كان من الطبيعي والمتوقع جدا أن تظهر آثار الأزمة المالية الحادة التي أصابت دبي علي مهرجان السينما السنوي الذي يقام في ديسمبر من كل عام، وحتي لو كان المهرجان لديه ميزانية ضخمة فإن أصول اللياقة كانت تستدعي أن تظهر نواياه في التقشف وضغط النفقات حتي لا يقال أن دبي لا تدفع ديونها وتنفق ببذخ علي مهرجانات السينما. ولذلك عكفت قبل أن أسافر إلي مهرجان دبي السينمائي الذي عقد مؤخرا (في الفترة من 9 إلي 61 ديسمبر) علي قراءة بعض ما ينشر في الصحف ومحطات التليفزيون عن الأزمة المالية الحادة التي تمر بها الإمارة التي كانت، حتي أسابيع قليلة مضت، أشبه بالعوالم الخيالية الصغيرة في قصص الأطفال والأفلام الفانتازية. قبل ست سنوات حضرت الدورة الأولي من المهرجان، وكانت المرة الأولي أيضا التي أري فيها هذه المدينة أو الإمارة الخليجية. كان التصور المسبق عنها أنها مثل باقي دول الخليج عبارة عن أموال طائلة سقطت من السماء، أو بالأحري خرجت من بطن الأرض، فوجدها مجموعة من رعاة الجمال والجياد واشتروا بها أغلي أنواع الملابس والبيوت والطائرات، ولكنهم ظلوا بدوا وبدائيين وأبعد ما يكونون عن الحضارة والفنون والسينما. لم يكن انطباعي بعيدا عن الحقيقة تماما، فمظاهر الفخامة والرفاهية كانت مبهرة حتي لأكثر الضيوف ثراء، بما في ذلك نجوم السينما..ولا مهرجان برلين أو كان يمكن أن تجد فيهما هذا الإنفاق الهائل. وفوق هذا كان المهرجان يمتلئ بكل جنسيات العالم فيما عدا أهل الإمارة، الذين كانوا أشبه بالضيوف في بلدهم، وخلال المهرجان لم نشاهد شيئا له علاقة بالإمارات سوي بعض الأفلام القصيرة الساذجة التي قالوا لنا أنها شاركت في مسابقة أفلام من الامارات التي تقام في أبي ظبي. لماذا أحكي هذا كله؟ لأنه علي مدار السنوات الست الماضية كان كل شئ يتغير ويتحول في دبي وفي المهرجان، ومن عام إلي آخر كنت أتعرف بالكاد علي ملامح المدينة والمهرجان رغم أنهما لا يحتلان من مساحة الكرة الأرضية سوي كيلومترات معدودة لا يمكن أن تراهما علي أي خريطة. برج العرب، مثلا، وهو فندق فاخر لامثيل له في العالم أخذونا لزيارته في السنة الأولي، فقد بريقه بعد أعوام قليلة أمام مبانٍ أخري أكثر إبهارا كان آخرها أطول برج في العالم الذي اشتريت في العام الماضي مجسما صغيرا له قامت بصنعه الصين رغم أن البرج لم يكن قد تم بناؤه بالكامل بعد! وأتذكر أنني في العام الأول للمهرجان ذهبت مع مجموعة من الزملاء إلي مطعم جميل في منطقة هادئة تشرف علي الصحراء، وفي العام التالي ذهبنا نبحث عنه فلم نجده إلا بمشقة هائلة بسبب عشرات المباني العملاقة التي ارتفعت حوله في غضون شهور قليلة! حمي البناء لم تكن تتوقف نهارا أو ليلا، وسماء بلي كانت تضيئها مصابيح رافعات البناء العملاقة التي يقال أن ثلث عددها في العالم يوجد في دبي فقط. من أين تأتي، وأين تذهب، كل هذه الأموال؟ لم يستطع عقلي الذي لا يفقه ألف باء الاقتصاد أن يستوعب ما يراه، كما لا يستطيع أن يستوعب أن أعود من دبي إلي القاهرة عاما بعد آخر علي مدار ست سنوات لأري أن العمارة التي يقومون ببنائها علي ناصية شارعنا لم تنته بعد، وأن كل ما حدث هو أنهم دمروا مساحة أكبر من الشارع ببقايا الرمل والأسمنت وقفف البناء! مهرجان دبي كان يتغير أيضا. تراجع اعتماده علي ابهار البطون والعيون، وبدأ يسعي إلي لعب دور علي ساحة السينما العالمية من خلال عقد المسابقات وإقامة ورش العمل ودعوة كبار المنتجين في العالم للقاء شباب صناع الأفلام العرب وتنظيم سوق للأفلام علي شاكلة أسواق الأفلام التي تقام في المهرجانات الكبري..