شيخ العمود «إلكتروني».. شرح 60 كتاباً على يد كبار العلماء أسبوعياً بالأزهر    افتتاح الملتقى التوظيفي الأول لطلاب جامعة الفيوم    آخر تحديث.. تراجع جديد للدينار الكويتي مقابل الجنيه في البنوك    «صديقة الخباز» فى الصعيد.. رُبع مليار دولار استثمارات صينية    كتائب القسام في لبنان تعلن إطلاق عشرات الصواريخ تجاه أهداف عسكرية إسرائيلية    الهند.. مخاوف من انهيار جليدي جراء هطول أمطار غزيرة    طلب مفاجئ من محمد صلاح يقلب الموازين داخل ليفربول.. هل تحدث المعجزة؟    إمام عاشور يمازح جماهير الأهلي قبل نهائي أفريقيا.. ماذا فعل؟    رسميا.. المقاولون يطلب إعادة مباراة سموحة ويستشهد بالقانون وركلة جزاء معلول أمام الزمالك    آخر تطورات الحالة الجوية بالإمارات.. توقعات بسقوط أمطار غزيرة على عدة محافظات    مصري بالكويت يعيد حقيبة بها مليون ونصف جنيه لصاحبها: «أمانة في رقبتي»    تعرف على موعد عزاء المؤلف عصام الشماع    باسم خندقجي.. الأسير الفلسطيني الذى هنأه أبو الغيط بحصوله على «البوكر»    الأربعاء.. قصور الثقافة تحتفل بعيد العمال على مسرح 23 يوليو بالمحلة    إيرادات الأحد.. فيلم شقو يتصدر شباك التذاكر ب807 آلاف جنيه.. وفاصل من اللحظات اللذيذة ثانيا    خالد الجندي: «اللي بيصلي ويقرأ قرآن بيبان في وجهه» (فيديو)    «الرعاية الصحية»: نتطلع لتحفيز الشراكة مع القطاع الخاص بالمرحلة الثانية ل«التأمين الشامل»    رئيس جامعة كفر الشيخ يطمئن على المرضى الفلسطينيين بالمستشفى الجامعي    لجنة الصلاة الأسقفية تُنظم يومًا للصلاة بمنوف    برلماني: زيارة أمير الكويت للقاهرة يعزز التعاون بين البلدين    صندوق تحيا مصر يطلق القافلة الإغاثية الخامسة لدعم الفلسطينيين في غزة    محمد حفظي: تركيزي في الإنتاج أخذني من الكتابة    استعدادًا لامتحانات نهاية العام.. إدارة الصف التعليمية تجتمع مع مديري المرحلة الابتدائية    انطلاق القافلة «السَّابعة» لبيت الزكاة والصدقات لإغاثة غزة تحت رعاية شيخ الأزهر    إخلاء سبيل المتهمين فى قضية تسرب مادة الكلور بنادى الترسانة    السفير محمد العرابي يتحدث عن عبقرية الدبلوماسية المصرية في تحرير سيناء بجامعة المنوفية    الإصابة قد تظهر بعد سنوات.. طبيب يكشف علاقة كورونا بالقاتل الثاني على مستوى العالم (فيديو)    تأجيل نظر قضية محاكمة 35 متهما بقضية حادث انقلاب قطار طوخ بالقليوبية    الصين تشارك بتسعِة أجنحة في معرض أبوظبي الدولي للكتاب ال33    تأجيل محاكمة مضيفة طيران تونسية قتلت ابنتها بالتجمع    لتطوير المترو.. «الوزير» يبحث إنشاء مصنعين في برج العرب    زكاة