كل ما يجرى فى السماء العربية عبر الفضائيات يدخلنا فى دائرة الدهشة والاستغراب! ومصدر هذه الدهشة أننا اعتبرنا التليفزيون (دمية) أو (صندوق عجائب) نحركه كما نشاء بقصد توجيه الرأى العام يميناً أو شمالاً؛ دون الوعى بالدور الأساسى للتلفزيون! فهنالك ساعات تهدر من البث على استقبالات رسمية ؛ وساعات أخرى على مقابلات هشة؛ أو الرد على رسائل الهاتف (SMS) أو الفاكسات أو البريد الإلكترونى؛ دونما اعتبار لخصوصية التليفزيون كجهاز يعتمد على تحرك الصورة مع الاهتمام فقط بالربح السريع والاجتراء على قدسية الكلمة والصورة. مع إقصاء النخب الحقيقية؛ والاحتفاء فقط بالخصوم السياسيين من ذوى الصوت العالى، حسب درجة السخونة فى العلاقات السياسية بين الدول، والحرص على ظهور نماذج هشة من المتصلين ورسائلهم نتيجة التهافت الفضائى على مؤهلات المظهرية وعدم الاهتمام بالتدريب. هذه هى مسوغات الدهشة.. ولكن السؤال الأهم.. هل تؤسس هذه الفضائيات لفكرٍ جديد؟ بالطبع لا ننكر دور الفضائيات فى إيصال المعلومات السريعة للجمهور، خصوصاً بعد البث الفضائى الذى شهدته المنطقة العربية بدءاً من العام 1990 الذى بدأت فيه الفضائية المصرية وبعدها مركز تليفزيون الشرق الأوسط (MBC) لتأتى الجزيرة وتعلن الثورة المرتقبة فى الفضاء العربى، تلك الثورة التى أحبها كثيرون وخاصمها كثيرون، وبعدها انطلقت العربية ثم الإخبارية، اللتان جاءتا كند للجزيرة. ولا ننكر أيضاً أنه قد حدثت نقلة نوعية فى البث بعد ظهور الفضائيات شبه ''المتحررة'' من روتين الدولة. وعُرفت فضائيات محددة بفعل برامج معينة تبثها، أو مذيعين معينين فيها. وزادت مساحة الحرية ؛ وظهر جيل من المعدين والمذيعين والمخرجين. وتفنن المعدون فى تقديم برامج (إثارة) وشجارات؛ بل ولقطات «الشوارع» التى شوهت الفضاء العربى. بل استعذب بعض المعدين مناخ الحرية ليقدم برامج حميمية جداً تصل إلى حد الدخول فى دائرة العيب الاجتماعى أو المحظور القيمى عندما يتم تقديم برامج تمس غرف النوم أو خصوصيات بيولوجية فى الإنسان! بل إن الشاشة العربية بدأت تشهد كلمات ورسائل كانت محظورة فى الإذاعة أو الصحافة. كل ذلك أثّر على الفكر الجديد للبث فبالطبع زاد وعى الجماهير بقيم الحرية والرأى الآخر- التى كانت محظورة قبل عشر سنوات- وتنوعت مصادر المعلومات. وانكشف زيف بيانات وزارات الداخلية حول الأحداث التى تنفيها هذه الوزارات فى بعض البلدان ؛ وقلت ثقة الجماهير فى مصداقية ''الشحن السياسى'' بوجود نقائض لذلك الشحن. والدليل ماحدث من اندلاع ثورات الشعوب العربية الواحدة تلو الأخرى ولايمكن إنكار دور هذه الفضائيات فيها. ولكن أين الثقافة من كل هذه القنوات؟ وكم من الميزانيات تخصص للبرامج الثقافية؟ و ما هى نسبة هذه البرامج بين ساعات البث اليومى؟ فى مقابل الساعات الترفيهية التى تتسيد الموقف سواء فى الفضائيات الخاصة أم الرسمية! ثم هل ساهمت تلك الفضائيات فى إيصال الثقافة العربية أو تأصيل وجودها فى المجتمع العربى؟ بل ونقلها إلى الآخرين!! بل هل فكر ''الفضائيون'' بدورهم فى إيصال الرسالة العربية الصالحة للآخرين؟؟ إذن ، ذلك هو الواقع ؛ وتلك هى ظروف العمل الثقافى فى الفضائيات! فماذا نحن فاعلون؟ سؤال تختلف الإجابة عنه!! ولكن أعتقد أننا يجب أن نتفق على عدة نقاط منها: أن غياب السياسات الثقافية الواضحة أحد أهم الأسباب التى تؤدى إلى تدنى وجود الثقافة فى البث الفضائى.وأن عدم تلاقى أو تعاون مؤسسات الثقافة مع المؤسسات الإعلامية.يعتبر مؤشرا سلبى رافق الإعلام العربى منذ بدايته وقبل الفضائيات.أيضاً هجمة مفاهيم الإثارة والتشويق (الغربية) فى الصورة والنص. كانت سبباً مباشراً فى تنميط المشاهد العربى؛ بل و''هيأته'' للاستعداد أو الترقب للوصول إلى الأغرب والأكثر إثارة ؛ بعد أعوام طويلة من البث ''الديكتاتورى'' الذى فرضته الدولة على المجتمع.أيضاً إحجام الإعلان ومؤسساته عن رعاية البرامج الثقافية ؛ وذلك لتدنى جودة هذه البرامج ؛ وتهافت المحطات الخاصة على الربح السريع عبر آليات الترفيه والإثارة. كل هذا مع ضعف وتدنى الميزانيات التى تخصص للبرامج الثقافية والفكرية؛ وتردد المحطات الخاصة فى الدخول إلى مناطق الإنتاج الجيد والمكلف مثل قنوات (ديسكفرى- ناشونال جيوجرافيك- والجزيرة الوثائقية) كل هذا جعل حضور الثقافة فى الإعلام يقتصر على المناسبات والمهرجانات المحدودة؛ وعدم الاهتمام بالثقافة الشعبية التى شوهتها بعض الممارسات الإعلامية؛ خصوصاً فى منطقة الخليج العربى، وأخيراً وليس آخراً، تشكيل المجتمعات العربية على ثقافة «رفض الآخر». هذه على ما أعتقد أهم ملامح أو أسباب غياب الثقافة فى الفضائيات. وأدعو من هنا إلى عمل (تشريعى- إدارى- تقنى) لإعطاء الثقافة مساحة أوسع فى البث الفضائى، ومنه إلى المجتمع العربى ككل.. وربما يكون ذلك بداية لتنمية ثقافية وحضارية شاملة تعيد لنا مكانة ضاعت خلال العقود التى ولت.