حالة من الحماس والاحتشاد الممزوجة بالحيرة انتابت كل من فى بيتنا... وبيوت من أعرفهم.. ومن لا أعرفهم.. الكل مهموم باتخاذ القرار النهائى بشأن التعديلات الدستورية، وفى سبيل ذلك الكل بدأ يذاكر.. ويركز.. يمسك بالورقة والقلم.. يدون ملاحظات يعقد مقارنات.. يجلس مشدوها إلى البرامج التعليمية.. أقصد البرامج الحوارية التليفزيونية والفضائية التى أصبح تعديل الدستور هو الموضوع الأول، والأهم التى تدور المناقشات والمناظرات حوله خلال الأسبوع الماضى. ثم يدخل كل منا إلى غرفة العمليات.. أقصد غرفته الخاصة ليستخدم كل الوسائل.. من نت وصحف.. وكتيبات وأوراق ليقرأ ويكتب، وبدا الأمر وكأننا طلبة فى وقت الامتحانات وقد أزف بنا الوقت، وحان موعد الامتحان المصيرى الذى نتمنى أن ننجح فيه بتقدير ومجموع كبير، تناسينا من فرط حماسنا وإحساسنا بالمسئولية تجاه وطننا أن معظمنا كان يعانى منذ أيام قليلة من أمية سياسية عظيمة، مبررا سلبيته بأن ( البلد بلدهم مش بلدنا.. ويعملوا فيها ما بدا لهم)، ولنكتفى نحن بالفرجة من بعيد لبعيد، نضن عليهم برأينا لأننا ندرك بفطرتنا أنهم ليسوا فى حاجة إليه.. وأن وجودنا مجرد ديكور، وأننا مفعول بنا ولسنا فاعلين. فإذا بنا وقد تبدلت الأحوال وأشرقت شمس ثورة 25 يناير ودفع هذا الشعب ثمنا غاليا من دم أبنائه لاسترداد وعيه وكرامته وحريته، أصبح لزاما وواجبنا علينا أن نكون على قدر المسئولية.. أن نكون مواطنين بجد فى وطن بجد.. لنا حقوق وعلينا واجبات لابد أن نمارسها بالفعل وليس بالكلام.. وكان أول الأفعال هو المشاركة فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية. أن نذاكر الدستور.. نناقش بنوده ونصوصه، نفند التعديلات.. نستشرق عواقب كل قرار ممكن أن نتخذه سواء قلنا نعم أو لا.. وفى أيام معدودة استرد الشعب وعيه وأصبحت هناك حالة صحوة جماعية ومشاركة إيجابية.. وأصبحنا كلنا نتعاطى السياسة.. كبارا وصغارا وشيوخا وشبابا.. وفى كل مكان.. وأى مكان فى المدرسة.. وفى الجامعة.. فى الشغل وفى النادى فى أحاديث التليفونات الأرضية أو المحمولة فى الأسواق والشوارع والأتوبيسات.. وعيادات الأطباء وإشارات المرور والكافيهات. المثير أن سؤال هل ستذهب للاستفتاء أم لا.. لم يعد مطروحا، حيث اعتبره الجميع من المسلمات بل كان السؤال هو: ماذا ستقول.. ورأيك إيه؟ الطريف أن حالة الجدال والنقاش استمرت محتدمة بين الجميع حتى مساء الخميس، ثم التزم الجميع - بتلقائية - الصمت يومى الجمعة وصباح السبت واعتبروا أن التزامهم بقرار المجلس العسكرى هو فرصة ضرورية لالتقاط الأنفاس وترتيب الأفكار واتخاذ القرار والتعرف على أقرب مكان للتصويت. العجيب أن كل فرد فى أسرتى الصغيرة لم يسأل الآخر عن قراره النهائى، ولم يحاول حتى من باب