القمح.. اعرف حكمها ومقدار النصاب فيها    مايا مرسي: برنامج نورة قطع خطوات كبيرة في تغيير حياة الفتيات    بعد انفجار عبوة بطفل.. حكومة غزة: نحو 10% من القذائف والقنابل التي ألقتها إسرائيل على القطاع لم تنفجر    تردد قنوات الاطفال 2024.. "توم وجيري وكراميش وطيور الجنة وميكي"    طريقة عمل الكيك اليابانى، من الشيف نيفين عباس    صحتك تهمنا .. حملة توعية ب جامعة عين شمس    النشرة الدينية .. أفضل طريقة لعلاج الكسل عن الصلاة .. "خريجي الأزهر" و"مؤسسة أبو العينين" تكرمان الفائزين في المسابقة القرآنية للوافدين    تنظيم ندوة عن أحكام قانون العمل ب مطاحن الأصدقاء في أبنوب    بعد أنباء عن ارتباطها ومصطفى شعبان.. ما لا تعرفه عن هدى الناظر    وزير المالية: نتطلع لقيام بنك ستاندرد تشارترد بجذب المزيد من الاستثمارات إلى مصر    وزير التجارة : خطة لزيادة صادرات قطاع الرخام والجرانيت إلى مليار دولار سنوياً    رئيس الوزراء الإسباني يعلن الاستمرار في منصبه    تجليات الفرح والتراث: مظاهر الاحتفال بعيد شم النسيم 2024 في مصر    أمير الكويت يزور مصر غدًا.. والغانم: العلاقات بين البلدين نموذج يحتذي به    شروط التقديم في رياض الأطفال بالمدارس المصرية اليابانية والأوراق المطلوبة (السن شرط أساسي)    الصين فى طريقها لاستضافة السوبر السعودى    بشرى سارة لمرضى سرطان الكبد.. «الصحة» تعلن توافر علاجات جديدة الفترة المقبلة    السيسي عن دعوته لزيارة البوسنة والهرسك: سألبي الدعوة في أقرب وقت    فانتازي يلا كورة.. دي بروين على رأس 5 لاعبين ارتفعت أسعارهم    إصابة 3 أطفال في حادث انقلاب تروسيكل بأسيوط    رئيس جهاز حدائق العاصمة يتفقد وحدات "سكن لكل المصريين" ومشروعات المرافق    فضل الدعاء وأدعية مستحبة بعد صلاة الفجر    اتحاد الكرة: قررنا دفع الشرط الجزائي لفيتوريا.. والشيبي طلبه مرفوض    مصطفى مدبولي: مصر قدمت أكثر من 85% من المساعدات لقطاع غزة    عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم الاثنين 29-4-2024 بالصاغة بعد الانخفاض    حالة وفاة و16 مصاباً. أسماء ضحايا حادث تصادم سيارتين بصحراوي المنيا    شبانة: لهذه الأسباب.. الزمالك يحتاج للتتويج بالكونفدرالية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فى وداع ثائر محترم
نشر في صباح الخير يوم 01 - 11 - 2011

يصر الخريف على استنزاف آخر قطرات من دموع الافتراق من أعيننا، فها نحن نودع فارسا حقيقيا من فرسان يوليو الأبطال وهو المقاتل أحمد حمروش، بعد أن ودعنا منذ أيام ضحكتنا التى كانت تشع ضوءا، والتى حملت اسم «حجازى الرسام».