وسوف أناقش مدي نجاح هذه النشاطات لاحقا..ولكن ما أقصده هنا هو السرعة التي كان يتحرك بها المهرجان، والتي ظهرت أيضا في النهضة السينمائية التي شهدتها البلاد خلال سنوات معدودة بالرغم من أنها استيقظت بالكاد من سبات عميق يزيد علي قرن منذ تم اختراع السينما. عدد أكبر من الشباب اتجهوا لصنع الأفلام وعدد أكبر من الأفلام أصبح أكثر جودة وجرأة، وخلال العام الحالي فقط انتجت الامارات أول فيلمين طويلين في تاريخها..وسوف أتحدث عن الأفلام الإماراتية والخليجية في المهرجان لاحقا..ولكن أريد العودة بشكل سريع إلي الوضع المالي المتأزم الذي مثل الخلفية الكئيبة لدورة المهرجان هذا العام. كان من الواضح جدا أن المهرجان قام بتخفيض النفقات بدرجة قد تزيد عن نصف نفقات العام الماضي وربما لا تتجاوز عشر ما تم انفاقه في العام الأول له. في الدورة الأولي، مثلا، حضر معظم نجوم السينما المصرية من الكبار والشباب، أما هذا العام فكان العدد محدودا جدا، وحتي المكرمة فاتن حمامة لم تحضر، بالرغم من أن عادل امام ذهب لحضور تكريمه في الدورة الماضية، والأكثر من ذلك أن النجوم المصريين القلائل الذين ذهبوا إلي المهرجان كانوا أكثر من نجوم هوليوود الذين انخفض عددهم بشدة وأشهر واحد فيهم كان مات ديلون، وليس ديمون، مقارنة بأعداد لا تحصي وأسماء مثل ليوناردو دي كابريو وشارون ستون وجورج كلوني وأنجلينا جولي وبراد بيت في الدورات السابقة. حتي جيمس كاميرون الذي عرض له فيلمه الأخير ''أفاتار'' في ختام عروض الجالا لم يحضر لا هو ولا أحد من صناع الفيلم، بل وحتي نجوم السينما الهندية الذين يحضرون بقوة في المهرجان، بحكم تأثير السينما الهندية الطاغي وعدد الجاليات الهندية في الامارات والتجاور الجغرافي، لم يحضر منهم سوي أميتاب باتشان لتسلم درع تكريمه فقط. مظاهر التقشف امتدت إلي كل موقع في المهرجان، مثل المطبوعات والحفلات المسائية وحتي نوع الخدمة في المركز الصحفي ونوع الطعام علي الافطار، ولست أذكر ذلك لأتذمر، أنني لا أتناول الافطار أصلا، ولا أحضر الحفلات المسائية في المهرجانات إلا نادرا للقاء شخص ما أو لتوديع الزملاء قبل السفر. أذكره فقط حتي أظهر مدي تأثير الأزمة التي تكاد تعصف بحلم دبي، ولعل أسعد خبر سمعته أثناء المهرجان هو أن إمارة أبو ظبي قررت دعم دبي في أزمتها بعدد من مليارات الدولارات. الشيء الوحيد الذي لم يظهر عليه تأثير الأزمة هو نوعية الأفلام التي عرضها المهرجان ونسبة حضور الأفلام من قبل الجماهير، لدرجة أنك قد لا تستطيع الحصول علي تذكرة لحضور فيلم ايراني أو مكسيكي كما حدث معي أكثر من مرة. ما بقي من المهرجان هذا العام هو السينما، وفيما عدا ذلك تلاشي مثل زبد موج الخليج. وبجانب الأفلام بقيت ورشة العمل التي تحمل اسم ملتقي السينما في دبي والتي تجمع صناع الأفلام الشباب مع منتجين من أنحاء العالم، كما بقيت السوق التي شهدت عرض عدد من الأفلام الجيدة كما شهدت عددا من اتفاقيات البيع والشراء للأفلام. وقبل ذلك كله من الناحية الزمنية كان المزاد السنوي الذي يقام علي هامش المهرجان لجمع التبرعات لعلاج مرضي الإيدز، وحضره هذا العام ملكة الاردن رانيا والنجمة كريستينا ريتشي وعدد آخر من المشاهير، وعرض فيه بورتيريه من الزجاج لمارلين مونرو وحقيبة من جلد التمساح الأسود مرصعة بالمجوهرات من تصميم شانيل كانت النجمة مادونا قد أهدتها إلي المزاد العام الماضي. لا نزال مع المهرجان وأفلامه التي كان من بينها بعض الروائع العالمية وبعض الأفلام العربية المهمة جدا، والتي تحتاج إلي مقال مفصل في العدد القادم.