في رواية «سبتمبر» للروائية الشابة الموهوبة «أمنية الخياط» نري ظهورا قليلا للسيدة التونسية «عيشة» مع الفتاة المصرية «خلود» التي تستأجر غرفة في بيتها بالعاصمة التونسية «تونس»، حيث روت التونسية للمصرية مع السطور الأولي للرواية عن وفاة زوجها الحبيب، ثم سفر ابنها الوحيد الذي مازالت تنتظره رغم انقطاع أخباره بعد سفره منذ سنوات للعمل في الخارج. في حين نري التواجد الأكثر حضورا هو لبطلة الرواية «خلود» التي تروي لأوراقها تفاصيل حكايتها مع الحبيب الأول الذي اختار عدم الارتباط بها، كذلك مشروع الحبيب الثاني الذي قطع العلاقة بها من قبل أن تبدأ، إلي أن تفاجئنا البطلة قرب نهاية الرواية عن اكتشافها بالصدفة أن «عيشة» السيدة التونسية تعلم وبالأوراق الرسمية أن ابنها قد مات، لكنها تحكي طوال الوقت عنه وعن أملها في عودته بالرغم من علمها بوفاته، فتطرز المؤلفة عبر تلك المعلومة التي تصطدم بها بطلة الرواية كيف أنها هي نفسها تعيش مع الحب الذي كان علي الرغم من علمها بأن الذي يموت لا يعود، فيكتشف القارئ أن الرواية تتجاوز بكثير ما يظنه القارئ للوهلة الأولي من أنها مونولوج طويل لقصة فتاة تحكي رحلتها في البحث عن اختيار الزوج المناسب. فالفكرة عميقة وفلسفية لكن المؤلفة استطاعت أن تقوم بصياغتها بانسيابية أقرب إلي ما يحدث لنا مع صديقة عزيزة سافرت، وحين عادت من السفر جلست تحكي، فعبر الرواية تبدو السطور وكأن البطلة تتحدث أمامك وأنت تسمع، تسترسل فتحرص علي ألا تقاطعها، تستطرد فلا تؤاخذها، تضحك فتكتشف أن الضحك كان تعبيرا بالفعل عن تجديد الفرح تجاه الأمر المفرح الذي استعادته الذاكرة، أوتبكي تجديدا لحزن سابق موشوم بالدمع والآهة والعبرة والتأثر. كأن صديقة بريئة تروي بتلقائية عن سلاسة مشاعر أول حب، أول نظرة، أول همسة، أول ابتسامة. إلي أن تلخص زلزال نهاية قصة الحب في جملة عبقرية هي: «يذهب الحب، وتبقي الأحلام، كرسالة أرسلت لهاتف مغلق، أرسلتها ولكنها لن تصل». وتأخذها تأملاتها حول الزواج والنصيب فتكتب هذه الجملة العميقة: «إن الله لن يصيب مؤمنا بشر سوي بقصد الخير في النهاية. إنه قياس للصبر إذن، قياس لأصحاب النفس الأطول، والإيمان المطلق. فحين يتقبلون هذا المكروه بصدر رحب وإيمان قوي يمنحهم الله جزاء صبرهم خيرا». إنها رحلة البحث عن الذات بعيدا عن أماكن الإقامة المعتادة. رحلة تلمس العلاقة بين الابتعاد حين يزيدنا قربا، والمسافات المناسبة حين تسمح بأن نري ما نقف أمامه كاملا. هو تأمل توقفت عنده المؤلفة وهي تروي حالها خلال بدايات قصة حبها، وحبيبها إلي جوارها بالقرب من معبد نفرتاري علي مسافة تسمح برؤيته كاملا، حيث عقبت المؤلفة علي فكر المسافة المناسبة بقولها «كم احتجت من السنين لأدرك قصتي له من البعد المناسب». منذ الصفحات الأولي سجلت البطلة أنها قد كتبت هذه المقتطفات من أيامها عبر استخدام آلة كاتبة قديمة اشترتها باعتبارها «أنتيك»، ثم أفصحت عبر الصفحات التالية أن هذه الآلة الكاتبة القديمة قد ساعدتها علي الانطلاق في الكتابة دون تراجع، باعتبار أن تصميم الآلة الكاتبة القديمة علي حد تعبيرها لا يتضمن زرا يمحو ولا قلما يشطب. الرواية تسري بين سطورها موسيقي كلاسيكية تنثر الروائية أمنية الخياط أسماء مؤلفيها في عناوين الفصول، وبين ثنايا الأحداث، وهي أسماء يتكرر بعضها، وأيضا تكرر «خلود» عبر الرواية جملة عميقة جاءت علي لسان «عيشة»: «حين تبدأ الأمور لا يكون في بالنا لحظة كيف ستتطور وتنتهي، ففي خضم سعادتنا بالحب لا نعرف أن الفراق قد يطولنا». وكلما اقتربنا من نهاية الرواية نكتشف طعم الاختيار غير العفوي لاسم البطلة المصرية «خلود»، والتونسية «عيشة»، وأيضا يتكشف لنا مذاق اختيار «سبتمبر» كعنوان للرواية بما تمثله سيرة الخريف من معاني الذبول والغيوم والتهدل، إلي أن يكتشف القارئ قرب النهاية أننا ونحن نروي عن الماضي فلابد أن نفعل ذلك كي نساعده علي أن يمضي ويذبل وندوس أوراقه الجافة كي ننطلق في حاضر جديد باتجاه مستقبل مشرق.