ومازلت أذكر خطوات أحمد حمروش إلى دار روز اليوسف عام 1963 وهو يحمل مقالا أسبوعيا إلى أستاذنا إحسان عبدالقدوس، ليرحب به إحسان ويقوم بتعريفنا به كزميل جديد فى دنيا الكتابة، تلك الدنيا التى كان يزينها على صفحات «روزاليوسف» فرسان الثقافة الرصينة بداية من كامل زهيرى الذى قدم لنا سياسات الولايات المتحدة واكتشف الآفة الصهيونية المسماة هنرى كيسنجر فى مقالات منشورة عام 1957، وشارك كامل زهيرى فى إضاءة الوعى كل من الرائع أحمد عباس صالح وسيد شعراء زمانه صلاح عبد الصبور، ومعهم فتحى غانم، أى أننا لم نكن فى حاجة إلى كاتب سياسى جديد، وكنا نفضل لأحمد حمروش أن يظل فى موقعه فى إدارة المسرح القومى، فهو صاحب الإنجاز الوفير فى إحياء مسرح الستينيات، فهو المؤسس الفعلى لمسرح الستينيات الذى مازلنا نفخر به، ونعجز عن إعادة إنتاج مثيل له، ويكفيه أنه قام بتقديم نجوم الكتابة المسرحية بداية من نعمان عاشور ومرورا بميخائيل رومان، وألفريد فرج ولطفى الخولى وسعد وهبة ويوسف إدريس وعبدالرحمن الشرقاوى، فضلا عن تقديم نجوم الإخراج المسرحى مثل نور الدمرداش ونبيل الألفى وكرم مطاوع وسعد أردش، وأضاء المسرح القومى باتساق وانضباط شديدين حتى صارت البروفات لها قداسة العرض المسرحى، وتألقت النجوم بداية بكل شموخ سناء جميل وروعة أداء سميحة أيوب، وسهير البابلى، ومحسنة توفيق، وعبدالرحمن أبو زهرة، حمدى غيث وعبدالله غيث ومحمد الدفراوى، وتوفيق الدقن وعبد السلام محمد وعشرات ممن لو ذكرنا أسماءهم لاحتجنا صفحات وصفحات، وهى النجوم التى مازال إبداعها يتلألأ أمام عيوننا عندما يتذكر التليفزيون أن لنا تاريخا مسرحيا نادرا فيعيد لنا عرض بعض من تلك المسرحيات.
كانت نهضة المسرح المصرى فى الستينيات لها مايسترو أساسى هو أحمد حمرش ولم يكن يهوى الضوء بعد أن ترك رئاسة تحرير مجلة «التحرير»، والتى حملت رؤى اليسار المصرى فى رسم طريق 23 يوليو.
ولذلك عندما جاءنا أحمد حمروش كاتبا سياسيا بروز اليوسف كنا نعلن له بصراحة أننا نفضل له وضع مدير المسرح المصرى بدلا من أن يدخل حلبة الكتابة.
ولكن إرادة جمال عبدالناصر شاءت أن تختار لحمروش بيتا للكتابة، كنوع من تطعيم الدار التى حملت الكثير من النقد لتطبيقات ثورة يوليو، ونقدنا للثورة لم يكن أبداً لكراهيتها ولكن رغبة فى أن تصل إلى الاكتمال. كما أن مجىء حمروش ل«روزاليوسف» كان بهدف ترضية ثائر قام بتكليف من جمال عبد الناصر بالاتصال والتواصل مع ناحوم جولدمان المثقف الذى يحيا بباريس ويرتبط بإسرائيل بحكم الجنسية ويملك أملا فى إقناع ثورة مصر بعقد معاهدة سلام مع إسرائيل، وكانت محاولة جمال عبد الناصر من التواصل مع ناحوم جولد مان هو توفير قناة تواصل مع الخصم استكشاف النوايا.
واستمر أحمد حمروش فى موقع الكاتب السياسى إلى أن فوجئنا ذات نهار من أيام عام 1964 بصدور قرار ينحى إحسان عبد القدوس من منصب رئيس مجلس إدارة روزاليوسف ورئيسا لتحريرها ليكون أحمد حمروش هو رئيس التحرير وجاءنا معه كرئيس مجلس إدارة القاضى الجليل أحمد فؤاد والذى كان يوصف بأنه المدنى الوحيد بين ضباط 23 يوليو، وكان يشغل بجانب رئاسته لمجلس إدارة «روزاليوسف» منصب رئيس مجلس إدارة بنك مصر.
