وزير التعليم العالي يرأس اجتماع المجلس الأعلى للجامعات.. تفاصيل    الدكتور خالد عامر نقيباً لأطباء أسنان الشرقية    سعر الذهب بمنتصف التعاملات اليوم السبت.. «كم سجل عيار 21»    توريد 29 ألف طن قمح إلى مراكز التجميع في البحيرة    انطلاق معرض وتريكس للبنية التحتية ومعالجة المياه بمشاركة 400 شركة غدًا    صندوق النقد الدولي: تدفقات نقدية بنحو 600 مليون دولار لمصر من الطروحات الحكومية في الربع الأخير من 2023-2024    «القاهرة الإخبارية» تكشف تفاصيل الصفقة المصرية لوقف حرب غزة    رئيس حزب القوات اللبنانية عن عمليات حزب الله: لم تفد غزة بشيء    الإمارات تستقبل دفعة جديدة من الأطفال الفلسطينيين الجرحى ومرضى السرطان    مصر تواصل أعمال الجسر الجوي لإسقاط المساعدات بشمال غزة    من هي «منقذة» الأهلي أمام مازيمبي في دوري أبطال إفريقيا؟    الزمالك يفاوض ثنائي جنوب أفريقيا رغم إيقاف القيد    بعد التتويج بلقبي الجونة للإسكواش.. فرج ونوران: هدفنا بطولة العالم    بالصور| "خليه يعفن".. غلق سوق أسماك بورفؤاد ببورسعيد بنسبة 100%    حملة لإزالة التعديات بأسواق مرسى مطروح قبل الموسم الصيفي    ال دارك ويب أداة قتل طفل شبرا الخيمة.. أكبر سوق إجرامي يستهدف المراهقين    النقض: إعدام شخصين والمؤبد ل4 آخرين بقضية «اللجان النوعية في المنوفية»    رسالة قوية.. مها الصغير تحسم شائعة انفصالها عن أحمد السقا (فيديو)    «تملي معاك» أفضل أغنية عربية في القرن ال21 بعد 24 عامًا من طرحها (تفاصيل)    تعليق سلوى محمد علي بعد جلستها المثيرة للجدل في مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير    موعد شم النسيم 2024: فرحة الربيع وتجديد الحياة    حكم واجبية الحج للمسلمين القادرين ومسألة الحج للمتوفين    «حياة كريمة» تنظم قافلة طبية وبيطرية بقرية نبتيت في الشرقية    بيريرا يكشف حقيقة رفع قضية ضد حكم دولي في المحكمة الرياضية    جامعة القاهرة تناقش دور الملكية الفكرية في تحقيق أهداف التنمية المستدامة    مكتبة مصر العامة بالأقصر تحتفل بالذكرى ال42 لتحرير سيناء.. صور    علي الطيب يكشف تفاصيل دوره في مسلسل «مليحة»| فيديو    رئيس جامعة جنوب الوادي: لا خسائر بالجامعة بسبب سوء الأحوال الجوية وتعطيل العمل غدًا    أهمية وفضل حسن الخلق في الإسلام: تعاليم وأنواع    قائمة باريس سان جيرمان لمباراة لوهافر بالدوري الفرنسي    الصحة: فرق الحوكمة نفذت 346 مرور على مراكز الرعاية الأولية لمتابعة صرف الألبان وتفعيل الملف العائلي    وسط اعتقال أكثر من 550.. الاحتجاجات الطلابية المناهضة لإسرائيل بالجامعات الأمريكية ترفض التراجع    مستشار الرئيس الفلسطيني: عواقب اجتياح رفح الفلسطينية ستكون كارثية    سياحة أسوان: استقرار الملاحة النيلية وبرامج الزيارات بعد العاصفة الحمراء | خاص    قوافل بالمحافظات.. استخراج 6964 بطاقة رقم قومي و17 ألف "مصدر مميكن"    استمرار حبس عاطلين وسيدة لحيازتهم 6 كيلو من مخدر البودر