كتب: صدام كمال الدين كان لابد أن نعيد اكتشاف عالم نجيب محفوظ والذى لم يكشف عن معظمه حتى الآن.. من خلال الأديب والروائى جمال الغيطانى الذى ولد فى نفس المنطقة التى عاش وترعرع بها محفوظ، وأيضاً من خلال صداقته له، والتى امتدت لأعوام طويلة كشف لنا من خلال هذا الحوار بعضاً من عالم نجيب محفوظ: ماذا يقول الغيطانى عن الأستاذ نجيب محفوظ؟ - الذى أتمناه ألا تنسى مصر نجيب محفوظ لأننى لاحظت فى الآونة الأخيرة أن الاهتمام به يتراجع، فالمتحف لم ينشأ، ومشروع المزارات الذى قدمته للمحافظ لم يتم فيه أى شىء، والقضية هنا ليس أن تذكر الناس بأديب رحل، ولكن كل الأدباء الكبار الراحلين فى العالم يتم التعامل معهم وسط آليات تذكر معينة، كأن يتم تخصيص عام لفيكتور هوجو، فيتم طبع كل أعماله فى طبعات مختلفة، وخاصة للشباب والأجيال الجديدة التى لم تقرأ هذه الأعمال، كما أن هناك المجالات المتخصصة والتى تتناول الأديب وأعماله من خلال رؤية جديدة، ويتم عمل مناظرات عنه فى الإذاعة والتليفزيون، وتعرض الأفلام المقتبسة عن أعماله، ولكننا هنا فى مصر ألاحظ أن الأديب بمجرد "ما يتكل على الله" لا نجد دار نشر تتحمس له وكتبه تختفى من المكتبات ودور النشر. ذلك أن فكرة الإحياء ضرورية للاستمرارية الثقافية، فأرى أن توفيق الحكيم يحتاج لإعادة قراءته مرة أخرى، والمازنى أيضاً ندعو منذ فترة كبيرة لتقديمه مرة ثانية، ولحسن الحظ قامت دار الشروق بإعادة طبع أعماله المتكاملة، وأيضاً قمنا بعمل حملة عن سعد مكاوى فى أخبار الأدب لإعادة إحياء أعماله، فالاهتمام بنجيب محفوظ خفت وبعض كتبه لم تعد موجودة نتيجة خلاف بين الناشرين والأسرة، والذى أتمناه أن تنتهز مصر الفرصة بمناسبة مئوية محفوظ وتحولها إلى حدث ثقافى عالمى. هل حصل جمال الغيطانى على تذكار من نجيب محفوظ ويحتفظ به إلى الآن؟ - أهم شىء حصلت عليه من نجيب محفوظ هو الإهداءات التى كتبها لى، ولكن هدية بمعنى هدية لم يكن بيننا هذا الأمر، فالإنسان عندما يقترب من إنسان جداً، خاصة نجيب محفوظ الذى كان يخيل إلينا أن الحياة ستدوم أبداً، ومثل فكرة تسجيل الجلسات التى لم تواتنى سوى فى السنين العشر الأخيرة، ولكن عوامل الهدم فى الزمن تتدخل وتفاجأ أن الأمور تحيد عما توقعته، وحتى فى عيد ميلاده كنا نحتفل به ونحضر له تورتة ولم يكن يأكل منها بسبب مرض السكر، ولا أذكر أننا تبادلنا الهدايا إلا فى مرات نادرة جداً كأن أكون عائداً من السفر وأحضر له علبة "شوكولاتة" من الأنواع الخاصة لمرضى السكر، ولم يكن حتى يتذوقها بسبب النظام الصارم الذى كان يخضع نفسه له. إنما بالمناسبة أذكر أن داخل بيت نجيب محفوظ كان هناك دولاب فيه أهم مقتنياته، وأهم قطعة فى هذا الدولاب كانت عبارة عن قلم حبر أهداه له توفيق الحكيم، وعلاقته