لاشك أن بداية البث التليفزيونى فى بلادنا العربية كانت حدثا مهما.. ففى يوم الحادى والعشرين من شهر يوليو عام 1960 بدأ البث التليفزيونى فى مصر. ويوم الثالث والعشرين من شهر يوليو عام 1960 جلست الجماهير المصرية أمام التليفزيون لأول مرة فى مصر لتشاهد الزعيم جمال عبد الناصر يخطب فى عيد الثورة الثامن. وقبل هذا التاريخ بشهرين وقف ما يقرب من نصف مليون مصرى وفى يد كل منهم خمسة جنيهات لحجز جهاز تليفزيون تم الإعلان عنه بسعر ستين جنيها ومقدم الحجز خمسة جنيهات والباقى على أحد عشر شهرا. امتد الطابور من أمام عمارة الشرطة فى شارع رشدى بعابدين حتى ميدان التحرير. بدأ تسليم الجهاز للحاجزين فى أول يوليو عام 1960. واستلم نصف المليون مصرى الذين حجزوا الجهاز فى القاهرة، ولم يقم أى واحد منهم بدفع القسط الشهرى حتى اليوم. وكنت واحدا ممن حجزوا الجهاز واستلمته ولم أدفع الأقساط الأحد عشر الباقية لأن أحدا لم يطالبنى بها، بل إننى لم أتسلم خطابا واحدا يطالبنى بالسداد حتى اليوم !! وتم أيضا الحجز بنفس الطريقة ونفس الأسلوب فى باقى محافظات مصر، وبرضه لم يسدد أحد باقى ثمن التليفزيون !! ولكننا جميعا الذين استلمنا الأجهزة، استمعنا لخطبة الرئيس جمال عبد الناصر مساء يوم الثالث والعشرين من نادى الضباط بالزمالك حيث غنت أم كلثوم. وسمعنا أيامها أن هناك ضريبة سوف تفرض، أو رخصة يحتاج كل حائز لجهاز التليفزيون أن يستخرجها نظير جعل معلوم ! لم تفرض الضريبة، ولم يسألنا أحد بضرورة استخراج ترخيص استخدام التليفزيون ! بل إن حائزى الراديو كانوا يستخرجون رخصة لحيازة المذياع أو الراديو، ولكن المسئولين عنها لم يعودوا يطالبون بها عند شراء راديو جديد ولم يطالبنا أحد برخصة الراديو. وهكذا اصبح التليفزيون والمذياع يقدمان خدماتهما دون ترخيص أو ضريبة! بل إن التليفزيون المصرى قام فى ذلك الزمان بإنشاء شركة لتجميع أجزاء التليفزيون والراديو فى بنها باسم شركة بنها للإلكترونيات، وأنتجت هذه الشركة تليفزيونا كان من أفضل التليفزيونات التى استخدمها المصريون وهو تليفزيون « نصر» وتليفزيون « تليمصر » وكان هذا الجهاز من أرخص الأجهزة. وبدأت أيضا صناعة الاريال الهوائى للتليفزيون والإريال الذى يثبت فوق جهاز التليفزيون لضبطه. وبدأت تدخل حياة المصريين مهنة جديدة، وهى صيانة التليفزيون وسبقتها مهنة صيانة الراديو. وبدأ الإقبال على دخول مهن اللاسلكى التابع لوزارة التربية والتعليم لتخريج فنيين للعمل فى الإذاعة والتليفزيون ووزارة المواصلات فى ذلك الزمان التى كان يتبعها التليفون والتلغراف، والتى تتجمع اليوم فى وزارة الاتصالات. وشهدت الصحافة المقروءة نشاطا صحفيا يتابع البرامج التليفزيونية والسهرات والتمثيليات. وكما حدث من قبل عند بدء الإرسال الإذاعى عام 1934 من تزاوج الصحفيين بالإذاعيين، حدث نفس الشىء بعد بدء الإرسال أو البث التليفزيونى ! هرع عدد من الصحفيين إلى التليفزيون لإعداد بعض البرامج التى تذاع أسبوعيا البيانو الأبيض، جريمة الأسبوع، وراء الأحداث، السينما، المسرح.. وهكذا نجمك المفضل، تحقيقات وراء الخبر والتى تستضيف المشاهير فى حوارات، أو القيام بتحقيقات صحفية مصورة. وكان من ابرز الصحفيين الذين قاموا بهذه المغامرة الزميلان العزيزان مفيد فوزى ورءوف توفيق. كان مفيد فوزى يهتم بتقديم برامج المشاهير قبل البرنامج الشهير صاحب البصمة المميزة فى