واحد من أشهر القادة العسكريين في تاريخ مصر، فهو الشهيد الذي كان الفداء عنوانه وكانت التضحية أهم خصاله.. وهو الفارس الذي استشهد واقفاً بين جنوده ليضرب لهم أروع أمثلة التضحية والفداء والذود عن الوطن. تأملته مليًا.. رجلاً ممشوق القوام.. يرتدي زيه العسكري، علي عينيه نظارته الشمسية وفي يده عصاه.. لم يكن يدري من رسم له هذه الصورة أن صاحبها سيدخل إلي التاريخ ولم لا؟!... كل هذه أفكار راودتني بينما كنت أتأمل صورة مرسومة للشهيد الفريق أول عبدالمنعم رياض. قصة استشهاد البطل لقد استشهد البطل واقفاً بين جنوده في المواقع الأمامية، مع أنه كان يدرك جيداً خطورة هذه المواقع المهددة دائماً من العدو، لكنه كان دائماً يقول: إن مكان الجنرالات الصحيح وسط جنودهم وأقرب إلي المقدمة منه إلي المؤخرة.. هكذا بدأ معي شاهد عيان علي قصة استشهاد البطل والذي كان التقائي به أشبه بالحلم، وبمثابة هدية القدر التي منحت موضوعي عمقاً لأنه كان أحد جنود المعدية رقم 6، والتي استشهد عندها الشهيد عبدالمنعم رياض فيقول بطلنا: لقد كان حظي أن أكون وقتها في الجبهة. وبالذات عند موقع عبدالمنعم رياض عند المعدية رقم 6 علي خط النار مع الرجال والرفاق، وقتها كنت أجلس أمام فوهة أحد الخنادق وبجواري راديو ترانزستور يذيع موسيقي خفيفة، ولم أكن أنصت إليها، فهي بصفة عامة تشيع إحساساً بالراحة. وعلي مرمي عيني يبدو شريط القناة حزينا، وكأنه ينادينا لعبوره، وكنا قد خرجنا للتو من معركة حدثت يوم 8 مارس كبدنا فيها العدو خسائر كبيرة، وتوقعنا أيضاً منهم محاولة للانتقام، وبعد أن عقد قائد التشكيل في اليوم التالي اجتماعاً مع مساعديه، استقل سيارته الجيب ليطوف علي الوحدات، أما رئيس أركان التشكيل فبقي في مكتبه يمارس مهام عمله، وبمجرد أن دقت الساعة الثانية دخل عليه المكتب الفريق عبدالمنعم رياض في زيه الميداني وحاملاً عصاه، فانتفض رئيس الأركان مؤدياً التحية العسكرية، فبادله الفريق التحية ثم سأله عن قائد التشكيلات وعندما علم بأنه يمر علي الوحدات، طلب أن يمر علي الوحدات ليقابل الرجال الذين حاربوا بالأمس، وعندما عرض عليه رئيس أركان التشكيل أن يذهب معه، رفض وطلب منه أن يُصاحبه أي ضابط، وبالفعل ذهب الفريق في سيارة جيب يقودها رقيب أول وجلس معه أيضاً في السيارة رئيس أركان الجيش الثاني، وقائد مدفعيته، وفي سيارة أخري كان النقيب المرافق للفريق عبدالمنعم، وبعد أن سلكت السيارتان طريقهما إلي الكتيبة عند المعدية 6 وما حولها، قابله قائد الكتيبة ورئيس عملياتها، وهنا تنهد بطلنا وأكمل حديثه: أصر الفريق- رحمه الله- علي زيارة هذه الكتيبة الواقعة علي شط القناة مباشرة، وحاول قائد الجيش أن يجعله يزور موقعًا خلفيًا لكنه قال له: إن مكان القائد بين جنوده في الميدان، ولهذا سيذهب حتي ولو قطع الطريق إلي المقاتلين زاحفًا، وأخذ ينتقل علي الفور إلي مواقع المقاتلين، وكما فعل في قيادة التشكيل، فعل الأمر نفسه في الكتيبة، فطلب من