بالحكيم كانت علاقة قوية جداً، ومازلت أذكر أنه بعد مقابلاته يوم الخميس فى الأهرام كنت أجلس وزكى نجيب محمود وبنت الشاطئ وإحسان فوزى، وننتقل معه إلى حجرة الأستاذ توفيق الحكيم ويجلس أمامه كأنه تلميذ مع أستاذه، وبعد أن توفى الحكيم وتم تخصيص حجرته لمحفوظ كنوع من التكريم له رفض أن يجلس على كرسيه وكان يجلس ويستقبل ضيوفه على كرسى أمام المكتب. كيف بدأت علاقتك بالأديب الكبير نجيب محفوظ؟ - علاقتى بالأستاذ نجيب بدأت قبل أن نلتقى، فبداية قراءاتى كانت مع الأدب المترجم والتراث العربى، وبدأت أقرأ الأدب المصرى الحديث لكن متأخراً بعض الشىء، لأن معظم كتاباتى كانت من المكتبات التى بجوار الحسين والأزهر، ومن كتب الرصيف أيضاً فلفت نظرى وأنا فى عمر العاشرة روايات تحمل أسماء المنطقة التى أعيش بها فقرأتها، ولأول مرة أجد كاتبا مصريا رأسه برأس الأدباء العالميين الذين قرأتهم كتشيكوف وتولستوى ودستوفيسكى، ومن هنا بدأت أبحث عن أعماله الأخرى، وسنة 9591 قابلته لأول مرة فى الشارع حيث كنت أقف من الناحية المواجهة للأوبرا أنتظر صديقاً فوجدت نجيب محفوظ يأتى من ناحية العتبة وكنت أبلغ من العمر فى ذلك الوقت 51 عاماً، وبعد أن تحدثت معه دعانى إلى الأوبرا ومن هنا بدأت علاقتنا والتى استمرت ما يقرب من خمسين عاماً، ونقطة التحول بها كانت مرتبطة بالمقهى ففى سنة 5691 وجدته يقول "ما تعدى على يوم الخميس فى قهوة عرابى" والقهوة كانت تلعب دوراً أساسياً جداً فى حياته، وبدأت جلساتنا فى القهوة فى الأوبرا ثم انتقلت إلى نادى القصة، واستقرت فى سفنكس ثم انتقلت إلى ريش حتى سنة 7791، وكانت تضم عدداً كبيراً من المثقفين وكان الأستاذ نجيب يسمع أكثر مما يتحدث، ولكن فى قهوة عرابى كان يجلس مع أصدقاء الطفولة فكان من الممكن أن تجد من يقول له "ياد يا نجيب" وأنا أول مرة سمعت المعلم كرشة يقول له هذا ذهلت "فالأستاذ الكبير بتاعنا بيتهزأ كده"، وكانت هذه نقلة فى حياتى خاصة بعد أن أدخلنى فى صميم حياته الخاصة، ومن خلال مجموعة قهوة عرابى عرفت عنه أشياء كثيرة جداً عن حياته الخاصة، وعلاقاته والمنطقة التى كان يعيش بها و"أيام الشقاوة"، وفى إحدى المرات كنت فى أتوبيس ووجدته ماشياً على كوبرى قصر النيل وكان وقتها مستشار مؤسسة السينما فى مبنى التليفزيون، وكان يمشى يومياً من العجوزة إلى مبنى التليفزيون، فما كان منى إلا أن نزلت من الأتوبيس أثناء سيره، وعندما كان يتذكر هذه الأيام كان يضحك ويقول لى: "إنت فاكر على كوبرى قصر النيل كذا وكذا"، ووقتها نجيب محفوظ كان عملاقا فى حجم جسمه وذلك قبل إصابته بمرض السكر، وأثناء الطريق الناس لا تكف عن السلام عليه وكان كالولى بين الناس، وبعد محاولة قتله فى 4991، بدأت نقطة تحول أخرى فى حياته وحياتنا أيضاً، فكان لابد أن نجتمع تحت حماية من البوليس وأيضاً فى مكان مغلق. كان يعشق الحارة الشعبية.. حدثنا عن روحه التى كانت تسكن هذه الحارة؟ - لكى تفهم هذه الحالة يجب أن تذهب إلى درب "قرمز" البيت رقم 8 بجوار بيت القاضى وهو المكان الذى ولد به، وهو من الأماكن الخاصة به، وعندما كنا نتمشى فى الجمالية كان يقول لى "شايف" البلكونة دي كان فيها بنت أنا بحبها، والكتاب ده حصل فيه كذا وكذا". والحارة التى تربى فيها عبارة عن درب فيه جامع أثرى تحته نفق، ولو تأملت هذا الدرب جيداً ستجده متمثلاً فى الروايات الواقعية التى كتبها نجيب محفوظ كزقاق المدق وخان الخليلى وبين القصرين، وبعد فترة عاد إلى الأصل وكتب أولاد حارتنا، ثم حول الحارة إلى عالم رمزى فى عمل أسطورى هو الحرافيش. بما أنك كنت واحدا من ثلاثة ممن كان مسموحا لهم بدخول بيته، كيف كانت حياة نجيب محفوظ داخل البيت مع زوجته وابنتيه؟ ولماذا كان يصر على إبعادهن عن الإعلام؟ - نجيب محفوظ بطبيعته رجل محافظ، ولم ندخل بيته إلا بعد حصوله على جائزة نوبل، وعلاقته بابنتيه كانت علاقة أبوية جداً، أما إبعادهما عن الإعلام فهى محاولة منه لحمايتهما من فضول الصحفيين، وما يمكن أن يقال عنهما، فأسرته ولدت بعيداً عن الشهرة والأضواء، وهذا نسق من السلوك المصرى فى الطبقة المتوسطة وهو كان مخلصا له جداً. أما فى الفترة الأخيرة فبحكم السن والشيخوخة كان لابد أن تظهر زوجته، كما أن ابنتيه للأسف تعرضتا لبعض المشاكل بعد وفاته من أحد أقاربهما ووصلت المسألة لما لم نكن نتمناه، وحقيقة رأيت المشاكل التى يمكن أن يتعرض لها الشخص عندما يصبح مشهوراً من خلال الطمع فيه والالتصاق به واستثمار سيرته. فى كتابك "نجيب محفوظ يتذكر" تحدثت عن والديه.. هل كان لهما أى تأثير فى أعماله الأدبية؟ - أولاً والده توفى وهو فى الأربعينيات من عمره، ونجيب كان الفرق بينه وبين أخيه الذى يكبره مباشرة 51 عاماً، كما أتذكر جنازة أخيه وكان لواء فى الجيش وذلك فى الثمانينيات، وبالمناسبة الأستاذ يوسف القعيد نشر صورة لوالده فى مجلة "المصور" بعدما أخذها من محمود الكردى ابن أخت نجيب محفوظ، ونستطيع من خلال أعماله الأدبية أن نرى أن والده هو الأصل، فهو أحمد عبدالجواد والجبلاوى وعاشور الناجى، فمن الواضح أنه كان أبا قويا جداً وأظنه ترك أثراً كبيراً فيه. نجيب بالمناسبة كتب حياته من خلال أبطاله، فكمال فى الثلاثية بالمراحل العديدة التى مر بها يعبر عن نجيب نفسه، وكنت متأثراً جداً بكمال فصعبت عليه معاناتى فقال لى: إنس كمال وتجاوزه لأنه كان مرحلة وأنا تجاوزتها وتخطيتها، والذى كان يعبر عن نفسه وحيرته الفكرية فى فترة من الفترات. كيف كانت علاقته بمشاهير الأدباء فى عصره؟ - علاقته كانت ودية جداً، ومن النادر أن نسمع منه وهو الأستاذ نجيب محفوظ كلمة نقد لأى شخص، ولكن عندما يزيد به الحال تجده يعبر عنها فى نكتة، وبالمناسبة نجيب محفوظ مؤلف نصف النكت اللى فى مصر، وهو أمهر من رأيته فى ارتجال النكت حتى وهو فى مستشفى الشرطة كان بيقول نكت، وظهر هذا الحس فى أعماله كسهرات أحمد عبدالجواد والحوارات بينه ومحمد عفت فى الثلاثية، وأصل السخرية الشديدة عنده فى الواقع ليس فى كتابة النكت لكن فى رؤية ساخرة جوهرها مأساوى. ما هى قصة أول جنيه اكتسبه من عمل أدبى؟ - هى أول قصة نشرت له فى مجلة الرسالة وحصل مقابل نشرها على جنيه، ولم يكن يعتبر الأدب مصدراً للدخل، وأنا تعلمت منه هذه الحكاية، ووقتها كانت تكاليف حياته ملاليم، الفلوس بالنسبة له كانت نوعاً من تأمين الحياة لأسرته، لذلك كان كثيراً ما يتساهل فى بيع قصصه ومن هنا جاء اتهامه بأنه السبب فى تدهور أسعار الأعمال الأدبية. تتذكر آخر مرة رأيته فيها قبل رحيله؟ وكيف كانت مشاعرك تجاهه؟ وكيف تقبلت هذه اللحظة؟ - رأيته قبل الوفاة بحوالى ساعة.. عرفت بعدها أن قلبه توقف فى أول الليل، وكنت معتاداً على زيارته كل يوم مرتين مرة فى الصباح ومرة بعد الظهر، وفى هذا اليوم تأخرت فى أخبار الأدب، وذهبت إلى المستشفى فى الحادية عشرة صباحاً وعندما وجدت زوجته استغربت الأمر، فهى عادة ما تكون فى البيت فى هذا الوقت فقلت لها، خير، قالت لى "جاتله أزمة ما تدخل تشوفه" وعرفت بعدها أن قلبه كان قد توقف أول الليل، وعندما دخلت عليه وجدته على الوضع الذى كنت أراه عليه يومياً، ولكن هذه المرة كان الوضع مختلفاً فكان نائماً على ظهره وصوت حشرجة طالع من حنجرته، عرفت فيما بعد أنها تسمى حشرجة الموت، فاقتربت منه وأمسكت بيده وقلت له "أستاذ نجيب أنا جمال" فكأن هناك بطارية صغيرة أضاءت فى وجهه فجأة برغم أنه كان بدون سماعة الأذن، وكان هناك اثنان يسمعهما من غير السماعة أنا وممرضة فى مستشفى الشرطة اسمها ليلى، وهى بنت بلد من القلعة وكانت بتقوله يا جدى، فقلت له "الناس بتدعيلك فى الحسين وشد حيلك علشان نروح سوا" وفجأة وجدت أن الضوء الذى كان بوجهه راح وولى وجهه ناحية النافذة "وزى ما تقول راح منى". ما هى فكرة المزارات المحفوظية؟ وإلى أين وصل هذا المشروع؟ - قمت بحصر الأماكن الخاصة بنجيب محفوظ بحيث يتم عمل علامات إرشادية على شكل "رجل" نجيب محفوظ، وبنفس المقاس مكتوب عليها اتجه إلى زقاق المدق بلغتين، وفى الزقاق تجد يافطة مكتوبا عليها هنا البيت الذى ولد به، وهنا المكان الذى تعلم به وهكذا، والمشروع له شقان أحدهما يتعلق بالأماكن الخاصة بحياته وشق خاص بأماكن أبطاله، والمحافظ رجل فاضل بس ما بيعملش حاجة، حيث عمل اجتماعات والموضوع نسى تماماً، ووزير الثقافة خصص مكانا للمتحف، ولكن لا توجد خطوة إيجابية إلى الآن.