جليل.. وهو صميم التصوف.. بل هو التصوف ذاته.. ولا يقدر عليه إلا أصحاب القلوب والبصائر والهمم العالية.
وليس يعني هذا أنه لابد أن تكون درويشًا لتدعو الله فيستجيب.. وإنما طهر القلب وخلوص الضمير والتوجه بجمع الهمة هو الشرط.
أما الذي يقول.. يارب ارزقني مائة جنيه.. فهو رجل يمزح مزاحًا سخيفًا.. فهذه أمور يمكن أن يسعي إليها بأسبابها الدنيوية المعروفة وليس طريقها التصوف.. وكشك سجائر علي ناصية عماد الدين يحل المشكلة.
والمتصوف متجرد.. وهو قد نفي المطلب الدنيوي من باله لأنه يريد مطلبًا أعظم.
والمتصوف لا يسأل.. وهو يمرض فلا يسأل الله الشفاء.. ويقول في أدب.. كيف أجعل لنفسي إرادة إلي جانب إرادة الله.. فأسأله ما لم يفعل.. وأنا الذي لا أعلم ما ينفعني مما يضرني.. كيف يعترض الذي لا يعلم علي الذي يعلم.. ومن يدريني أن مرضي وآلامي ليست الوسيلة إلي خلاصي. وهو من باب الأدب لا يطلب من الله إلا ما يطلبه الله منه.. فيقول كما قال النبي إبراهيم: «رب اجعلني مقيم الصلاة».
فهو يجعل من إرادة الله إرادته الخاصة ومسعاه.. حباً واحترامًا لخالقه. والحب هدف المتصوف الأسمي
ليس لي في الجنان والنار حظ
أنا لا أبتغي بحبي بديلا
وهو لا يري شيئًا إلا رأي الله فيه
والله عنده ليس في حاجة إلي عبادتنا
وهو يفسر الآية القرآنية:
«وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون».
إن معناها:
ما خلقت الجن والإنس إلا ليعرفون.
فلا يمكن أن تتم عبادة بدون معرفة ولا يمكنك أن تعبد ما لا تعرف.. إنها لا تكون عبادة. وأنت لا تكون عابدًا لله إلا إذا كنت عارفًا بالله.
ولا يمكن أن تعرف الله إلا إذا عرفت نفسك أولا ثم تجاوزتها مهاجرًا إلي خالقها.
وتتضمن الآية جميع هذه المعارف.
فالله خلق الإنسان ليعرف نفسه ثم يعرف ربه.. فيتم بذلك للإنسان جلاء البصيرة الكامل والارتقاء الحقيقي عبر صراع الجسد والروح.
إنه الارتقاء والتكامل من خلال معركة دموية بين طبيعة التراب وطبيعة الروح. «لقد خلقنا الإنسان في كبد».
خلق الله الإنسان ليكابد هذه المعركة.. ووعده بميراث السماوات والأرض إذا انتصر. والعبودية للخالق هي دائمًا منتهي الحرية أمام الخلق.
والذل للخالق منتهي الكرامة أمام الخلق.
فالعبودية لله تعني أولاً التحرر من استعباد المال واستعباد الشهوة واستعباد المنصب واستعباد الرغبة. ومن عبد الله لا يعبد الجماهير والغوغاء طلبا للمنزلة عندها. لا تكون عبدا لله إلا إذا فرغت قلبك من كل هذه العبوديات أو أسقطت من حسابك كل ما هو غير الله ليكون قلبك خالصا لخالقك.
ثم إنك لا تصل إلي أعلي مرحلة من العبادة إلا إذا استطعت أن تفني عن نفسك وتفني عن رغباتك.. فيصبح ما تريده لنفسك هو ما يريده الله لك .. كادت إرادتك أن تكون إرادة الله المطلقة.. وهي ذروة الحرية والخلوص من كل العبوديات.
والمتصوف إنسان مفكر متأمل شفيف الحس نافذ البصر.
يقول لك المتصوف:
الصاحب الذي يدوم لك هو الذي يصحبك وهو عالم بعيبك وليس ذلك إلا إلهك وخالقك العالم بخفاياك المطلع علي سرك وعلانيتك.. إن عصيته سترك .. وإن اعتذرت إليه قبل عذرك. ويقول لك :
إذا قل ما تفرح به قل ما تحزن عليه.
إن أردت ألا تعزل فلا تتول ولاية لا تدوم.
إذا ادعيت لنفسك التواضع فأنت المتكبر حقًا.
إن كنت لا تعرف الله إلا في النعمة فأنت لا تعبده وإنما تعبد نفسك.
خلق لك الله الدنيا لتكون في خدمتك فتحولت أنت إلي خدمتها.. أرادك ملكا وأردت لنفسك أن تكون مملوكًا.