التليفزيون المصرى « نجمك المفضل » إعداد مفيد فوزى وتقديم ليلى رستم. هذا البرنامج ظل يستضيف النجوم لسنوات عديدة، وأصبح النجوم يسعون للظهور فيه للإعداد المتميز الذى يجمع معلوماته ويضع أسئلته مفيد فوزى وتقوم بتقديمه نجمة التليفزيون المصرى فى الستينيات وحتى اليوم زميلتى فى الجامعة وفى العمل السيدة ليلى رستم. ومازلنا نلتقى حتى اليوم فى مناسبات جامعية وأخرى عائلية. كان مفيد فوزى يجتمع بالأستاذة ليلى رستم ليرسما الخطوط العريضة للضيف، وأى الزوايا سوف يتحاوران فيها معه، وينطلق مفيد فوزى يجمع المعلومات بدأب شديد من أرشيفات الصحف والمجلات، ولكنه اخترع وسيلة مهمة لم يطرقها أحد قبله ولا بعده، وهى جمع المعلومات الشفهية عن الضيف، وذلك من خلال لقاء أصدقائه، ومعارفه وجيرانه، والذهاب إلى مدرسته وسؤال المدرسين والمدرسات، والاطلاع على ملفه إذا كان موظفا فى شركة ولقاء والدته ووالده إن أمكن وهكذا. زميلى العزيز مفيد فوزى كان ومازال أبرع من قام بالإعداد فى التليفزيونين المصرى والعربى، ولهذا يظل مفيد فوزى مطلوبا فى القنوات التليفزيونية المصرية والعربية، ولو عرف طريقه الخواجات لاختطفوه، فهو الدءوب فى جمع المعلومات، وهضمها وإعادة إخراجها صوتا وصورة على شاشة التليفزيون. وإذا صادف وكانت المذيعة هى الصحيفة اللامعة خريجة الجامعة الأمريكية والتى تجيد الفرنسية والإنجليزية، وصاحبة الخبرة الإذاعية والتدريب المتميز خلال الدراسة فى مصر وأمريكا. لهذا عندما تحصل المذيعة ليلى رستم على المعلومات الكثيرة والدقيقة التى جمعها مفيد فوزى تقوم هى بقراءتها بعناية ودقة، وتتحاور مع مفيد حول كل معلومة حت تفهم وتعى وتدرك أهمية المعلومة فى رسم شخصية الضيف أو الضيفة من خلال طرح الأسئلة. كان مفيد فوزى وليلى رستم نموذجا مهما لإعداد وتقديم برنامج تليفزيونى استمر أربع سنوات وهو يتصاعد فى جمع الجماهير حوله، فقد حصل البرنامج على العنصرين المهمين فى نجاح البرنامج : المصدر الذى يجمع معلومات دقيقة ويتحقق منها سواء كانت أرشيفية أو شفاهية، ومذيعة مخلصة لعملها ومدركة لمسئولية الظهور أمام المشاهد، فلابد أن تتسلح بالوعى والإدارك والفهم والمعلومات لتنطلق فى حوار جذاب مع الضيف دون أن يلحظ أحد أن هناك معدا قام بالجهد الأكبر فى جمع المعلومات. كانت ليلى رستم تظهر وكأنها هى التى جمعت وعرفت كل شىء عن الضيف لم تكن مجرد ببغان يلقى بأسئلة حفظها أو نقلها من السيناريو، ولكن إنسانا متمكنا على نفس مستوى الضيف من الفهم والوعى والإدراك فى مناقشة الضيف والقضايا المطروحة سواء كان فنانا مرموقا أو وزيرا صاحب إنجازات، أو أديبا ومفكرا وصاحب رأى.. كانت المذيعة ليلى رستم على نفس مستوى الضيف الذى تحاوره. وقد اعتذرت ليلى رستم عن العديد من الدعوات للعودة للعمل فى مصر وخارج مصر، ولكنها اعتذرت بلباقة وهى تقول بمنتهى البساطة.. كل وقت وله أذان.. والمناخ اختلف والجمهور اختلف.. إننى الآن أشاهد وأنتقد مع الأصدقاء والمعارف، ولكن لا أجاهر فما أشاهده لا يرضينى حتى وإن كان من إعداد الصديق العزيز مفيد فوزى! أما زميلى العزيز رءوف توفيق فقد برع فى تقديم تحقيقات صحفية رائعة قدمتها مذيعتان من أهم مذيعات ذلك الجيل الرائد فى التليفزيون هما سلوى حجازى وأمانى ناشد. لم يستمر زميلى رءوف توفيق كثيرا فى الإعداد التليفزيونى لأنه انصرف إلى الاهتمام بالسينما وكتابة المسلسلات