أتذكر اليوم الأول لمجىء الاثنين، وتمت دعوتنا لاجتماع التحرير وقامت محررة لتتحدث محاولة نفاق القيادة الجديدة ببدء هجوم على سياسة الأستاذ إحسان، فما كان منى إلا أن استأذنت طالبا الخروج من الاجتماع لأنى لا أقبل أن يكون أول اجتماع لنا مع قيادات جديدة هو النيل بأى شكل أو بأى صورة من أستاذنا إحسان عبدالقدوس، فما كان من أحمد حمروش إلا أن استأذن رئيس أحمد فؤاد وطلب من المحررة أن تخرج من الاجتماع لأن إحسان عبدالقدوس قيمة وقامة لايمكن النيل منها أو من نبلها. وهكذا ارتاح جميع المحررين.
وكنت أنشر فى ذلك الوقت على صفحات روزاليوسف أول حلقات مسلسلة بعنوان «عشر نساء» أستعرض فيه حكايات عشر حالات أنثوية فى العيادة النفسية.
وأتذكر أن أحمد حمروش لاحظ أنى أخلط الطب النفسى بالسياسة وأقسو أحيانا على جمود اليسار، ولا أرى فارقا بينه وبين جمود المتعصبين، فسألنى «لماذا تقسو على اليساريين وأنت محسوب عليهم؟» أتذكر أنى قلت له «إن بعض اليساريين يتطابقون عندى مع غلاة المتعصبين من الإخوان المسلمين أو غيرهم، فضلا عن أنى لا أغفر لبعض قوى اليسار رضوخها الكامل لكل ما هو قادم من موسكو، فإذا كنا نريد أن نقيم عدلا فى مجتمعنا فلن نقيمه بطريقة الحزب الشيوعى الروسى، كما أنى أتمنى أن ندرس الخريطة الاجتماعية المصرية بشكل واقعى كى لا نضع قالبا نصب فيه مجتمعنا». أتذكر ابتسامة الأستاذ حمروش لحظتها وهو يقول لى «فيما يبدو أن إحسان عبدالقدوس قد أفسدك بالسماح لك بالسفر إلى باريس وأنت لم تتجاوز الثالثة والعشرين، وعلى كل حال سأواصل أنا إفسادك وأسمح لك بالسفر إلى باريس مرة أخرى شرط أن تقدم لمجلة روزاليوسف مسلسلا جديدا لك أن تختاره وأن تدرسه جيدا وتكتبه بما يرضيك وعلى مزاجك»، وفى هذه اللحظة دخل علينا مخترع ومكتشف المواهب الجليل حقا وصدقا النفان حسن فؤاد وهو من يعلم عمق صداقتى مع الفنان العالمى السكندرى سيف وانلى، فقال حسن فؤاد «إن كتبت لنا تاريخ سيف وانلى وأقنعته أن يرسم هذا التاريخ بريشته وألوانه فمن حقك طبعا أن تسافر إلى أى مكان فى الكرة الأرضية».
قال حسن فؤاد ذلك وهو يعلم قدر خلافاتى مع تيار معين من الشيوعيين المصريين الذين خرجوا من المعتقل، وهو من همس فى أذنى «أنت لا تعلم ماذا فعل المعتقل بالرجال، لذلك كن رحب الصدر عندما يضايقك جمود أحدهم».
وبالفعل أخذت القطار إلى الإسكندرية لأبدأ فى جمع مذكرات سيف وانلى وأرصد من خلاله حركة المجتمع المصرى منذ عام 1906 عام ميلاد سيف وانلى وحتى عام 1964، ولم يكن أحمد حمروش يسمح لى بالسفر إلى الإسكندرية دون أن أسافر محافظة أخرى من محافظات مصر بين كل رحلتين إلى مدينة ميلادى الإسكندرية، وعندما سألته «لماذا هذا الإصرار على الرحيل إلى سوهاج أو أسيوط أو قنا أو أسوان أو المنصورة أو دمياط؟ كان يقول لى مبتسما «ألم يكن رجاؤك وحلمك أن يدرس كل مثقف بلده على أساس واقعى؟ ها أنا ذا أتيح لك تلك الدراسة عبر التحقيقات الصحفية الاجتماعية والسياسية التى تقدمها فى «روزاليوسف»، وفى نفس الوقت تدرس التاريخ الاجتماعى لرحلة فنان مصرى عظيم هو سيف وانلى، وبذلك ستضمن لنفسك رحلة ثانية إلى باريس.