ويقول للفقهاء:
أخذتم علمكم ميتا عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي يموت.. تقولون حدثنا فلان عن فلان عن فلان وكلهم موتي.. والواهب الحق علام الغيوب أقرب إليكم من حبل الوريد وهو معكم أينما كنتم.. ما يكون من نجوي ثلاثة إلا هو رابعهم.. فكيف تتركونه وتأخذون العلم عن سواه.
ولهذا يقول المتصوفة عن علمهم بأنه علم لدني.. من لدن الله.. لا علم نقلي من الكتب.
ويصفون أنفسهم بأنهم أهل الحضرة.. ويأخذون أنفسهم بالرياضات الروحية العنيفة والصيام والعبادة المتصلة إلي درجات إفناء الذات في الله.
وسيلتهم إلي الله أسماؤه الحسني
مستحيل معرفة ذات الله وكنهه، ومستحيل رؤيته لعين بشرية.. لأن العين البشرية لا تدرك إلا كل ما هو محدود متناه في المكان محصور بالزمان.. والله متعال علي المكان متعال علي الزمان.. ليس كمثله شيء.
وفي آيات بديعة الإيقاع يقدم لنا القرآن هذه الحقيقة الأزلية:
«عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال..»
«يجادلون في الله وهو شديد المحال».
«وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين».
«ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها»..
الكل يسجد لله.. من لا يسجد طوعا يسجد كرها.
لأن الكل يجري علي سنن الله الطبيعية التي أقامها ويخضع لقوانينه التي رسمها.
قلب المؤمن وقلب الكافر كلاهما خاضع للقوانين الفسيولوجية التي أبدعها الخالق.. كلاهما ينبض خاضعا لنفس القوانين.. وكذلك تنبض كل خلية في كل جسد.. وفي ذلك يقول القرآن:
«أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون».
الكل أسلم الأمر للقوانين الإلهية التي تجري علي سننها الحياة.
ونعرف الآن الكثير من هذه القوانين مثل:
قانون الضغط الازموزي، وقانون التوتر السطحي، وتماسك العمود المائي، والتوازن الكهربائي والأيوني في المحاليل، وقانون التفاضل الكيميائي بين هورمون وهورمون فيكون الواحد منهما حاكما علي الآخر، وقانون رفض الفراغ، وقانون الفعل ورد الفعل، والكثير غيرها مما تجري الحياة علي وفاقها ويطيعها كل مخلوق ويسلم لها طوعا وكرها.
الله وقوانينه قائم علي كل شيء من الذرة إلي الفلك.. به وبقوانينه تقوم الحياة.
فهو «قيوم» هو «الحي» الذي به الحياة.
وهكذا يقدم لنا القرآن أسماء الله وصفاته وأفعاله في تسابيح جميلة.
«هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر». «هو الله الخالق البارئ المصور» ويتكلم الله عن نفسه بضمير الجمع «ونحن أقرب إليه من حبل الوريد» وحبل الوريد هو العرق الذي يجري به الدم في الرقبة، فهو أقرب إلينا من الدم في أجسادنا.
وهذا منتهي القرب.
والمتصوفة يقولون إنه يبعد عن إدراكنا لفرط قربه، ويخفي علينا لفرط ظهوره، ويشرحون هذا بقولهم إننا عرفنا نور الشمس بغروبه... وأدركنا ألوان الأشياء من النور وليس من الأشياء.. فهي زرقاء وحمراء وخضراء لأنها تمتص أمواجا مختلفة من النور.. وبالظل عرفنا النور.. والله ليس له ضد ليعرف به، ونور الله مشرق أبدا ولا ظل له.. ولذلك نقول إن الله احتجب عنا لفرط إشراقه ودوامه.
ونحن نولد في هذه الحضرة الربانية ونحن فاقدو العقل ثم نكبر فتشغلنا الشهوة مع ظهور العقل ثم يشغلنا الجاه والرياسة والدنيا ثم ننضج فيشغلنا العقل نفسه.. وطول هذا الوقت تصبح الحضرة الربانية عرفا، وتصبح عجائب الله في السماوات والأرض وفي أنفسنا عادة.
ويقول الشاعر الصوفي:
وكيف يعرف من بالعرف قد سترا
استغراقنا في الأسباب يخفي عنا المسبب.. كمن يصله كتاب مؤلف فينشغل بالبحث في نوع الحبر ونوع الورق وبنط المطبعة، وينسي الكلام والمعاني أو ينشغل بالكلام وينسي مبدعه. ومن شأن الدوام أن يخفي عنا الحقيقة - فدوام حركة المصعد تخفي عنا حركته، لا ندرك أنه كان يتحرك إلا لحظة وقوفه.
وبالمثل دوام الله أخفي عنا حضوره وشدة قربه أبعدته عن الإدراك وفرط ظهوره أخفاه.. فهو أخفي من كل خفي لأنه أظهر من كل ظاهر.. لا يحتجب عنا إلا بحجاب وهمنا.. وهم شهواتنا الذي أسدلناه علي أعيننا.