في بولاق الدكرور    8 معلومات عن مجلدات المفاهيم لطلاب الثانوية العامة 2024    ضبط عاطل يُنقب عن الآثار في الزيتون    بدء أعمال المؤتمر السادس لرؤساء البرلمانات والمجالس النيابية العربية    الدلتا للسكر تناشد المزارعين بعدم حصاد البنجر دون إخطارها    "السياحة": مد برنامج تحفيز الطيران حتى 29 أكتوبر 2024 مع إجراء بعض التعديلات -تفاصيل    رئيس جهاز العاصمة الإدارية يجتمع بممثلي الشركات المنفذة لحي جاردن سيتي الجديدة    محافظة القاهرة تكثف حملات إزالة الإشغالات والتعديات على حرم الطريق    وزيرة التضامن توجه تحية لمهرجان الإسكندرية للفيلم القصير بسبب برنامج المكفوفين    خبيرة: يوم رائع لمواليد الأبراج النارية    عمل نفتخر به.. حسن الرداد يكشف تفاصيل مسلسل «محارب»    السيسي يتفقد الأكاديمية العسكرية بالعاصمة الإدارية ويجري حوارًا مع الطلبة (صور)    وزير الري يشارك فى فعاليات "مؤتمر بغداد الدولى الرابع للمياه"    «بيت الزكاة» يستقبل تبرعات أردنية ب 12 شاحنة ضمن حملة إغاثة غزة    متصلة تشكو من زوجها بسبب الكتب الخارجية.. وداعية يرد    كرة اليد، موعد مباراة الزمالك والترجي في نهائي بطولة أفريقيا    أبو الغيط: الإبادة في غزة ألقت عبئًا ثقيلًا على أوضاع العمال هناك    طلب إحاطة يحذر من تزايد معدلات الولادة القيصرية    أفضل دعاء تبدأ وتختم به يومك.. واظب عليه    وزير الخارجية يتوجه إلى الرياض للمشاركة في أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي    خبير أوبئة: مصر خالية من «شلل الأطفال» ببرامج تطعيمات مستمرة    إشادة دولية بتجربة مصر في مجال التغطية الصحية الشاملة    "كنت ببعتله تحياتي".. كولر يكشف سر الورقة التي أعطاها ل رامي ربيعة أثناء مباراة مازيمبي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عائدون ومعنا مفتاح الدار
قراءة فى رواية الطنطورية لرضوى عاشور
نشر في صباح الخير يوم 06 - 12 - 2023

رواية «الطنطورية» للكاتبة المصرية المبدعة د. رضوى عاشور (1946 - 2014) من أهم الروايات التى توثّق لتاريخ فِلَسْطين وجغرافيتها: قُرَاها ومُدُنها ومَعَالمها، وكفاح أهلها ضد المُحتل.
هذه الرواية خريطة حقيقية لفِلَسْطين مكتوبة برحيق الأرض، وعَبق الأزهار، وسخاء الأشجار، وبرائحة البحر.
أبطالها يصمدون فى وجه المُحتل، يتدربون على الأعمال الفدائية والمقاومة، يوثقون لكل الأمكنة التى احتلتها إسرائيل، يحفظون مكان كل شجرة، وكل بيت، ويُعلقون مفاتيح الدُور والبيوت على أعناقهم، ويتوارثونها جيلاً بعد جيل.
كفاح متواصل
وهذه الرواية- التى صدرت عن دار الشروق بالقاهرة - هى أيضًا رواية مرجعية تستند فيها الكاتبة إلى العديد من المَصادر المتنوعة، منها ما هو تاريخى وأدبى ووثائقى، وتمزجها بفنها السردى، وبلغتها المتدفقة حاملة طاقات شعرية وجدانية تؤازرها رؤية ثاقبة لأبعاد الصراع العربى- الإسرائيلى، فتصوِّر تفاصيل التهجير القسرى، وجرائم الاحتلال من سلب ونهب، وقتل وتدمير.