أتذكر فى ذلك الزمن أن جاء الباليه الروسى العظيم «البولشوى» ومعه البالرينا المشهورة جالينا أولنوفا، كى تقدم خليفتها المعجزة فى دنيا الباليه، وهى «مايا بلستسكيا» ويومها قال لى أحمد حمروش «ستشهد معنا أول حفل باليه وسأقدمك لجالينا أولنوفا، أنت وأستاذك الذى تحبه كامل زهيرى».
وعندما دخلنا دار الأوبرا القديمة قبل احتراقها- أستاذى كامل زهيرى وأنا- لمحنا أحمد حمروش فترك الجماعة التى كان يقف معها وجاء إلينا ليصحبنا إلى سيدة عجوز متهالكة لا تكاد تقوى على القيام من الفوتيل الذى تجلس عليه، وبجانبها مترجم من الروسية، ورحبنا بها فى مصر، وأبلغتنا أننا سنشاهد الليلة معجزة من معجزات صناعة البالية وهى «مايا بلستسيكيا»، وقضينا ليلة من ليالى العمر المعدودة مع «باليه بحيرة البجع»، والتى يعتبر الرقص فيها درسا فى كيفية تزاوج الموسيقى مع حركة الجسد. وعند نهاية الحفل ذكرنا أحمد حمروش بأن الغد يحمل فرقة أوبرالية إيطالية سوف تقدم أوبرا لا ترافياتا، ولم أكن قد حضرت من قبل أى حفل أوبرالى، لذلك صممت على الحضور بينما اعتذر أستاذى كامل زهيرى لارتباطه بموعد آخر. ؟؟
وما أن بدأ نشر تاريخ حياة الفنان سيف وانلى على صفحات روزاليوسف حتى كانت تذكرة السفر بالطيران إلى باريس ذهابا وعودة موجودة فى جيبى، ولكن العقبة كانت فى استخراج إذن السفر، فلم يكن مسموحا بالخروج من مطار القاهرة إلا بإذن شخصى من رئيس الجمهورية أو من يفوضه الرئيس جمال عبدالناصر. وكان بينى وبين سفير مصر فى باريس معركة انتهت بهزيمة السفير وانتصارى، على الرغم من أنى أهنت الرجل بصريح العبارة من أن جمال عبد الناصر ظلمه بتعيينه سفيرا فى باريس وكانت الوظيفة الوحيدة التى يصلح لها هى جرسون يقدم القهوة فى جامع عمر مكرم. وطبعا كانت جراءتى فى ذلك الزمان مستمدة فى إحساسى بأن صلتى بجمال عبد الناصر لا تقف عند صلة زعيم بواحد من أفراد شعبه، بل كانت محبة مخلصة لأهداف ثورة يوليو، كما أن لى صداقات أعمق من خيال السفير مع مكتب جمال عبد الناصر شخصيا، لأنى لأسباب كثيرة ولعل أهمها فى تلك الفترة أنى ببساطة وقعت مرتين تحت وطأة تحقيقات بخصوص تحقيقات كتبتها عن تسرب الإقطاع إلى ثورة يوليو، وكيف أن عائلة واحدة فى المنصورة - وهى العائلة التى قامت فيما قبل بتسليم عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية إلى الإنجليز - هذه العائلة كانت تقوم بإقراض الفلاح الجنيه الواحد بفائدة تصل إلى أربعة جنيهات، وهى من تغلغلت فيما قبل الثورة بصلات نسب وقرابة مع أغلب رموز الأحزاب، وهى أيضا من كان لها نسب وقرابة مع قائد الحراسة الخاصة للمشير عبدالحكيم عامر. وكتبت عنها التحقيق الصحفى الذى وثقته بتوقيع كل الفلاحين الذين اقترضوا منهم نقودا. ولم أكن أعلم أن إذاعة دمشق فى ذلك الزمان كانت تترصد القاهرة بعد وقوع الانفصال، ولم أكن أعلم أن إذاعة دمشق ستذيع التحقيق الصحفى الذى كتبته وأن جمال عبدالناصر سوف يسمعه ،ليأمر بالتحقيق فى الوقائع، فوجد أن ما كتبته حقيقى وصادق، فحدثنى من مكتبه من يوجه لى الشكر ومن يخبرنى بوضع الحراسة على تلك العائلة ومصادرة أراضيها المهربة من الإصلاح الزراعى وتوزيع تلك الأراضى على الفلاحين.