قائدها أن يبقي في غرفة العمليات تحسباً لأي أمر طارئ، واصطحب معه رائداً من الكتيبة وطلب منه زيارة الموقع الأمامي ليلتقي جنوده ويناقش قادته وبعد أن مكث معهم، عرض عليه الرائد: هل تحب أن تري بقية جنودنا في حفر مواقعنا؟! فرد عليه بابتسامة مشرقة: نعم ثم اتجه إلي الموقع رقم 6 وصافح الجنود واحداً واحداً، وأخذ يتحدث معهم بحنان الأب وحزم القائد وكان هذا الموقع يبعد عن مياه القناة سبعة كيلو مترات فقط وبين العدو علي الشط الشرقي نحو مائة وخمسين متراً. وهنا ذكر لي حادثة طريفة حدثت أثناء زيارة الفريق رياض للجبهة، فقد قابل أحد الجنود ويدعي سيد وبعد أن صافحه قال له: أنتم بخلاء ولا إيه.. ماتعملوا شاي ولا معندكوش؟! وبشهادة جميع زملائي في هذا الوقت: لقد ملأنا الفريق رحمه الله بالإرادة والعزم، ولو كان أحدنا يشعر بالتعب قبل الزيارة فقد تلاشي التعب نهائياً بعد زيارته. وفجأة فتح العدو نيرانه وتجددت المعركة والتفت الفريق عبدالمنعم رياض إلي الرائد الذي كان يصاحبه وقال له: روح أنت وحارب في كتيبتك، بينما قفز هو في حفرة حدثت نتيجة قذيفة منذ فترة، وقفز قائد مدفعية الجيش إلي حفرة مجاورة، وخلال ذلك سقطت دانة غادرة أصابت الفريق رياض ورئيس الأركان اللواء سعدي نجيب، ورغم الإصابة الصعبة إلا أنه لم يناد علي أحد، وكتم آلامه في صدره من دون أن يشرك فيها أحدًا، حتي لا ينشغل به الرجال عن معركتهم وهكذا استشهد البطل عبدالمنعم رياض وانخلعت عليه قلوبنا جميعًا، وكان آخر مشهد هو استشهاده في شموخ وإباء .. تقلصات ألم صامت تشد تقاطيع وجهه وخيط رفيع من الدم ينساب من شفتيه وتسقط قطرة علي زيه العسكري الميداني المرصع بأعلي درجات الأوسمة والنياشين. نشأة طيبة لقد شب الشهيد محمد عبدالمنعم محمد رياض في أسرة، والده القائمقام (العقيد حالياً) محمد رياض عبدالله- قائد بلوكات الطلبة بالكلية الحربية والذي تخرج علي يديه الكثيرون من قادة المؤسسة العسكرية، وقد نزحت أسرته من طنطا وبالتحديد من قرية سيرياي مسقط رأسه إلي الفيوم، وقد درس في كتاب القرية وتدرج في التعليم، ثم ذهب مع أسرته إلي القاهرة وحصل علي الثانوية من مدرسة الخديوي إسماعيل ثم التحق بكلية الطب بناء علي رغبة أسرته لكنه بعد عامين من الدراسة فضل الالتحاق بالكلية الحربية التي كان متعلقاً بها، وكان دائماً ترتيبه الأول، وأتم دراسته كمعلم مدفعية مضادة للطائرات بامتياز في إنجلترا، وانتسب لكلية العلوم لدراسة الرياضة البحتة، وانتسب وهو برتبة فريق إلي كلية التجارة لإيمانه بأن الاستراتيجية هي الاقتصاد. حياته العسكرية في عام 1491 عين بعد تخرجه في سلاح المدفعية، وألحق بإحدي البطاريات في المنطقة الغربية حيث اشترك في الحرب العالمية الثانية ضد ألمانيا وإيطاليا، وخلال عامي 7491- 8491 عمل في إدارة العمليات والخطط في القاهرة، وكان همزة الوصل والتنسيق بينها وبين قيادة الميدان في فلسطين، ومنح وسام الجدارة الذهبي لقدراته العسكرية التي ظهرت