في الوقت الذي يحتفل فيه المجلس القومي للمرأة بمرور عشر سنوات علي إنشائه من أجل النهوض بأوضاع المرأة، يصدم الكثيرون من موقف قضاة مجلس الدولة بالتراجع عن تعيين المرأة في سلك القضاء بالمجلس لأنهم (نخبة) يفترض فيهم تنوير خطوات المجتمع نحو خطي تقدمية في تحقيق مبادئ المواطنة والمساواة والعدالة. فإذا بهذه النخبة تتراجع عما تعلنه من موقفها من هذه المبادئ التي لا يفترض أن تكون قابلة للمساومة. مما دفعنا إلي الغوص مع بعض هذه النخب للبحث عن أسباب هذه المواقف التي تبدو للمتابعين لها من الخارج (متناقضة)، لنكتشف معهم ما هو جدير بالتأمل والدراسة معا. في البداية يعترف د.محمود الشريف - مدير مركز الدراسات الوطنية ومقرر لجنة المشاركة السياسية بالمجلس القومي للمرأة - بأن بعض النخب يظهرون عكس ما يؤمنون به، فأمام الميكروفونات وفي المؤتمرات مع قضية المرأة، وفي الجلسات الخاصة والغرف المغلقة ضدها، فحدث في عام 2005 قبيل الانتخابات البرلمانية أن التقي أعضاء المجلس القومي للمرأة مع ممثلين علي أعلي مستوي من الأحزاب المصرية، ووعد ممثلو الأحزاب بترشيح عدد أكبر من النساء علي قوائم الأحزاب، لكنهم لم يفعلوا هذا خلال الانتخابات، لكن هذا لايمنعنا أن نفعل نفس الأمر معهم هذا العام أيضا قبل الانتخابات. ومع هذا يري الشريف أن هذه المواقف عادية، لأن المجتمع بمرحلة تغيير عميقة لصالح المرأة علي أكثر من صعيد، ومن الطبيعي أن تنشأ بعض المقاومة من داخل هذا المكان أو ذاك، لكن هذا ليس معناه أن ننزعج أو نستسلم، فمن الطبيعي أن ينزعج الرجال عندما يضيع من بين أيديهم مقعد أو وظيفة احتكروها تاريخيا مثل رئاسة الجامعة مثلا، وبالمثل مجلس الدولة الذي لم تدخله المرأة من قبل، وهذا قدر أي تغيير، وكل ما يحدث هو نوع من المساومات ليس أكثر، من أجل تأخير دخول المتقدمات. ومن واقع عمله يصف المستشار محمود غنيم مقرر اللجنة التشريعية بالمجلس القومي للمرأة - بعض النخب بأنهم يمشوا وراء الموضة وييجوا ساعة الجد يلبسوا الطربوش فأمام الميكروفونات شيء وإذا نزلوا عنها شيء آخر، فإذا كان أبناء الواحد منهم من الذكور تكون لديه فلسفة وإن كان أبناؤه من الإناث تكون لديه فلسفة أخري. ويتابع غنيم: دائما أقول لمن يقفون ضد مشاركة المرأة ويقولون بأن بيتها وأولادها أولي بها اللي يحب ولاده يخللي مراته قوية. ويتوقف غنيم متأملا بعض أسباب عدم تغير مواقف المجتمع عموما والنخبة خصوصا تجاه قضايا المرأة رغم الجهود التي تبذل في هذا الاتجاه، ليضع يده علي وسائل الإعلام التي تتناول قضايا المرأة بطريقة غير مدروسة، مما أدي إلي تنفير الناس من إتاحة المزيد من الفرص للنساء في العمل والمشاركة، خاصة أن المدافعين عن القضية وجوه مكررة، ويقولون نفس الكلام الذي يجعل المجتمع يشعر وكأن الدولة تعمل فقط من أجل المرأة، وهذا ليس حقيقيا، فعندما سعينا لإعطاء أبناء الأم المصرية جنسية أمهم كان من أجل الأبناء وليس من أجل الأم، لكن الإعلام ركز علي أنها حق من حقوق المرأة، بالإضافة إلي أن الإعلام يتضمن أيضا رسائل متناقضة تجاه قضايا المرأة، فيجعلها مجرد موضوع للجنس غالبا، ويدافع عن قضاياها أحيانا بطريقة غير مدروسة، ويطرح أحيانا الحلول قبل أن يناقش المشكلة مع المجتمع ويعطيه الفرصة لاقتراح الحل أو المشاركة في صياغته، مما خلق قوي معادية لقضايا المرأة. انتهازية المثقفين يصنف د.نبيل عبدالفتاح - الباحث في مركز الدراسات السياسية في الأهرام ومدير مركز تاريخ الأهرام - الحجج التي يسوقها الرافضون لعمل المرأة أو مشاركتها عموما في أي مجال وليس قضاء مجلس الدولة فقط إلي نوعين من الحجج. الأولي تقليدية جدا تستند إلي تعبير ذائع وهو أن المرأة (تلد وتحيض) للحيلولة دون أن تدخل المرأة وظائف احتكرها الرجال تاريخيا، مستخدمين بعض الآراء الفقهية الوضعية (البشرية) التي تتداخل مع بعض الآراء الاجتماعية المحافظة والمتشددة ضد مشاركة المرأة دون أساس ديني أو علمي، وهي آراء لاتصلح لإبدائها الآن وتعكس نموا للاتجاهات السلفية في العلاقة بين الرجل والمرأة وبين المسلمين وغير المسلمين، والتي تمددت داخل الدرس الأكاديمي في كليات الحقوق بالجامعات المصرية. والنوع الثاني من الحجج يتصل باعتبارات سوء مستوي التكوين