رأيت ليوناردو دي كابريو لأول مرة منذ عقدين وأكثر من السنين.. في واحدة من دورات مهرجان برلين السينمائي الدولي وقد جاء بصحبة النجمة الكبيرة المخضرمة ميريل ستريب كان يظهر لأول مرة كممثل يشاركها العمل في فيلم عنوانه «حجرة رالف» وكان وجها جديداً واعداً يوحي اسمه بجذور إيطالية حتي أننا كنا نلقبه بالإيطالي الصغير. كان وسيماً رغم حداثة سنه، وكان واعداً بأنه سيكون يوماً ما نجماً له مساره علي الشاشة، وبعد هذه البداية المتألقة، وبعد مراحل نضج وعدة ادوار ثانوية، بدأ ليوناردو دي كابريو يلفت الأنظار ويحيطه اعجاب الأجيال الشابة من عشاق السينما. علي أن قفزته الكبري إلي الصف الأول ارتبطت بفيلم «الساحل».. وفي هذا الفيلم قدم شخصية غريبة.. شاب امريكي تقوده ظروفه إلي بلد اسيوي حيث يلتقي امرأة فرنسية، تقوده هي الأخري إلي جزيرة وسط بحيرة، وتصادفه علي هذه الجزيرة مغامرات مذهلة.. ثم التقطه جيمس كاميرون ليعطيه انطلاقته الكبري في فيلم «تيتانيك» وينجح نجاحاً اسطورياً، يرشحه لجائزة أوسكار أحسن ممثل لكنه لا يحصل عليها وإن حازته زميلته في الفيلم «كيت وينسلوت» لكنه يصبح علامة من علامات هوليوود البارزة، ومعشوقاً من كل البنات، ويلتقطه المخرج الكبير مارتن سكورسيزي ليقدمه في «عصابات نيويورك» ثم يعطيه دور روبرت هيوز، لغز هوليوود الأمثل في فيلم «الطيار» ولا يلبث أن يزامل راسل كرو عندما جمعهما ريدلي سكوت في فيلم «حفنة من الاكاذيب». «البداية».. أن تقع في الحب في فيلم كريستوفر نولان «البداية» يفاجئنا ليوناردو دي كابريو بشخصية غريبة لم نعتدها.. فالفيلم الذي اخرجه نولان بعد فيلمه «الفارس الأسود» ينتمي إلي نوعية من أفلام الخيال العلمي، تبدو أحداثه مصدقة مقبولة، لكنها أشبه بأساطير غير مقبولة. «البداية» أن تلتقي بغريبة جميلة في بار مجهول، وبعد كأسين تكتشف أنك وقعت في الحب، وبعد أربعة تصبح جاهزاً للزواج إذ تبدأ الغريبة الجميلة تحدثك عن ذلك الحلم المذهل الجميل الذي تعيشه ويذوي الحب، وتموت الرغبة مما يدفعك للسعي للحصول علي الطلاق.. «البداية» قدمه نولان في ساعتين ونصف وبميزانية وصلت إلي 200 مليون دولار، ويبدو كما قلت فيلماً جيداً لكنه ممل إلي حد ما. لكنك مضطر إلي أن تعترف للمخرج كريستوفر نولان بموهبته الخلاقة وطموحه، ففي الوقت الذي تتحول فيه شاشات العرض السينمائي إلي مرتع للروبوتز أو الافلام القديمة المعادة، نجد نولان يملك الجرأة لتقديم فيلم معقد الهوية، فيلم يضمن أن يترك مشاهديه مبهوري الأنفاس. دي كابريو.. لص الأحلام والعقول المشكلة هي أن «البداية» ليس تماما من الأفلام التي لا تستطيع أن تعبر لكي تراها ثانية، نوعية الأفلام التي تعتمد علي المنطق والحوار الغني بالمواقف المؤثره، كما هي الحال التي قدم بها «نولان» فيلمه الثاني «دقيقة» النوعية التي تتمخض عن سيناريو سيئ لكنه مقنع، إنه أول فيلم لم يكتبه نولان مع أخيه جوناثان. «البداية» فيلم خيال علمي تدور تفاصيله في عالم الأحلام.. دوم كوب «ليوناردو دي كابريو» يعمل في مؤسسة مشبوهة.. إنه لص للعقول، خبير في الابتزاز عبر الأحلام تخطط في خصوصية محددة وكوب يتعاون مع فريق كامل لتحقيق هذا الغرض أن يدخلوا إلي عقول ضحاياهم، وسرقة أسرارهم من عقلهم الباطن. ودوم كوب علي اية حال رجل ممزق، يعاني شعوراً بالذنب في موت زوجته مال «ماريون كوتيلارد» ومطلوب القبض عليه لقتلها ويتضاعف شعوره بالذنب عندما يفكر في طفليه اللذين سيتركهما خلفه في أمريكا مع جدهما «مايكل كين» زوجته مال تطارده باستمرار وهو يعمل في أحلام الناس الآخرين محققاً مهمته. يؤجر سايتو «سيليان مورفي» «كين واثاناب» وهو رئيس شركة عملاقة كوب لكي يدخل إلي عقل منافس في العمل لكي يزرع في عقله أنه يجب أن يصفي أعمال الأسرة التي سوف يرثها عن والده «بيت يوستليتويت» وإذا نجح كوب في مهمته فسيكافئه سايتو بأن يدبر له العودة لكي يعيش مع طفليه. أسرارنا ليست ملقاة عند القدمين يبدو لي أن المخرج كريستوفر نولان علي قناعة بأن العقل الباطن للإنسان أشبه بقلعة