تدور أحداث الرواية فى البدء فى «الطنطورة» مرورًا بقيسارية، وصَفّورية، و«عين غزال»، وغيرها من قرَى ومُدن فِلَسْطين قبل وبعد الاحتلال، فتصوِّر بطولات الأهالى، واستبسالهم فى مقاومته، ومعاناتهم بعد أن أخرجوا من ديارهم بالبطش والعسف. وتتطور أحداث الرواية لتكون رواية أجيال، يسلمنا الجيل الأول «أبو الصادق»، وزوجته «زينب» إلى جيل الأبناء، « حسن»، و«الصادق»، و«رقية» أولادهما، ثم جيل الأحفاد من بعد ذلك، فتنجب «رقية» «صادقًا» آخر، و«حَسَنًا» آخر بعد استشهاد أخويها، وأبيها فى مذبحة «الطنطورة»، وتنجب «عبدالرحمن» أيضًا، وتتبنّى طفلة جميلة هى «مريم»، أصَرّ زوجها الطبيب «أمين» على تبنيها بعد أن استشهد أهلها فى مذابح الاحتلال لنشهد هذا الكفاح المتواصل، وهذا العشق للطنطورية، وحيفا، ويافا، والقدس وكل قرى ومدن فِلَسْطين. يكتب «حسن» فى دفاتره، وتنقشه «رقية» تاريخًا فى ذاكرتها ونبضها، ويدافع عنه «عبدالرحمن» فى المحافل الدولية، فيطالب بحقوق بلاده بالقانون من خلال شهادات أهالى «الطنطورة»، وغيرها من مُدن فِلَسْطينية تعرضت للمَجازر ويضم إلى هذه القضايا أيضًا ما حدث فى «صبرا» و«شاتيلا»، من مذابح وانتهاكات.
مصائر تتغير
الساردة هى «رقية» الشابة الفِلَسْطينية التى تعيش فى «الطنطورة»، وتحلم بالزواج من شاب من «عين غزال» إلا أن أمَّها ترفض هذا الزواج بسبب خوفها مما قد يتهددها من المستوطنين إن هى ركبت القطار إلى «عين غزال» أو إلى «حيفا»؛ حيث يريد الشاب التوظف فيها بعد أن يُتم دراسته فى مصر. تعارض الأم بشدة رأى «أبوالصادق» هو يقول لها: «إن توظف فى «حيفا» تركبين القطار فتصلين لابنتك فى أقل من نصف ساعة»، فتقول: (ولو قطع اليهود علينا الطريق؟»، فاحمّر وجهة وقال: «فال الله ولا فالك، نحن نشترى الرجل لا موقع عمله).
لكنها تحمل غضبها وخوفها فى داخلها. وفى مونولوج مُعَبّر تكشف أمُّ «رقية» عن خوفها من التعرض لبطش المُحتل، الذى يهدد المصائر، فتقول لنفسها: (كيف أركب قطارًا معظم ركابه من عسكر الإنجليز ومن المستوطنين اليهود؟، حتى لو تركونى فى حالى، ولم يؤذنى أحد منهم؛ كيف أجرؤ على الاستعلام منهم، قد لا يفهمون كلامى حين أسألهم وقد يسخرون منّى، وقد يتقصدون ألا يدلونى فأنزل فى المحطة الخطأ، وأضيع بين البلاد، وقد أجد نفسى فى كبّانية من كبّانياتهم، ماذا أفعل ساعتها؟، أدق الباب على اليهود، وأقول لهم: رجّعونى بلدنا؟!).
وعندما علمت الأم بالمذبحة التى قام بها العمال اليهود ضد العرب فى «حيفا»، قالت الأم لابنتها أنها لن تزوجها لابن «عين غزال» «إن لم يتعهد بالسكن بعيدًا عن «حيفا» والشرط نسجله بالعَقد».
لكن «رقية» لن تتزوج ابن «عين غزال»؛ فلقد غيّر قرار التقسيم - بعد انتهاء الانتداب الإنجليزى على فِلَسْطين - المصائر من جديد، فأصبح خط الساحل من جنوب «عكا» إلى جنوب «يافا» بما فيها قريتهم «الطنطورة» يدخل بعد التقسيم فى نطاق دولة اليهود. وترصد الكاتبة ما حدث فى حياة الناس بعد هذا الاحتلال فتقول:
(سقطت «قيسارية» الواقعة على البحر مثلنا، ولكن جنوب البلد، سقطت وأرغم أهاليها على تركها. استضافت قريتنا بعض العائلات. نصيبنا من الضيوف أرملة لها طفلان. السيناريو الذى ستعيشه بعد ثلاثة أشهُر قرى الساحل وغير الساحل. لم يكن السيناريو متطابقا فى كل تفاصيله، وإن تطابق فى خطوطه العامّة) «عسكر اليهود حاصروا البلد، وهاجموها وطردوا الناس من بيوتهم».
