جلست على كرسى بجوار سرير إحسان. فرفعت ظهرها قليلا وابتسمت. لاحظت أن عينيها ازدادت اتساعا. قلت: خسيتى تانى يا إحسان بس المرة دى إجبارى. قالت: بالعكس أنا لسه مليانة ميه، لسه جسمى مش قادر يطرد الميه. سألتها: حاسة بالندم؟! أجابت: "بالعكس أنا حاسة إن فيه جبل انزاح من على قلبى". سر سؤالى عن الندم أننى قرأت دراسة منذ سنوات تؤكد أن المتبرعين بجزء من كبدهم يشعرون ببعض الندم يصاحبه بعض الاكتئاب بعد الجراحة. باستثناء الأمهات اللاتى يتبرعن بجزء من كبدهن لأبنائهن. وإحسان تبرعت لزوجها بالجزء الأكبر من كبدها.وتؤكد أنها لم تشعر بالندم (زرتها بعد أسبوع من الجراحة). أما سر تعليقى على أنها ستفقد كيلوات جديدة من وزنها إجبارى هو أنها اضطرت أن تتبع نظاما غذائيا صارما لتفقد أكثر من 24 كيلوجراما كشرط أول ليوافق الأطباء على فحصها كمتبرعة. المتبرع بجزء من كبده يخضع لعدد هائل من الفحوصات ليثبت أن جميع أجهزة جسمه سليمة تماما، وليس الكبد فقط. وإحسان زوجة عادية من طبقة متوسطة.. أم لثلاثة أولاد.. عمرها 44 سنة، المتوقع أن تسفر الفحوصات عن أمراض مختفية. كما حذرها الأطباء من أن فقدان الوزن السريع قد يضر بالكبد. لم يكن أمام إحسان والدكتور أسامة زوجها المريض سوى المحاولة. فحالة كبده تتدهور بسرعة، ولا مفر من الزرع، ولا يوجد متبرع بديل عن زوجته التى تصادف أن فصيلة دمها متوافقة مع فصيلة دمه. لم يكن فقدان الوزن هو أصعب ما واجهته إحسان، فبعد تسعة أشهر فقط أصبح وزنها مثاليا. ولحسن الحظ لم يتأثر كبدها بهذا الفقدان السريع. الأصعب كان هذا الضغط العصبى الهائل الذى تتعرض له إحسان مع كل فحص طبى جديد. خاصة إذا جاءت نتيجة الفحص تؤكد وجود خلل ما فى أحد أجهزة الجسم. فيتوقف كل شىء حتى يتخذ الأطباء قرارهم: هل يرفضون تبرع إحسان، أم يحاولون علاج الخلل؟؟. حتى قبل الجراحة بيوم واحد أصيبت إحسان بأنفلونزا عادية وارتفعت درجة حرارتها، فتأجلت الجراحة أسبوعا حتى شفيت. مستشفى عين شمس التخصصى هو أحدث مركز طبى كبير فى مصر، يقوم بزرع الكبد، المريض الدكتور أسامة والذى تلقى جزءا من كبد زوجته هو الحالة رقم 62 التى أجريت لها الجراحة فى هذا المستشفى، لكنه الحالة رقم 533 بالنسبة للجراح الدكتور محمود المتينى أستاذ الجراحة بجامعة عين شمس والذى بدأ جراحات الزرع فى وادى النيل، وهو أيضا يجرى جراحات فى مصر للطيران، لكنه ظل يعتبر أن استحداث وحدة لزرع الكبد فى عين شمس التخصصى حلمه الشخصى الذى تحقق أخيرا. فى عين شمس يدفع المريض تكاليف الجراحة فقط، حوالى 240 ألف جنيه، وهو رقم يقترب من نصف تكاليف المستشفيات الخاصة الكبيرة، لكن يظل فوق طاقة المريض العادى . مريضنا الدكتور أسامة، استطاع أن يوفر هذا الرقم من أكثر من جهة، حيث ساعدت جهة عمله، كما ساعدت وزارة الصحة، واستطاع تدبير المبلغ الباقى. بعض المرضى يتلقون مساعدة من صندوق تابع للمستشفى استطاع أن يكونه الدكتور محمود المتينى وزملاؤه، بشرط أن يكون المريض محتاجا احتياجا حقيقيا. والتأكد من هذا الشرط ليس سهلا. يقول د.محمود إن قائمة الانتظار فى عين شمس التخصصى الآن تصل إلى 21 حالة. ربما تختفى نهائيا أو تقل بدرجة كبيرة، إذا ما زادت عدد الأسرة قليلا، فالوحدة تحتاج إلى إضافة حجرة رعاية متوسطة بها أربعة أَسِرة على الأقل لتقلل العبء على الرعاية المركزة قليلا، وتسمح بأن يتلقى المريض أكبر رعاية لأطول وقت. المريض الذى يتم زرع جزء من الكبد داخله يحتاج إلى البقاء فى مكان معقم معزول لفترة طويلة يمكن أن تصل إلى شهر، وهو يحتاج إلى أسبوع على الأقل فى الرعاية المركزة المعزولة بالطبع. وهو أيضا يحتاج مدى الحياة إلى أدوية وتحاليل تتكلف شهريا من أربعة آلاف إلى ستة آلاف جنيه. مما يعنى أن الصعوبة التى تحيط بعملية زرع الكبد تتعدى صعوبة الوصول إلى متبرع مناسب، ولا تنتهى بانتهاء الجراحة، وأن التكاليف التى استطاعت مستشفى عين شمس التخصصى