المعرفي لخريجي كليات الحقوق، والمفروض أن يقوم النظام القضائي علي تكوين قانوني رفيع المستوي، وهي مشكلة تعليمية مجتمعية لا تخص الإناث وحدهن. ويرجع عبدالفتاح تراجع بعض النخب عن مواقفها المؤيدة لقضايا المرأة إلي ما يسميه (الانتهازية) التي تجعل بعض السياسيين والمثقفين بل وبعض نخب الجماعات الإسلامية نفسها - يتحدثون وفقا (للموضة)، فإذا كانت الموضة الدفاع عن حرية المرأة والمواطنة يقفزون للدفاع عنها، وإن صعدت موجة السلفية يقفون بوصفهم (المحافظون)، وتستخدم الجماعات السلفية قضية المرأة كأداة، ففي الوقت الذي يرفضون فيه مبادئ المساواة والحرية ودولة القانون الحديثة، يدافعون عن النقاب مثلا استنادا إلي (الحرية الشخصية)، وتلعب المرأة داخل الحركات السلفية دورا خطيرا في إرجاع أوضاع المرأة الاجتماعية والسياسية والثقافية إلي ما قبل الدولة الحديثة. وتعبر هذه الرؤية تجاه المرأة من النخب السياسية والثقافية أيضا إلي (ذكورية ثقافة الدولة) وسياساتها وذكورية السياسة التشريعية والسياسة القضائية، فرأي الجمعية العمومية لنادي القضاة أو نادي مجلس الدولة رأي نقابي لا يستطيع أن يحجب مبدأ دستوريا، ولهذا سبب تاريخي يعود إلي أن تقاليد العمل السياسي داخل الدولة تشكلت علي أيدي ذكور وتتحيز لصالح الذكور، فالمرأة لم تشارك في القضاء أو صياغة التشريعات لأنها ليست جزءا فاعلا في الحركة الحزبية أو البرلمان أو حتي الإعلام، إلا باعتباره تعبيرا عن الثقافة الذكورية، صحيح أن ثورة يوليو دعمت دور المرأة في المجتمع، لكن الدور الفعال لحركة المرأة لم يتغير في ذهنية القائمين علي شئون الدولة، فيري الكثير منهم في تقلد المرأة لبعض مقاعد المناصب العليا لا يعدو سوي استجابة لضغوط خارجية، تستجيب لها الدولة لتحسين صورتها دوليا وإعلاميا، لكن الحقيقة هي أن القيادة السياسية وبعض القوي داخل الدولة أكثر تقدما من المجنمع ومن بعض أجهزة الدولة. وفي الجهة المقابلة فإن عدد التنويريين قليل وأصواتهم محدودة، في ظل اختراق الأصولية لأجهزة الدولة بما فيها وسائل الإعلام، التي تحمل رسائل متناقضة تجاه المرأة، أغلبها ذو نظرة سلفية والجزء الباقي يتناول قضاياها شكلا دون مضمون. المجاملة وأكل العيش بينما يشخّص عالم الاجتماع بجامعة عين شمس د.ثروت إسحق تراجع بعض النخب عن أقوالهم بأنها (شيزوفرينيا)، يتساوي فيها الكثير من رجال النخب مع بعض نساء النخب أيضا، فقد يصدم البعض لصمت نخب من المؤيدين لقضية المرأة وقت اشتداد الأزمات، وهم يصمتون لإحساسهم أن جهدهم قد لا يأتي بفائدة، لكن البعض يتراجع عن تأييده إلي رفض لصالح مصلحته الأسرية، ويري أن القضية التي يدافع عنها لن تستفيد منها زوجته أو أخته أو أمه، بل قد تضر بما قد يراه إقلالا من مكانته داخل الأسرة. ولهذا فبعض أقوال النخب المؤيدة للمرأة لا تعدو كونها (مجاملة) أو اتقاء قطع العيش، من دون إيمان حقيقة بها، فيقولون كلاما مؤيدا لقضايا المرأة أمام الميكروفونات أو حين يجلسون مع مجتمع نسائي من باب المجاملة، ويباركون لرئيسة الجامعة علي منصب تأخذه المرأة لأول مرة للمحافظة فقط علي أكل العيش، وخارج القاعة يستنكرون وصولها لهذا المقعد، وهو المنطق نفسه الذي يمكن أن نفهم منه موقف سيدة من المدافعات عن قضية المرأة ترضي بأن يضربها زوجها حتي تبقي تحت اسم زوج، لأن التمكين الاقتصادي للمرأة لم يفلح وحده في حمايتها من شراسة المجتمع وملاحقته للمطلقة أو غير المتزوجة أو الأرمل. أداء واجب بينما يري عالم النفس بجامعة عين شمس د.قدري حفني أن الكثير من النخبة شأنهم شأن الجمهور ينظرون إلي المرأة نظرة متدنية، والدليل أن أقوالهم لا تصدقها الأفعال، ليس فقط في قضية المرأة بل في قضية المسيحيين أيضا والمواطنة بشكل عام، فعند التطبيق تخلو قوائم الحزب الوطني (النموذج) من المرشحات للانتخابات، وعندما تغيب القدوة في الفعل فهذا معناه أن الأقوال ليست حقيقية، وتوجهات الشعب تقف عند نقطة الصفر في قضايا المرأة بسبب هذا الموقف المراوغ من النخب، وبسبب أن الإعلام يتناول قضاياها من باب (أداء الواجب) وليس من باب التبني الحقيقي لتلك القضايا، فالبرامج الأكثر مشاهدة تتبني فكرة واحدة فقط هي فكرة المجتمع المقبل علي كارثة، وليست لديها أجندة لقضايا أخري.