الاحتفال بعد الانتداب !
لم يتغير مصير «رقية» وحدها؛ ولكن مصائر الناس جميعًا تغيرت بعد الاحتلال. ورصدت الكاتبة أثر ذلك على حياة أبطالها فتاة تقول: (لن أتزوج إلا عندما نعود إلى بلدنا، كيف تتم الطُلبة، وأين نستقبل الجاهة، ونحن هكذا بلا دار».
(الحاجة للسلاح صارت كشربة ماء ضرورية للبقاء. أصبح الحديث مشاعًا حتى بين نساء القرية عند شراء السلاح، وصارت أسماء العصابات الصهيونية وزعمائها أسماء غريبة، وصعبة النطق صارت متداولة بينهن، فيعرفن من هم «الهاجاناه»، ومن «شتيرن»؟، ومن «إتسيل»؟، ومن هو بن «جوريون»؟).
الذى أعلن وسط حفل فى «تل أبيب» أنه فور انتهاء الانتداب البريطانى بدءًا من الدقيقة الأولى بعد منتصف الليل سيحلون محله فى حُكم فِلَسْطين، يغدو البلد دولة لليهود، ويصير اسمها «إسرائيل»!!
مقاومة الأهالى
تغيرت مصائر الناس جميعًا وليس «رقية» وحدها وابن عين «غزال»، احتلال... الآن يعرفون ما معنى الاحتلال، وشراسة الدفاع عن وطن، عاد ابنا «زينب» و«أبو القاسم»، وصلا مشيًا على الأقدام من «حيفا» عبر الأحراش، والسكك الحديدية الملتفة، بدا (الأب كحقل ألغام، تنفجر ألغامه لغمًا وراء لغم فى وجه أمّى، ووجهى لأن توزيع نوبات الحراسة، وتدريب من لم يتدرب من الشباب لا يكفيه متنفسًا لقلقه على مصير ولديه ومصير البلد) كما تقول رقية.
احتلوا «حيفا»، سلمها الإنجليز لليهود كيف؟، ماذا حدث للحامية وما الذى جرى ليخرج الناس جماعيًا لمغادرة المدينة؟، ترددت الأسئلة بين الناس وامتزجت بالحزن؛ فقد استشهد عبدالقادر الحسينى وهو يدافع عن «القسطل».
وفى فجر اليوم التالى، هاجم الصهاينة «دير ياسين» المجاورة للقسطل، وذبحوا من ذبحوا من أهلها، وبعدها بثلاثة أيام احتلوا «صفد»، ثم «يافا»، وبعدها «عكا»..، وتصرخ أسئلة الناس: لماذا انسحبت الحامية من صفد؟، أين ذهب جيش الإنقاذ؟ ما الذى أخرج الأهالى من دُورهم؟، كيف احتلوا «عكا» وهى «عكا»..؟!
رصدت الكاتبة تاريخ احتلال هذه المدن واحدة بعد الأخرى، كما ترصد تكوُّن فرق المقاومة، والتدريب على السلاح، يقول «أبو الصادق»: («أهل عين غزال» و«جبع» و«إجزم» صدوا الهجوم، ولذا يشكل فرق حراسة «الطنطورة» لكنّ أخاه يرى أن يرحل الأطفال والنساء عن القرية إلى «صيدا» تجنبًا لبطش الصهاينة. رفض «أبوالصادق»؛ بل رفع على أخيه السلاح قائلاً: «الله يسهل عليك، ارحل أنت وزوجتك وابنك، ولكن أنا حر فى أهل بيتى).
