لقد مضى وقت طويل لم أشاهد فيه فيلما يحقق لى متعة المشاهدة.. حتى أننى ظننت أنه من فرط ما شاهدته من أفلام ومن فرط ما كتبته عنها بالتفصيل فى تسعة كتب.. أننى وصلت إلى مرحلة التشبع ولم يعد هناك ما يثير دهشتى وانبهارى.. حتى شاهدت مؤخرا فيلم رسائل البحر للمخرج داود عبدالسيد.. لأجد نفسى أعود إلى حالة الدهشة والانبهار. إنه فيلم شديد العذوبة والجمال.. يحكى عن براءة المشاعر الإنسانية التى تصطدم بواقع شديد القسوة والقبح.. واقع ينسف كل ما هو جميل فى ذاكرتنا.. وكل ما هو باق حولنا من شواهد زمن كان يقدس الذوق الرفيع والأناقة والجمال، والتى يعبر عنها الفيلم من خلال استعراضه لواجهات بعض العمارات القديمة التى تطل على كورنيش الإسكندرية، والتى تزينت بالرسوم والزخارف الرائعة. ثم ذلك المقهى البسيط الذى يدير شرائط أم كلثوم فتثير الشجن والحنين لأيام الصفا. ثم هذا البحر بغموضه وهدوئه وثورته والذى يلقى زجاجة مغلقة بداخلها رسالة مكتوبة بلغة غير معروفة.. وإن كانت توحى بأنها رسالة من ماض لم يعد مفهوما!! ومن مفردات ذلك المكان ينسج الفيلم موضوعه من مفردات البشر. منها ذلك الشاب يحيى آسر ياسين الذى هجر مهنته كطبيب لأنه يعانى من مشكلة فى النطق مما يثير ضحكات من يستمع إليه فقرر ترك المهنة التى تخرج لها بدرجة الامتياز! ليعيش على صيد السمك ويبعه لأحد التجار.. أقل القليل يكفيه.. حالة من القناعة والرضا.. تعرف على شاب مفتول العضلات،، قابيل محمد لطفى له قلب طفل، يعمل بودى جارد فى أحد الملاهى الليلية.. يكره العنف.. يعانى من حالات صرع تحيله إلى شخص هائج فاقد الوعى.. يقرر الأطباء علاجه بعملية جراجية فى المخ ولكن مع احتمال فقدان الذاكرة.. وأمام هذا الخطر يوصى صديقته بأسماء معارفه وأصدقائه لكى تذكره بهم فى حالة فقد الذاكرة مشهد رائع ولكن مع ذلك يهرب من إجراء العملية مفضلا استمرار مرضه على فقد الذاكرة. وهناك أيضا تلك المرأة نورا بسمة التى تبيع جسدها هربا من علاقة زوجية فاشلة ولاتجد الطمأنينة إلا مع هذا الشاب العاجز عن النطق والذى أصبح يمثل لها الصديق الحنون والحب الذى تتمناه. ثم هناك هذه المرأة العجوز نبيهة لطفى مع ابنتها من بقايا الإيطاليين الذى استقروا فى الإسكندرية.. وقد أصبحت بمثابة الأم لهذا الشاب يحيى.. يلجأ إليها طلبا للمشروة والدفء العائلى. ومن خلال هذه الشخصيات يشكل المخرج داود عبدالسيد لوحة موزاييك نابضة بالمشاعر والأحاسيس على خلفية من هدوء البحر ثورته.. وكلها شخصيات لا تبحث عن المستحيل.. ولكن تبحث عن الأمان والطمأنينة.. حتى يقتحم السكون ذلك التاجر الثرى الذى اشترى تلك العمارة الراسخة بزخارفها الرائعة.. ليقرر هدمها وبناء برج سكنى بالأسمنت المسلح.. فهذا زمن القبح ولا يكتفى بذلك.. بل دخل البحر بأصابع الديناميت ليفجرها فى صيد السمك فلا وقت للصيد الآمن.. فهذا زمن العنف والقتل. وفى مشهد شديد البلاغة ينهى المخرج داود عبدالسيد قصة الحب التى جمعت بين يحيى ونورا بأن يضعهما بجوار بعضهما نائمين فى قارب تتقاذفه أمواج البحر المليئة بالسمك الميت.. مرثية للحب والحياة فى زمن فقد الذاكرة وتسلطت عليه قوى الشر والقبح والتعاسة. براعة هذا الفيلم أنه يتسلل إلى أعماقك بهدوء وسلاسة لينفض عن مشاعرك آثار التلوث التى تكومت وتكلست حتى حجبت عنا إداك الحقيقة.. حقيقة ما جرى لنا.. وحقيقية ما يجب أن يكون. وهذه الرسالة التى يلقيها علينا البحر.. قد يكون من الصعب فك رموزها.. ولكن لا يعنى هذا إهمالها أو دفعها مرة أخرى داخل زجاجة تتقاذفها الأمواج.. فالرسالة لنا وليس لأحد غيرنا. لعب بطولة الفيلم مجموعة من المبدعين قادهم المخرج داود عبدالسيد ببراعة وفن دون نشاز.. آسر ياسين اكتشاف حقيقى لممثل صادق فى مشاعره وتعبيرات وجهه التى تستكمل عجزه عن النطق كما يتطلبه دوره.. بسمة وجه جميل وأداء رائع.. محمد لطفى رؤية جديدة لممثل موهوب - المفاجأة فى استعانة المخرج داود بزميلته المخرجة التسجيلية نبيهة لطفى فى دور الأم الإيطالية.. اختيار رائع والنتيجة مذهلة. المفاجأة الأخرى للمخرج داود هو اكتشاف مدير التصوير محمد المرسى الذى قدم مشاهد رائعة لثورة البحر وعواصف النوة وسقوط الأمطار مع مونتاج حساس للفنانة منى ربيع وموسيقى موحية لرابح داود. أنه فيلم لا ينسى.. أنصحك ألا تفوتك مشاهدته.