التليفزيونية.. ولا أحد ينسى لرءوف توفيق فيلم « زوجة رجل مهم » لأحمد زكى العبقرى والمتميزة فى الأداء والفنانة القديرة ميرفت أمين. كذلك لا أحد ينسى للزميل رءوف توفيق مسلسل « الآنسة » الذى رصد فيه معاناة الفتاة المصرية العامة لعمر خورشيد وسناء جميل. ولكن أكثر ما ميز زميلنا رءوف توفيق أنه تابع الأعمال التليفزيونية وتعرض لها بالنقد الموضوعى الذى كثيرا ما جعله يتعرض لحوارات كثيرة مع الوزير الذى أنشأ التليفزيون الدكتور محمد عبد القادر حاتم. وإذا تركنا الجانب الفنى والبرامجى الذى صنع التليفزيون المصرى فى الستينيات إلى الجانب الرسمى، فإن الدكتور محمد عبد القادر حاتم يعتبر المؤسس لتليفزيون جمهورية مصر العربية، بل لا أغالى إذا قلت إن الدكتور محمد عبد القادر حاتم والمهندس صلاح عامر هما المؤسسان لجميع التليفزيونيات العربية فيما عدا التليفزيون المغربى الذى يقال إنه بدأ البث التليفزيونى قبل التليفزيون فى مصر بسنوات. والدكتور حاتم له جمعية شهيرة وهى أن التليفزيون فى مصر ولد عملاقا، وبالطبع كانت لديه المبررات لهذه المقولة! فإنشاء مبنى التليفزيون على كورنيش النيل فى ماسبيرو تم افتتاحه فى الموعد الذى وعد به الدكتور حاتم الرئيس جمال عبد الناصر رغم اعتراض الكثيرين على الموعد. ولعل ما ميز عهد الدكتور محمد عبد القادر حاتم أنه أرسل البعثات إلى الخارج فذهب من ذهب إلى أمريكا وذهب آخرون إلى إيطاليا وفرنساوإنجلترا وموسكو. انطلقت البعثات فى شتى المجالات، هذا بالإضافة إلى الاستعانة بأصحاب الخبرات من الدارسين للمجالات القريبة من مجال التليفزيون قبل إبراهيم الشقنقيرى الذى درس السينما فى أمريكا، ومحمود مرسى الذى درس فى فرنساوإنجلترا ثم إيطاليا، وكمال عيد الذى درس فى إحدى بلدان أوروبا، واستعان بأصحاب الخبرات من السينما المصرية مثل كمال أبو العلا وآخرين. لاشك أن الدكتور محمد عبد القادر حاتم كان قادرا على ضم جميع العناصر الموهوبة التى حملت مسئولية إنجاز البث التليفزيونى فى موعده. كما يحسب للدكتور حاتم أنه أنشأ مسرح التليفزيون الذى أفرز الكثير من النجوم الذين أضافوا إلى الشاشة التليفزيونية ثم انتقلوا إلى السينما وأيضا أثروا المسرح المصرى. كانت تلك التجربة الرائدة بقيادة السيد بدير والفنان حمدى غيث. كما عهد إلى محمود السباع الدراس بإنجلترا مهمة قسم التمثيليات وكان نائب نور الدمرداش الذى تولى قيادة الإنتاج فى التمثيليات والمسلسلات فى التليفزيون، وحصل على لقب ملك الفيديو. وحقق نور الدمرداش ومن معه من المخرجين النجاح الباهر للتليفزيون المصرى الذى كان بغير منافس فى تلك الأيام. وكما أنشأ الدكتور حاتم والمهندس صلاح عامر التليفزيون المصرى أسهما فى إنشاء التليفزيونات العربية.. فى الكويت، والأردن والعراق، والإمارات وسوريا، ثم انتقلت العدوى إلى لبنان الذى تعاون مع فرنسا. وانتشرت المحطات التليفزيونية فى العالم العربى، ونشأت مع هذا الانتشار العديد من الشركات الإنتاجية التى تتنافس على إنتاج المسلسلات والبرامج العربية، حيث إن الاستثمار فى مسلسلات التليفزيون كان يعود بالأرباح الطائلة ويقال إن الجنيه الواحد كان يعود بثلاثة جنيهات أرباحا ! وفى منتصف السبعينيات جاء التليفزيون الملون، وتطورت أجهزة التليفزيون، وبعد أن كان الممثل إذا أخطأ يضطرون للإعادة من أول وجديد، أصبح يمكن الخطأ، ثم الاستمرار فى