الترحيل
لكن الاحتلال ينجح فى السيطرة على المدينة، وتصور لنا الساردة «رقية» ما تعرضوا له فى ترحيلهم من «الطنطورة» فتقول:
(ساقونا إلى الشاطئ، قسّمونا إلى مجموعتين، الراجل فى ناحية، والنساء والأطفال وبعض المسنين من الرجال فى ناحية، أول مرة أرى المجندات، نساء يرتدين ملابس عسكرية ويحملن السلاح، كلمتنا بالعربية، ورحن يفتشننا واحدة بعد الأخرى، ويأخذن ما يجدنه معنا من مال أو حُلى، يضعنه فى خوذة، كلما امتلأت الخوذة يفرغن ما فيها على بطانية كبيرة مبسوطة على الرمل، لم تنتبه المجندة للعنزة التى أحملها ولكنها انتبهت، وهى تفتشنى إلى فردتى القرط فى أذنى، انتزعتهما انتزاعًا، سال الدم من أذنى، مسحته بطرف ثوبى.، انتقلت المجندة إلى تفتيش أمى و«وصال» و«عَبد» وأمّه، أخذوا تنكتى الزيت والزيتون، ونصية الجبن، جردت أمى من خاتمها وقرطها وسلسالها).
مقبرة جماعية
وتصف الساردة مأساة هذه الأسرة، أسرة «رقية» نموذجًا لما تعرض له أهل «الطنطورة» من تنكيل وقتل، وما أصاب الأطفال والنساء من مشاعر قاسية بالفقد، واليتم وسط مَشاهد دامية؛ حيث استهدفت القوات الباغية الشباب والرجال، ودفنوهم فى مقبرة جماعية، فتقول «رقية»:
(يحشوننا فى شاحنتين، وبدأت الشاحنتان فى التحرك، صرخت فجأة، وجذبت ذراع أمى، وأنا أشير بيدى إلى كومة من الجثث، نظرت أمى إلى حيث أشير، وصرخت: «جميل»،«جميل» ابن خالى، ولكننى عُدت أجذب ذراعها بيدى اليسرى، وأشير بيدى اليُمنَى إلى حيث أبى وأخوى، كانت جثثهم بجوار جثة «جميل» مكومة بعضها لصق بعض على بعد أمتار قليلة منا).
فقدت «أم الصادق» عقلها بعد هذا الحادث تتوهم أن زوجها اعتقل مع من اعتقلوا من رجال البلد، وتقول عن ولديها:
(الحمد لله أن «الصادق» و«حسن» هربا إلى مصر، مساكين لا بُدّ أن القلق أكل قلبيهما علينا، ونحن نعيش هنا فى خير وأمان.
لكن «رقية» تعرف الحقيقة، وكذلك الشباب الذين أخذوهم لحفر المقبرة الجماعية، شهدوا أن «أبوالصادق» وولديه كانوا بين الجثث التى دفنوها).
على قيد الحياة
وتنقلنا الساردة إلى الحيلة النفسية الذاتية التى توهمتها أمُّها لتستطيع العيش، واحتمال الحياة، فولداها هربا إلى مصر وزوجها لا يزال فى الأسْر، ورثت «رقية» الحيلة نفسها فتوهمت أن زوجها الطبيب «أمين» والذى استشهد فى مستشفى «عكا» فى صيدا هو أيضًا على قيد الحياة وأنه سيطرق بابَها ذات يوم؛ لتشكره على تبنيه للطفلة «مريم» التى فقدت أهلها فى إحدى المذابح، فأصبحت «مريم» أنيسة لها فى وحدتها؛ بل أصبحت ابنتها التى لم تلدها.
محاولات العودة
لم يستسلم الناس لاحتلال قراهم، وترحيلهم، فأهل «الطنطورة» الذين تم ترحيلهم إلى قرية مجاورة هى «الفريد يس» قد عاد بعضهم إلى «الطنطورة» فلاقوا أضعاف ما لاقوا من البطش والتنكيل. وتصف «رقية» بعض ما رأت من نساء قريتها اللواتى تم ترحيلهن فتقول: (وصاحت امرأة من بلدنا فجأة: «الله أكبر، نجوع والسنابل طولها مترين فى أرضنا؟»، وقالت لأختها «قومى معى»، اتجهت إلى البلد لتحصد بعض القمح، فى المساء عادت أختها بثوب ممزق، وآثار اللطم واضحة على وجهها، وطلبت من بعض شباب «ألفريد يس» أن يساعدوها على نقل جثة أختها التى دهمتها سيارة عسكرية إسرائيلية، قالت: داسوها قصدًا، ولمّا حاولت الاقتراب لأرى ما أصابها، عادت السيارة فى اتجاهى، فقفزت مبتعدة داست عليها السيارة مرة أخرى)!