وعندما طلبت الإذن بالسفر إلى باريس توقعت أن يرفض الدكتور عبد القادر حاتم وهو الموكل من قبل الرئيس عبدالناصر بالموافقة على سفر الصحفيين. ولكن التليفونات دارت وفعلت فعلها بين أحمد حمروش وبين مكتب حاتم فجاءنى الإذن بالسفر لأحصل من بعد ذلك على تأشيرة دخول باريس وأسافر لألقى حبيبتى التى كانت تدرس هناك، ولألتقى أيضا برموز الثقافة الفرنسية بداية من ماكسيم رودنسون الفيلسوف الكبير ومرورا بكبار رجال الصحافة هناك مثل جيل مارتنيه وكلود إستيه وأندرييه عضو المكتب السياسى للحزب الشيوعى الفرنسى، وطبعا لا أنسى أبدا الدور الذى قام به د. على السمان فى الترجمة الدقيقة بينى وبين كل من التقى من المثقفين الفرنسيين. ومازلت أتذكر مكتب مدير مكتب ديجول لشئون البترول بشارع الشانزلزيه وهو من كان يتقن اللغة العربية بأكثر من ثمانى عشرة لهجة من لهجات الأمة العربية، وكانت الدوسيهات الموجودة على مكتبه صيف عام 1965 نصفها مكتوب عليه «ليبيا» والنصف الآخر مكتوب عليه «العراق»، وكان من المعروف أن لفرنسا تدخلات وصلات بأكراد العراق منذ تاريخ قديم.
عدت من باريس بحصيلة رحب بها كل من أحمد حمروش الذى كان يرأس تحرير «روزاليوسف»، وفتحى غانم الرائع بغير حد والذى كان يرأس «صباح الخير».
وبعد أن فرغت من كتابة ما عندى من رحلة باريس، فوجئت بتليفون من مكتب السيد شعراوى جمعة، وكان يشغل أيامها منصب وزير دولة برئاسة الجمهورية، وذهبت إلى لقائه، وكانت صداقتى معه أكثر من عميقة منذ أن كان محافظا للسويس. وقال لى شعراوى جمعة إنه اختارنى لأكون من هيئة مكتب تنظيم سياسى ينشئه جمال عبدالناصر باسم «طليعة الاشتراكيين»، وأنى سوف أقوم مع السيد محمد عروق وكان مديرا لصوت العرب بتسلم أوراق هذا التنظيم الذى تم تأسيسه منذ عامين، وسنتسلم أوراق هذا التنظيم من أحمد فؤاد و أحمد حمروش. أتذكر أنى قلت للشعراوى جمعة أن حياتى الخاصة لا تجعلنى قابلا للرضوخ لأى قواعد تنظيمية، فأنا لا أحيا مع القيود، وأنا ابن روحى لإحسان عبد القدوس الذى يقدس حرية الفنان على أسلوبه السياسى.
وتفهم شعراوى جمعة ذلك، رغم أنه رشحنى لأكون من أوائل من ينضمون إلى المعهد الاشتراكى، وذهبت هناك لألتقى بكل من أستاذ التاريخ الجليل محمد أنيس وأستاذ الاقتصاد المحترم د.إبراهيم صقر، ومعهما صديقى الرائع أمين عز الدين المؤرخ الأمين لحركة العمال فى مصر.