ويقول ابن عطاء الله السكندري:
لو حجبه شيء لستره.. ولو كان له ساتر لكان لوجوده حاصر، وتعالي الله وتقدس عن أن يكون هناك من يحده ويحصره.
وبالمثل لا يري الواحد منا سواد عينيه لشدة قربه منه.
والله عند الصوفية ليس في حاجة إلي إثبات.. وإنما الدنيا هي التي تغدو محل شك وهي التي تصبح في حاجة إلي إثبات، وهم يثبتونها بالله، فهي موجودة به وهو لا يوجد بها.
والذين يطلبون الله بالبرهان هم أهل الحجاب، الذين يشهدون الكون ولا يشهدون المكون. ويقول ابن عطاء متسائلاً:
متي غاب حتي يستدل عليه؟ ومتي بعد حتي تكون أسباب الدنيا موصلة إليه؟..
وهم يطلبون القرب من الله حبا وليس خوفا من نار أو طلبا لجنة... ويقولون إنهم في هجرة دائمة إلي الله.
من الأكوان إلي المكون.. وهي غير الهجرة المعروفة علي الأرض من مكان لآخر.. وهذه عندهم أشبه بدوران حمار الرحي يبرح المكان ليعود إليه أما الهجرة الحقيقية فهي الانتقال من وطن الملك إلي وطن الملكوت ومن وطن الحس إلي وطن المعني.
والمتصوفة أهل أطوار وأحوال ولهم آراء طريفة لها عمقها ودلالتها فهم يقولون لك إن المعصية تكون أفضل أحيانا من الطاعة.. فرب معصية تؤدي إلي الرهبة من الله وإلي الذل والانكسار.. وطاعة تؤدي إلي الخيلاء والاغترار.. وهكذا يصبح العاصي أكثر قربا وأدبا مع الله من المطيع.
ومن رأي طاعته واختال بها ورأي حسناته واطمأن إليها فإن رؤيته لها دليل علي أنها ليست حسنات.. لأن الحسنات ترفع إلي الله فور حدوثها والكلمة الطيبة تصعد إلي الله فلا يراها صاحبها.. فالصالح الحقيقي لا يشعر بأفعاله الصالحة.. وإنما هو في رهبة من الله علي الدوام.. وهذا تفسيرهم للآية القرآنية.
«إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه».
وهم يقولون لك إن الشكر ليس كلمة «الحمد لله» وإنما الشكر علي العطاء ألا تعصي به من أعطاك فتتخذ من نعمته وسيلة إلي أذي نفسك وأذي الآخرين. إن الشكر فعل وليس كلمة.. والمتصوف واليوجي والراهب كلهم علي درب واحد وأصحاب منطق واحد وأسلوب واحد في الحياة هو الزهد.
وهم يرون أن الشهوة حجاب والهوي حجاب وحب الدنيا حجاب.. كذلك العلم عند عالم مغرور مختال بعلمه من أشد للحجب .. وكذلك للعبادة بالنسبة لعابد مزهو بعبادته والصلاح بالنسبة لصالح متفاخر بصلاحه حجاب.
وهكذا يكون العلم أحيانا حجابا علي المعلوم والعبادة حجابا علي المعبود والصلاح حجابا علي رؤية المصلح.
ولهذا يفسرون كلام القرآن عن النبي.
«مالهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق».
بأن الستر الآلهي ستر به سر النبوة في ثوب بشري عادي لرجل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.. حتي لا يبتذل السر بالإظهار والاشتهار... واليوجي والراهب والصوفي المسلم يطلبون القرب والوصل بنفس الأسلوب.. بالتسابيح.. فيدعون الله بأسمائه:
ومحبته القصوي التي تملأ كل ذرة من القلب فلا يعود لهم شاغل إلا ذكره.. لا يرون شيئا إلا رأوا الله فيه.
هؤلاء هم أهل السر والقرب والشهود الأولياء الصالحون حقا، وهم ندرة شحيحة.
إذا حضروا لم يعرفوا وإذا غابوا لم يفتقدوا لأنهم لا يعلنون عن أنفسهم ويخفي الواحد منهم كراماته كما يخفي عورته لأنها السر الذي بينه وبين ربه وعلامة المحبة والخصوصية والقرب.
وما بين المحب والمحبوب لا يصح إفشاؤه وابتذاله، وقانونهم الذي يعرف لا يتكلم، والذي يتكلم لا يعرف.
وهم ليسوا دراويش الأرصفة ولا شحاذي المساجد ولا المجاذيب ولا الثرثارين ولا المدعين ولا محترفي الشعوذات، وإنما هم الأصفياء الأخفياء، يقول عنهم الله في حديثه القدسي:
«أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري» .
ويقول في حديث آخر عن هذه الخصوصية: «لم تسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن» وفي حديث ثالث: «عبدي أطعني أجعلك ربانيا يدك يدي ولسانك لساني وبصرك بصري» وما أندر هؤلاء الربانيين في هذا الزمان.
مصطفي محمود
«البقية العدد القادم»


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.