وفى «ألفريد يس» استضافهم أهل البلد، أنزلوا «الفرشات»، وقاسموهم «الزاد» الذى كان شحيحًا فمات بعض المسنين، أمّا الرضع فكانوا يتساقطون بشكل غير مفهوم، كل يوم يموت رضيع، وأحيانًا رضيعان، ودفنوا فى «ألفريد يس» خمسة وعشرين طفلاً، وربما ثلاثين.
وتصف «رقية» عذاب الترحيل من مدينة إلى مدينة، والتعرض للقصف فى الطريق فتقول:
(استلمنا الصليب الأحمر، ونقلونا إلى أرض قفر ممهدة فى المثلث، استلمنا ضباط أردنيون، أحصونا، ووقّعوا بالاستلام ثم حملتنا الباصات إلى «طولكرم»، أنزلونا فى مدرسة قريبة من خط سكة حديد الحجاز، وفى «طولكرم» قصفنا الطيران الإسرائيلى، استشهد ابن «يحى العشماوى» وابنته، بعدها بأسبوعين أتت سيارة أخرى فنقلتنا إلى دير «المسكوبية» فى «الخليل»، قضينا فى «الخليل» ستة أشهر، ثم بدأ أهل البلد يتوزعون، منهم مَن أراد اللحاق بأقرباء له فى «طولكرم» أو «نابلس» أو «جنين»، ومنهم من تسلل عائدًا إلى «الجليل»، ومنهم من ذهب إلى «سوريا»، قالت أمّى: سنذهب إلى «صيدا» عند عمّى).
محنة عابرة وثقيلة
يظل الشعور بالاغتراب مسيطرًا على أبطال الرواية، يحنون إلى قريتهم «الطنطورة» ويحاولون التأقلم مع أوضاعهم الجديدة لتبدأ رحلة أخرى من المعاناة بعيدًا عن الوطن الأم، لقد تزوجت «رقية» من الطبيب «أمين» الذى يعمل فى وكالة «الغوث»، وأنجبت أولادها الثلاثة «حسن»، و«صادق»، و«عبدالرحمن» فى «صيدا»، ثم ارتحلوا جميعًا إلى «بيروت»، وهناك تبدأ تطورات أخرى فى حياة الفِلَسْطينيين الذين يعيشون فيها، فترصد الساردة رحلة انتقال زوجها «أمين» للعمل فى مستشفى «عكا» عند الطرف الجنوبى من مخيم «شاتيلا»، كما تصور معاناة شديدة الوطأة على المرتحلين؛ فالعم يرفض فكرة اللجوء نفسها، يغض الطرف عنها فهو ليس بلاجئ.
(وإنما هى محنة عابرة، ثقيلة وإن طالت لن تدوم، فيرفض التسجيل فى وكالة «غوث» للاجئين عندما تطرح زوجته الفكرة، ينفجر فيها غاضبًا: «وهل تحتاجين معونة يا امرأة، ينقصك كيس طحين؟، يا عيب الشوم»؟!).
تسكت زوجته، وربما دارت الفكرة فى رأسها وقالت أن زوجها على حق، ولكن المسألة ليست كيس طحين وعلبة سردين كما يقول ابنهما؛ بل المسألة لها علاقة بحفظ الحقوق ودخول المدارس والجامعات، والالتحاق بالوظائف، قال لا بُدّ من التسجيل، صاح العم غاضبًا: «لست لاجئًا ولن أطلب معونة من أحد»، وتذكر «رقية» أن العم لم يعرف إلى أن توفى بعد 27 عامًا من إقامته فى صيدا أنه مسجل لاجئًا، وأن ابنه كان يتسلم المعونة بانتظام، يحملها لأمّه وخالته مرة، ويوزعها فى الغالب على بعض المحتاجين).
