حسناً فعل قطاع الإنتاج بالتليفزيون المصرى بعرض حياة د.على مصطفى مشرفة أعظم علماء العرب مسلسلة طوال شهر رمضان الماضى أسوة بأشهر الفنانات وعالمات شارع محمد على رغم أنه شتان بين حياة عالم مثل د.مشرفة وحياة عالمة من أمثال سمارة وأخواتها.. وبينما كان التليفزيون المصرى يعرض لحياة هذا العالم الجليل عادت بى الذاكرة إلى كتيب صغير الحجم قليل الصفحات وجدته فى مكتبة والدى رحمه الله فى بداية مشوارى إلى الجامعة التهمته فى أقل من ساعتين قراءة والذى كان بداية تعارف بينى وبين هذا العالم الذى ذكر اسمه على استحياء فى كتاب الفيزياء فى المرحلة الإعدادية كعالم عربى وحيد سجل التاريخ اسمه فى الموسوعات العالمية وقد استعدت مشاعر الفخر وأنا أقرأ سطور هذا الكتاب الذى اصفرت أوراقه ولم يفقد أهميته رغم مرور السنين. بحثت عن الكتاب وسعدت عندما وجدته بين مجموعة كتبى الأثيرة وقررت أن أشركك عزيزى القارئ متعتى به. نادرا.. ما يترك العالم معمله ليمسك بالقلم مدونا أفكاره وتأملاته فى الحياه والبشر.. ولكن د.مصطفى مشرفة فعلها وهو لم يزل شابا يافعا غريرا لا يزيد عمره على التاسعة عشرة. ولكن ما يدعو للفخر والتأمل حقا أن تحوى هذه المذكرات كل هذا القدر من النضج والعمق والاستنارة.. إنها يوميات شاب نابه متقد بالحماسة مفعم بالذكاء وقوة الملاحظة فى مرحلة انتقاله من وطنه مصر، إلى وطن آخر من أجل العلم فيحرص على أن يأخذ بأسباب التفوق من أجل بلده مصر. فى أچندة إنجليزية من ذلك النوع الذى نعرفه ونتعامل به الآن، حيث لكل يوم من أيام السنة صفحة مستقلة، سجل د.مصطفى مشرفة يومياته باللغة العربية بدءا من اليوم الأول من يناير عام 1918، وتوقف عنها فى اليوم العاشر من يوليو 1918، فضلا عن بعض اليوميات المتناثرة فى بعض الأيام فى سطور أقرب إلى شكل المفكرة التى يسجل فيها صاحبها ما فعله فى يومه أو ما ينتوى فعله فى وقت محدد من اليوم. المهم أن هذه اليوميات تكشف عن نزعة ليبرالية مبكرة لشاب تربى تربية محافظة، ولكنه حرص على أن يعمل عقله وفكره وهو ينتقل إلى بيئة مختلفة ويكشف عن ذلك من خلال أحاديث دارت بينه وبين بعض الإنجليز والأيرلنديين حول موضوعات شتى مثل المرأة والتدخين وعلاقة الروح بالجسد وغيرها. ونلحظ بوضوح حس د.مصطفى مشرفة الفنى الذى نضج وتبلور فى إدراكه للفنون التعبيرية والفنون التشكيلية وكذلك أثر الفن فى التربية الوجدانية للشعوب، بل أكثر من ذلك، حيث كان يفكر فى توظيف الفن لخدمة الدين مثلما كان يفعل البريطانيون، فيقول «يا حبذا لو عمد فى مصر إلى استعادة لأيام الإسلام فى المؤلفات والروايات التمثيلية والكتب والمدارس بدلا من النسج على منوال الغربيين نسجا أعمى». كان صاحبنا لا يعرف من أمر السياسة شيئا قبل أن يسافر فى بعثته إلى لندن ولم يكن يرى مثل أغلب المصريين فى تبعية مصر لدولة الخلافة العثمانية أمرا غير طبيعى وذلك بحكم عقيدته الإسلامية وذلك قبل ثورة 1919 التى نبهت المصريين إلى وطنيتهم ووطنهم، ومع هذا فإن د.مشرفة فى تصويره لانطباعاته الوطنية يعبر عن لمحات ذكية فى إدراك طبيعة الاستعمار وطبيعة النزاعات الوطنية فينتقد ما رآه من روح أنانية فى تصرفات المستعمر البريطانى لمصر ومن هذا ما يرويه عن اعتراضه على مشروع يستهدف جلنزة المحاكم المصرية، ثم هو يتأمل فى مجريات السياسة الدولية ويصل إلى اقتناع بأن السياسى لا يمكنه أن يحقق النجاح على الدوام فيقول «قلما يفلح أحد السياسيين طوال حياته، فهو إن لم يخنه ذكاؤه خانته الظروف وإن لم تخنه الظروف خانه الناس والأعداء، أو خانه أصدقاؤه وأخصاؤه. وعندما سافر د.مشرفة إلى بريطانيا لم يتعامل مع الحياة هناك بمفهوم المواطن الانجليزى، ولا بمفهوم السائح العابر أو الضيف المنعزل عن الحياة فى هذا المجتمع الجديد عليه، ولكنه عاش وتعايش مع الحياة البريطانية، وأحس بما فيها من معاناة فى الوقت الذى احتفظ فيه لنفسه بأصوله وبغربته عن المجتمع الذى يعيشه، وقد تأمل الحياة الحزبية التى كانت شيئا جديدا عليه بروح منصفة، وإن كانت لا تخلو من تحكيم العقل بالقدر الذى يمكن إدراكه من قبل عقل شاب لم يتجاوز العشرين، خال من التجارب السياسية والحياتية، منها ما كتبه تعبيرا عن إحساسه بمعاناة البريطانيين من آثار الحرب، وكذلك تعبيره عن الأزمات التموينية التى عانى منها البريطانيون بسبب هذه الحرب، ومنها ما يبدو فى إشادته بسلوك أحد الأساتذة الكبار فى التودد والخلق الكريم، إذ يقول: «أجمل به خلقا فى الأستاذ بارتن اليوم، إذ دخل علينا فصافح كلاً منا على حدة يداً بيد، أليس هذا الرجل يتخلق بالفضائل الإسلامية من حيث لا يدرى؟ قلت عجبا لمن يأمرهم دينهم بحسن الخلق وفى نبيهم عليه السلام قدوة كاملة لهم ثم يبزهم الغربيون فى محاسن الخلق». يسجل د.مشرفة انطباعاته بعد قراءة عابرة فى تاريخ الثورة العرابية ونحن نراه يدرك من خلال هذه القراءة ما هو أهم من مجريات الثورة، وهو المفكر المستنير للشيخ محمد عبده الذى كان قادرا على أن يستشرف المستقبل، حيث يقول «لقد كان لما قرأته هذا المساء من تاريخ الثورة العرابية أثر كبير فى نفسى وبدأت أفقه ما كانت عليه مصر فى تلك الأيام وما هى عليه الآن وقد تطورت بها الأحوال، رحمة الله عليك يا محمد عبده، لو أن فى مصر اليوم من أمثالك بضعة رجال!». يبدو أن هذا العالم كان يعد نفسه لدور وطنى سياسى وليس علميا فقط لولا أن القدر لم يمهله، رحمه الله وعوضنا عنه خيراً من شباب مصر العظيمة.