الفضول أن يعرف ماذا سيختار.. القرار الوحيد الذى اتخذناه أن نذهب معا، ولأول مرة لندلى برأينا فى استفتاء فى لجنة عامة وليست لجنة نادٍ أو نقابة. عندما وصلنا إلى أقرب لجنة كان الزحام شديدا خارجها والشارع يعانى ارتباكا مروريا نتيجة لتكدس السيارات أمامها. أما فى الداخل حيث فناء المدرسة الواسع فقد اصطفت الطوابير.. طوابير طويلة جدا أمام عدة لجان فى الدور الأرضى.. والدور العلوى. صف للرجال.. وصف للسيدات.. كثيرون هم من اصطحبوا أطفالهم معهم بعضهم يحملونهم على أكتافهم والبعض الآخر يقف فى الطابور لم يحاول أحد منهم على كثرتهم أن يلعب مع الآخر فى الفناء، وكأن هؤلاء الأطفال قد تعاظم إحساسهم بأنفسهم، وبالحدث فتناسوا طفولتهم واعتبروا أنفسهم فى مهمة قومية تستحق أن يكبروا لها.. وبها.. نظرت إلى الوجوه بعد أن أخذت دورى فى الطابور فلم ألمح تذمرا أو تأففا، بل كانت البشاشة ترتسم على الوجوه والابتسامة على الشفاه.. حالة من البِشر والارتياح تعم الجميع وكأننا فى يوم عيد الجميع سواسية.. بلا استثناءات ولا مجاملات ولا يفكر أحد فى تجاوز دوره.. عندما طالت الوقفة استأذن أحد الشباب فى الخروج من الطابور دقائق مع حفظ مكانه وخرج وعاد سريعا محملا بأكياس كبيرة من المقرمشات والبسكويت فتحها وأصر على توزيعها على الجميع.. كان الطابور يتحرك سريعا وفى هدوء أحد كبار السن يتكئ على عصا، ويعانى صعوبة بالغة فى الحركة يستأذن فى الدخول مباشرة للجنة.. يساعده أحد الشباب.. يدلى بصوته ويخرج وهو يقول راجيا ( ربنا يجعل مستقبلكم أحسن مننا ).. تجيبه فى حماس سيدة فى منتصف الخمسينيات تقف فى الطابور (إن شاء الله أكيد أيامهم الجاية ستكون أحلى ). أخيرا.. حان الدور علىَّ.. تقدمت وكلى تفاؤل.. وكلى رهبة: أخيرا أشارك عن قناعة بأن لى دورا وأن رأيى يفرق.. وسيحترم ولن يزيف وأنى أساهم بإيجابية فى اختيار ملامح الغد الذى أرجوه لأولادى ولوطنى.. شعور رائع أن تشعر بأن وطنك يبادلك الحب.. والاحترام.. والتقدير وأنك مواطن من الدرجة الأولى ولست مجرد رقم.. أو كمالة عدد.. أن تنكسر قيود الإحباط واليأس والجمود التى كانت تكبلك فتشعر روحك بالانطلاق.. والانشراح.. عندما أدليت بصوتى اتجهت إلى أحد المقاعد الجانبية فى نهاية الفناء فى انتظار أن يفرغ بقية أفراد أسرتى من الإدلاء بأصواتهم.. لحظات وجاءت سيدة تتكئ على عصا وجلست بجوارى بصعوبة ووجدتها تتمتم ببعض الكلمات بصوت خافت.. سألتها إن كانت تريد أى مساعدة أجابت بتأثر: لا يا بنتى.. أنا بس كنت باقرأ الفاتحة وأدعو للشهداء.. أنا صحيح ست كبيرة وتعبانة لكن أنا حسيت أنى لو ما حضرتش أبقى بأخون دم الشهداء.. فتعبى ده ييجى إيه جنب دمهم وحرقة قلوب أمهاتهم عليهم.. فلنقرأ جميعا الفاتحة على أرواحهم الطاهرة.