وبعد أن أديت الامتحان الشفهى أمام الثلاثة رجوتهم أن يقبلوا اعتذارى عن الدراسة بالمعهد لأنى لن أضيف بتواجدى فى المعهد أى إضافة. واندهش الجميع من موقفى هذا إلا أحمد حمروش الذى قال لهم «يحب حياة الطائر ويكره أى قفص، سواء اجتماعى أو سياسى». وتقبل أساتذتى ذلك برحابة صدر وعدم تصديق لأن شابا مصريا يعلم أن خريطة الترقى بالحياة المعاصرة لابد أن تمر عبر هذا التنظيم أو هذا المعهد. ولكنى كنت أصدق حدسى من أنى لا أطيق أى قيود.
جاء أحمد بهاء الدين رئيسا لمجلس إدارة روزاليوسف مع بقاء أحمد حمروش رئيسا للتحرير. وأتذكر أن أحدهم وشا بى عند أحمد بهاء الدين فتم تأجيل علاوتى السنوية، ومازلت أتذكر كيف كان تأجيل العلاوة هو القشة التى قصمت ظهر قصة حب أساسية فى حياتى. وحدثنى أحمد حمروش من أنه كتب علاوتى، ولكن أحمد بهاء الدين أصر على حرمانى من العلاوة بسبب الضجيج الذى أحدثته أنا أثناء حوار لى مع رئيس اللجنة النقابية، واتهمته فيها بالجهل فهاج رئيس اللجنة النقابية وماج، وخرج أحمد بهاء الدين من حجرته ليزجرنا، فلم أرتح لذلك، وتركته واقفا فى مكانه لأتجه إلى مكتبى. وهنا تدخل كامل زهيرى ليصلح بينى وبين أحمد بهاء الدين الذى قال لى أنى سأعمل تحت قيادته لمدة شهرين فإن أثبت جدارة فلسوف يعيد لى العلاوة بشكل أفضل مما كانت عليه. وبالفعل عملت تحت قيادته لمدة شهرين ليمنحنى العلاوة مضاعفة، تناولتها وأنا أكتم دموعى فقد انكسرت فرصة الدخول إلى جمعية بمائتى جنيه من أجل أن أدفعها مقدمًا لشقة أعيش فيها مع قصة الحب. ولم أبلغ أحدا بذلك إلا أن أحمد حمروش قال لى يومها «سيأتى لك يوم تلتقى فيه مع من تحب ويصير لقاؤكما تذكارًا رائعًا لأيام مضت بحلوها ومرارتها».
فى منتصف مايو من عام 1967 كان قرار إغلاق خليج العقبة، وكان أحمد حمروش هو أول من قال «إن هذا القرار يعنى الحرب مع إسرائيل. فهل نحن مستعدون؟».
وأثبتت الوقائع أننا لم نكن مستعدين وأن الانكسار الجسيم كان نتيجة حقيقية نستحقها لأن قائد جيشنا عبد الحكيم عامر لم يكن يليق بمنصبه.
ودارت أيامنا لنعيد بناء القوات المسلحة، وكان الثبات هو السمة الهائلة التى يثق بها أحمد حمروش من أن النصر قادم لا محالة.
وأطل عام 1970 لأتزوج ويقول لى العم محمود السعدنى «طال فراقك عن صباح الخير وعليك أن تعود سكرتيرا لتحريرها بعد أن أغلقت دكاكين الغرام الملتهب التى كنت تعيشها وأنت فى روزاليوسف». واستأذنت أحمد حمروش فى ترك الباب الذى كنت أكتبه وهو «جراح قلب» ب«روز اليوسف» لأبدأ فى «صباح الخير» من جديد وهى المجلة التى تم تعيينى كمحرر بها فى أغسطس من عام 1960 وكان فتحى غانم هو من أصر على تعيينى ضمن هيئة تحريرها، وإن كنت أمارس عملا فى كل المجلتين منذ بداية تعيينى، ولكنى اكتفيت بالعمل فى روز اليوسف منذ عام عام 1965، ولعلى وحدى من أبناء جيلى الذى توزع تاريخه الصحفى بين المجلتين. ولم تفتر أبدا علاقتى بأحمد حمروش وكانت ابتسامته ذات ضوء أثير لا يعرف الضغينة.