التصوير بعد تصويب الخطأ دون إعادة. تكنولوجيا التليفزيون تطورت، والأجهزة فى مصر بعد النكسة ظلت كما هى، وبدأ السباق مع المحطات التليفزيونية العربية الناشئة والتى لديها الأجهزة الحديثة، ولكن ليس لديها البشر.. تستطيع استديوهات الكويت وتونس والأردن والعراق، والإمارات تجهيز أجهزتها بأحدث التقنيات التليفزيونية ومصر غير قادرة على شراء المعدات لأن لديها نكسة تريد عبورها، ولديها شعب يتزايد، وقضية فلسطينية لا أحد يتصدى لها غير مصر. وبينما مصر مشغولة بالاستعداد لخوض معركة القضية الفلسطينية واستعادة الأرض التى احتلتها إسرائيل فى سيناء والضفة الغربية وغزة والقدس، كانت المحطات التليفزيونية تنتشر حتى فى الإمارات التى لا يوجد فيها شىء غير شيخ الإمارة مثل عجمان . فقد أنشأ أحد المستثمرين السعوديين استديو فى عجمان على أحدث طراز. وأصبح تأليف المسلسلات يتم فى مصر، والفنيون من مصر وأيضا الممثلون، ووجد المستثمرون أن استضافة فريق العمل المصرى فى استديو يكلف أقل بكثير من إنتاجه فى مصر. ومنذ عام 1975 بدأ الاستعداد للسفر فى اتجاهات متعددة حيث توجد الاستديوهات المجهزة بأحدث التقنيات التليفزيونية المتطورة والملونة.. فى عجمان وفى الكويت، وفى البحرين، وفى أبو ظبى وفى دبى وفى قطر وفى سلطنة عمان ثم فى تونس وعبر المتوسط فى اليونان، وفى إنجلترا وأحيانا فى قبرص. كان الممثل المصرى الذى يصور فى السينما أو يلعب فى مسرحية يسافر إلى اليونان فى الصباح ليصور بعض المشاهد فى مسلسل ويعود فى المساء ليقف على خشبة المسرح أو تصوير مشاهد فى استديوهات مصر. كان التأليف والإخراج والتمثيل مصريا والتمويل سعوديا أو كويتيا أو إماراتيا، والتصوير يتم فى استديوهات عجمان ودبى، والأردن، واليونان وإنجلترا . أما التليفزيون المصرى فقد كان مشغولا بالمعركة ولا صوت يعلو على صوت المعركة، وحرب الاستنزاف، ثم الاستعداد لحرب أكتوبر التى خاضتها مصر وخزينتها خاوية. وبعد أن حصلنا على النصر بدأ الرئيس السادات يحاول الاهتمام بالجبهة الداخلية، وأعلن عصر الانفتاح، وقبول الفكر الرأسمالى بدلا من الفكر الاشتراكى، وبدأ الاهتمام بالتليفزيون يأخذ الشكل الظاهرى وليس المضمونى. ولكن اهتمام السادات بالتليفزيون لم يكن بإعادة تأسيس البنية التحتية وإحلال أجهزة حديثة محل الأجهزة القديمة، كان اهتمام الرئيس السادات بإبراز إنجازات مرحلته وما يريد تحقيقه فى عهده خاصة أنه اتجه نحو الغرب وبدأ يفك الارتباط مع الاتحاد السوفييتى والدول الاشتراكية. بدأ السادات رحلة الرأسمالية واقتصاد السوق والانفتاح على أوروبا وأمريكا والابتعاد عن الاتحاد السوفييتى والكتلة الشرقية. شاهدنا الرئيس السادات وهو يقوم بحركة 15 مايو التى استطاع من خلالها القضاء على خصومه فى الثورة وزج بهم فى السجون، وجاء بالدكتور حاتم مرة أخرى ليتولى وزارة الإعلام قبل حرب أكتوبر الذى قام بتنمية قيادات مهمة فى التليفزيون فى مقدمتها سعد لبيب مدير البرامج، وصلاح زكى وجلال معوض وإبراهيم عبد الجليل وغيرهم ومنهم من سافر إلى العراق ومنهم من بقى فى مصر. ثم أعلن الرئيس السادات عن المنابر، وبعد ذلك الأحزاب وبدأ الطريق نحو المراحل التعددية يأخذ طريقه وتولى أمر التليفزيون فى تلك المرحلة الدكتور جمال العطيفى، ثم الأستاذ عبد المنعم الصاوى. وإلى هنا أتوقف لأستكمل مسيرة التليفزيون فى خمسين سنة فى الأعداد القادمة.