تخفيضها (ومن قبلها قصر العينى والساحل). تظل فوق قدرة الإنسان العادى مدى الحياة. لكن الواقع يقول إنه يوجد فى مصر الملايين الذين يحتاجون وسيحتاجون خلال وقت قصير لزرع كبد كوسيلة وحيدة للاستمرار فى الحياة. "فيروس سى" هو المتهم الأول والأكبر والذى يهاجم الكبد وتدريجيا يحدث فيه التليف القاتل، والكبد عضو عجيب يظل متحملا للفيروس ونشاطه دون أن يشكو أو يظهر، حتى يتمكن الفيروس منه تماما، وينتشر التليف تدريجيا. بينما يؤدى العضو البطل دوره حتى آخر 5٪ من خلاياه ثم ينهار فجأه انهيارا لا نهوض بعده. ويصبح الزرع هو الحل الوحيد.. وللأسف فى هذه الحالة يصبح الوقت عدوا شرسا. وقلة قليلة من المرضى هم الذين يدركون حاجتهم للزرع فى وقت مناسب يكفى لترتيب التمويل والمتبرع. وإذا كان الصمت والانهيار المفاجئ صفة سلبية للكبد، فقد منحه الله فى المقابل صفة مدهشة رائعة وهى أن خلاياه قادرة على النمو بحيث إذا أخذ الجراحون من المتبرع ثلثى كبده كما حدث مع إحسان (فى حالة التبرع للأطفال يعطى المتبرع ثلثا فقط) فإن الثلث الباقى فى جسد المتبرع ينمو ويعود إلى حجمه الطبيعى فى خلال ستة أشهر، بينما ينمو الجزء المزروع فى جسد المتلقى بنفس المعدل تقريبا. سرطان الكبد ينافس فيروس "سى" ويأتى فى المرتبة الثانية ويتصف بالصمت مثله، لكن بعد اكتشافه وإذا كان لم يخرج من الكبد ولم يظهر فى أى عضو آخر فى الجسم، يصبح الزرع فى هذه الحاله عاجل جدا، ففى خلال يوم واحد قد ينقلب الموقف كله. مريضنا الدكتور أسامة هو أحد ضحايا فيروس "سى". والغريب أنه لم يتمكن أبدا من معرفة سبب إصابته بالفيروس فلا هو مريض قديم بالبلهارسيا (كأغلب ضحايا الفيروس)، ولا أجرى جراحات ولا احتاج لنقل دم. هذا لا يعنى أن كل مرضى فيروس "سى" سيحتاجون إلى زرع كبد، المعروف أن نسبة 04٪ من كل مرضى الكبد سيحتاجون إلى الزرع يوما ما. منذ عشر سنوات أو أكثر قليلا سألت أستاذ أمراض كبد.. هل تنصح الإنسان العادى أن يقوم بعمل تحاليل لاكتشاف ما إذا كان مصابا بالفيروس "سى أو بى"؟ أجابنى بأنه لا يرى داعيا لذلك مادام لا يشكو من أية أعراض، وكان مبرره وقتها أن إمكانيات العلاج ضعيفة، وأن معرفته بالمرض الكامن قد تتسبب فى انخفاض معنوياته وربما يساعد ذلك على تقليل المناعة الطبيعية للجسم والتى هى خط دفاع فعال فى كثير من الأحيان. الآن وبدون أن أعود للأستاذ وأكرر عليه السؤال أعرف أن الوضع تغير وأن المعرفة المبكرة قد تفيد فى مواجهة المرض. وتقليص نشاطه والاستعداد بالبدائل المختلفة. فالعلاج بالإنترفيرون يزداد نجاحا وتتسع دائرة الاستفادة منه، كما أن زرع الكبد من متبرع حى يثبت نجاحا سنة بعد أخرى، وقريبا سيصدر قانون يجعل إمكانية زرع كبد كامل من متبرع حديث الوفاة باب أمل جديد. لكن فى كل هذه الحالات أنا أتكلم عن فئة شديدة الثراء، ولا أبالغ إذا قلت إن أصحاب الملايين وحدهم هم الذين يستطيعون تحمل علاج الكبد بأنواعه على نفقتهم الخاصة. والدولة لا تحاول وإن حاولت لن تستطيع أن توفر هذا العلاج مجانا لكل من يحتاجه. لذلك ستظل عقبة الإمكانات المالية الشخصية والعامة لسنوات طويلة قادمة تحرم مرضانا من العلاج الصحيح، حتى بعد صدور قانون زرع الأعضاء. هذا القانون الذى سيساهم فى حل مشكلة المتبرع، ليس بالنسبة للكبد فقط، بل أيضا للكلى والقلب والرئتين. والحديث عن المتبرع يعيدنى إلى إحسان هذه الزوجة القوية، وغيرها الكثيرات من الزوجات والأخوات والأبناء والأمهات والآباء وأبناء الأخ أو الأخت، متبرعون كثيرون التقيت بهم وتعرفت عليهم عن قرب، وأستمتع برؤية النور الذى يشع منهم فى الأسابيع القليلة التالية للتبرع (فى الغالب يختفى بعد ذلك) رغم الألم والشحوب والنحول. لم أقابل زوجا تبرع لزوجته حتى الآن، ولا أعتقد أنه حدث فى مصر أصلا. فليكن.. أنا أعتقد كما أكدت لى إحسان صاحبة العينين الواسعتين والإرادة الحديدية، أن المتبرع هو الفائز فى كل الأحوال.