وعندما جاء السادات أيقنت أن أحمد حمروش لن يظل بيننا، فأحمد حمروش رجل منظم هادئ لا يقبل السير بأستيكة على محاولة إقامة العدل الاجتماعى الذى أسسه جمال عبد الناصر. وكان هو أول المتنبئين بذلك التحول على الرغم من تعيين الشاعر الكبير عبد الرحمن الشرقاوى بديلا لكامل زهيرى فى رئاسة مجلس إدارة روز اليوسف، وصار أحمد حمروش كاتبا متفرغا بالمجلة.
وعندما تولى فتحى غانم مع صلاح حافظ رئاسة تحرير «روزاليوسف» شهدت المجلة انتعاشا هائلا.
وكان حسن فؤاد بقيادته ل«صباح الخير» ينعش المجلة الشابة بمذكرات عبدالحليم حافظ التى كتبها صاحب هذه السطور. وبلغ توزيعها فوق الخيال لأى مجلة عربية مطبوعة، مما جعل فتحى غانم يطلب دراسة عن تلك الظاهرة التى فاقت كل توقع.
وكان أحمد حمروش قد انتقل إلى قيادة التضامن الأسيوى الأفريقى، ولم يترك موقعه ككاتب فى روز اليوسف.
وياليتنا نقرأ ما كتبه عن تأريخ ثورة يوليو فى ثمانية مجلدات لم يعد لها ناشر حالى، وأتمنى أن تصدر من أى جهة فهى اعترافات كل من شارك فى ثورة يوليو..
منذ عدة أسابيع اتصلت به كى أسمع صوته ففاجأنى بصوت به دموع. وكنت أعرف أن قلبه انشرخ خلال الأعوام الأخيرة مرتين، مرة عندما فقد ابنه علاء وهو صاحب دراسة علمية هائلة عن فلسفة ابن خلدون، ومرة ثانية عندما فقد ابنته نادية المقيمة بالكويت.
وعندما سألته: لماذا يختنق صوتك هكذا؟
أخبرنى بنبأ جسيم وهو افتقاده لشريكة العمر زوجته الطيبة الودود.
ولم أجد كلمات أعزيه بها، فقد كنت أعلم عمق الصداقة بينه وبينها عبر الأفراح القديمة والأحزان المتجددة.
وها هو نبأ رحيله يزعجنى، فهو كما كان من أصدق المؤرخين لثورة يوليو، فضلا عن أنه- على المستوى الشخصى- كان واحدا ممن قاموا بتأليف التفاصيل الكثيرة فى حياة من عملوا معه- وأنا منهم- ولم يبخل على أحد بفرص النمو حتى وإن أزعجوه كثيرا كما كنت أفعل وكان يستقبل إزعاجى بابتسامة لها نور صاف شفاف.
وأقول أخيرا: ارحمنا أيها الموت قليلا من قسوتك علينا بفراق الأحبة، فهل تسمعنى أم تظل أذناك مقفولتين على تنفيذ ما عندك مكتوب باللوح المحفوظ؟ على أى حال أنا أنتظر الشماتة فيك أيها الموت عندما تقوم القيامة وسيأتى بك المولى خالق العالم ليذبحك أمام كل من سرقت منا حياتهم وارتويت أنت بدموعنا على فراقهم، وإلى أن يحدث ذلك يبقى سؤال بلا إجابة: لماذا لانتذكر من أضاءوا حياتنا بشموع الإخلاص إلا عندما نفقدهم بالموت؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.