يمكن أن تقتحمها لكي تجد الأسرار ملقاة عند قدميك وكأنها اعمدة من ذهب.. إن اسرارنا لم تكن ابداً عارية بهذه السهولة ومخارج الأحلام التي يخلقها نولان لا يمكن أن تكون من أحلامنا العادية إن الأحلام التي يقدمها منظمة بعناية ودقة.. إنها أقرب إلي ما يوجد في عالم الحقيقة أو تلك الخبرة التي قد نجدها في «العاب الفيديو» علي أن هذا لا يعني أن الفيلم يضم دقائق مذهلة في الادراك، مثل أن نري تلك الشريحة من الهروب من المدينة تنبثق فجأة كأنها كتاب مفتوح، ومع هذا ورغم كل الرؤي المثيرة، فخطوط قصة الفيلم غير معقولة ولا تفهم من رؤية الفيلم للمرة الأولي لكنك في النهاية تستمتع بأنك تري فيلماً جيداً لأنك لا تدري ماذا يدور أمامك. قصة كوب وعائلته المفقودة وسط هذا كله.. وسط الأحلام الخادعة يحاول المخرج كريستوفر نولان أن يجذب انتباه المشاهد إلي أن يقدم فيلم حركة وإثارة كما في أي فيلم عادي وبدلاً من أن يعطينا تبادلاً لإطلاق النار أو معركة بالأيدي تتخلل أحداث الفيلم يدخرها جميعاً للحظة النهاية في الفيلم ليعطيها لنا دفعة واحدة. «البداية» في مغزاه العاطفي يحكي عن كوب وعائلته المفقودة لكن حتي هذا المغزي يبدو بعيد المنال، ويظل مثل حلم من الأحلام التي يخلقها كوب لغزو عقول ضحاياه التي لا يمكن أن يرتبط بها أو تؤثر علي شخص ما خاصة وقد سبق لنا أن رأينا ليوناردو دي كابريو في فيلم مارتن سكورسيزي «جزيرة الظلال» كرجل يفقد عائلته وتقتل زوجته نفسها بينما يعيش هو شاعراً بالذنب ويواجه المشاكل في الحياة العادية إنه هنا أيضاً وكما هي العادة قانع بما قدر له لكن اداءه للشخصية ليس خارقاً للعادة. إن دي كابريو لا يستطيع أن يعطي الفيلم التعاطف القلبي الذي يحتاجه لكنه نجم كبير يحاول أن يجعل من دوم كوب شخصية جادة لكنه بالكاد لا ينجح في إقناعها بأننا أمام شخصية يمثلها فنحن في النهاية لانري أمامنا إلا ليوناردو. إن العظيمة المبدعة الين بيج بعد ظهورها في فيلم جونو ليست في مكانها في شخصية أريادن مهندسة الديكور التي تصمم أحلام كوب فهي تبدو وكأنها مراهقة في الثانية عشرة يجب أن تذهب إلي المدرسة بدلاً من التجول في أحلام الناس الآخرين، وأدوار الفريق الذي يعمل حولهم والذي يؤديه جوزيف جوردون لافيت وتوم هاردي مجرد ادوار مرسومة. إن «البداية» أراد بشدة أن يكون قريباً من سلسلة أفلام «ماتريكس» وتحقيق ما تذهب إليه من مبدأ الحقيقة ليست كما تبدو لكنه لا يعطي إلا اقل القليل عن الحقيقة. إن «البداية» يأخذ نفسه بجدية كبيرة ولا يعطي أي شعور بالمتعة و المرح.. وإذا كنا أمام فيلم عن الأحلام فلما لا يطل علينا مشهد جنسي واحد، لاشك أن جمهور المخرج نولان سيتوق ليري هذا.. لكنني في النهاية لا أملك إلا أن أقول لهم:«أحلام لذيذة هانئة». من هو كريستوفر نولان؟ نولان مخرج بريطاني أمريكي من مواليد 1970 بلندن. درس الأدب الإنجليزي في جامعة لندن وبدأ بتصوير عدد من الأفلام القصيرة خلال فترة دراسته وعرض أحدها في مهرجان كامبردج السينمائي عام 1996. وقد دأب كريستوفر نولان علي كتابة سيناريوهات أفلامه وشاركه في كتابة بعضها اخوه جوناثان نولان. أول افلامه الطويلة «تابعة» فاز بمنحة مالية في مهرجان هونج كونج السينمائي. أما نجاحه وانطلاقه الحقيقي فقد حقققه بفيلمه الثاني «دقيقة» الذي رشح عنه عام 2002 لجائزة أفضل سيناريو أصلي في مسابقة الأوسكار لكنه لم يفز.. ولكنه فتح له الطريق للتعاون مع النجم الكبير آل باتشينو في فيلم «انسومينا» وإلي كريستوفر نولان يعود فضل إعادة تقديم سلسلة باتمان «الرجل الوطواط» في صورتها الجديدة المبتكرة بالتصوير الداكن الموحي بالأحلام مختلفة في ذلك عن كل من قدموا هذه الشخصية من قبل، وحقق ما قدم منها حتي الآن «عودة باتمان» والفارس الأسود نجاحاً ملحوظاً إلي حد أن الفيلم الثاني تجاوز في إيراداته المليار دولار ينتمي نولان في تنفيذ لقطاته السينمائية ومفردات افلامه إلي مدرسة الراحل العظيم ستانلي كوبريك، وحيال أفلامه لا يمكن أن يبعد المرء عن رائعة كوبريك «أوديسا الفضاء».