آنذاك، وفي عام 1591 تولي قيادة مدرسة المدفعية المضادة للطائرات وكان وقتها برتبة مقدم عام 3691 واشترك وهو برتبة لواء في دورة خاصة بالصواريخ بمدرسة المدفعية المضادة للطائرات حصل في نهايتها علي تقدير الامتياز، وحينما اندلعت حرب 76 عين الفريق عبدالمنعم رياض قائداً عاماً للجبهة الأردنية، وفي 11 يونيو 7691 اختير رئيساً لأركان حرب القوات المسلحة، فبدأ مع وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة الفريق أول محمد فوزي إعادة بنائها وتنظيمها، وفي عام 8691 عين أميناً عامًا مساعدًا لجامعة الدول العربية. إن كل ما يُكتب عن الفريق أول رياض مثل يحتذي به وقدوة في جميع النواحي ثقافة وذكاء وانضباطاً وقوة شخصية وصرامة في الحق وسعة في الأفق، وإنكاراً للذات، وقدرة علي حل المشاكل الميدانية، والتعبير عن آرائه بوضوح ومعرفة عميقة بأسس الفن التعبوي والاستراتيجي.. كانت هذه الأوصاف في الفقرة السابقة جزءا من تقرير كتب في حق الشهيد، وجدته بينما كنت أبحث في ذكريات كل من اتصل بشكل أو بآخر بالفريق عبدالمنعم رياض، وهذا التقرير وجدته في كتاب "في قلب المعركة" الذي ألفه اللواء عبدالمنعم خليل، والذي قام بإهدائي إياه عندما طلبت منه أن يحكي لي عن الشهيد رياض وعرفت منه أن الشهيد عبدالمنعم رياض حصل أيضاً علي العديد من الأنواط والأوسمة ومنها ميدالية الخدمة الطويلة والقدوة الحسنة ووسام الجدارة الذهبي ووسام الأرز الوطني بدرجة ضابط كبير من لبنان ووسام نجمة الشرف. أقوال وأفعال أثناء سماعي لرواية استشهاده، وفي كل موقف إنساني كان يُحكي عنه تتردد في عقلي كلمات كان يقولها.. كلمات مازال صداها موجوداً ومن هذه الكلمات التي ذاعت عن شهيدنا الفريق عبدالمنعم رياض: إذا حاربنا حرب القادة في المكاتب، فالهزيمة محققة، فالمكان الصحيح لأي قائد هو بين جنوده، وأقرب إلي المقدمة منه إلي المؤخرة، ولم تكن هذه الكلمات مجرد قول إنما فعل أيضاً، وهذا يتضح لنا في قصة استشهاده التي فضل فيها الوجود بين جنوده ليشد أزرهم. وكان يقول أيضاً: "لا خلاص من أي حالة سيئة إلا بالعلم والكفاح" وهذا يرسم لنا صورة عن استراتيجيته التي قام من خلالها بإعادة بناء الجيش. وختم اللواء عبدالمنعم خليل مذكراته بفقرة تلخص كل أمجاد الفريق أول عبدالمنعم رياض "أنه واحد ممن قادوا المسيرة نحو نصر رمضان المجيد، وإذا شاءت إرادة الله سبحانه وتعالي ألا يشهد فرحتها، فكأنما كانت روحه الطاهرة ترقب بطولة جنوده وهم يعتلون الحوائط الترابية الشاهقة ويقتحمون مياه القناة، ويجتاحون حصون خط بارليف المنيعة علي نحو ما أعدهم لتلك المهمة المقدسة، وتعاهد معهم علي أدائها حتي النصر أو الشهادة التي فاز بها قبلهم بنيف وأربعة أعوام". فسلام إلي روح شهيدنا الفريق.. وسلامٌ إلي كل قطرة دم نزفت من صاحبها في سبيل تحرير الأرض، وأيضاً إلي كل من استشهد فداء علم أو هدف له قيمة.. فهم حقاً موتي ببطن الأرض، لكنهم في قلوبنا وعند ربهم سيظلون أحياء.