مفتاح الدار
ومن أكثر مَشاهد الرواية عمقًا وتأثيرًا هو المَشهد الذى يصور تمسُّك الناس بدُورهم، وإصرارهم على العودة إليها، فهى الحلم وهى الأمل. وفى تصوير بديع تقدم «رضوى عاشور» فى روايتها «مفتاح الدار» الذى صار رمزًا للمكان وزمنًا مستقبليًا قادمًا، فتصف رغبة «زينب» فى السفر بحثًا عن «أبو الصادق» زوجها بعد أن اطمأنت على زواج «رقية» وتأتى خالتها «حليمة» لتقدم لها مفتاح الدار بعد إصرار الأم على السفر الذى أصبح وصفًا رمزيًا لرحيل الأم فتقول:
(مسحت خالتى «حليمة» دموعها ثم قامت ودخلت غرفة أمّى، وعادت ومدت لى يدها بمفتاح حديدى كبير قالت: مفتاح داركم يا «رقية».
غريب، لم أره منذ غادرنا الدار، أين كانت تخبئه؟
- كانت تعلقه فى رقبتها، لا تخلعه حتى حين تنام أن تتحمّم، أقول لها يا زينب يا أختى الحبل سيهترئ، حين تتحمّين، اخلعيه، ثم علقيه ثانية، لا تقبل، وذاب الحبل كما توقعت، أتت بحبل جديد علقته به، وبقيت على عادتها تنام وتتحمّم به، أخذت المفتاح، عدت إلى بيتى بعد انقضاء أيام العزاء الثلاثة قلت أعطى المفتاح لأمين يحفظه مع الأوراق، وشهادة ميلاده، وشهادة تخرجه، وإذن العمل، انتبهت: لا أوراق عندى سوى بطاقة الهوية الصادرة عن الأمن العام اللبنانى، قلت أعيده لعمّى «أبو الأمين» لأنه مفتاح داره، فالدار واحدة، يضعه فى جيب «قنبازه» العميق، ويروح يتحسّسه من حين لآخر فيشعر، يشعر بماذا؟ وضعته على راحة كفى اليسرى وتأملته: مفتاح حديدى قديم، داكن اللون، صقيل، يملأ الكف وله ثقل، تحسّسته بأصابع يدى اليُمنى فتعرفت عليه لمسًا بعد أن عرفته بالنظر.
فجأة ابتسمت وأمسكت بالحبل بكلتا يديها ورفعته ثم أدخلت رأسها فيه علقته برقبتها، شعرت بملمسه الحديدى على لحم الصدر، وسيظل فى الصحو وفى المنام، وكلما اهترأ الحبل استبدلت به حبلا جديدًا.
ثم تقول «رقية» (وبعد سنوات عندما انتقلنا إلى بيروت، وشاركت فى محو أمية النساء فى «شاتيلا»، وتعين علىّ أن أزور نساء المخيم لإقناعهن بأهمية الأمر اكتشف أن ما ورثته عن أمى كان شائعًا، استغربت، كيف تفعل النساء الشىء نفسه دون سابق اتفاق؟).
وفى بيروت
ترصد الكاتبة قرى لبنانية أخرى استولى عليها الإسرائيليون منذ الهدنة فى عام 48: يرسمها ابنها «حسن» فى خرائط توثق لهذه المدن: («المطلة وإبل القمح، الذوق الفوقا، والذوق التحتا، والمنصورة»، يعين موقع كل قرية بدائرة حمراء، ثم يشير إلى «هونين» و«الخالصة»، و«العباسية»، «والناعمة»، و«الصالحية»، و«الزاوية» وتحتها إلى الشرق قليلاً: «قدس»، و«المالكية»، وقبل أن يصل إلى أزرق البحر، يتوقف ويقول: («وكفر برعم والنبى روبين، وطربيخا»، ثم يقول وهنا «الشجرة» ومنها «ناجى العلى»، و«عبدالرحيم محمود» الشاعر الذى يحفظون أشعاره إذ يقول:
سأحمل روحى على راحتى وألقى بها فى مهاوى الردى/ فإمّا حياة تسر الصديق/ وإمّا ممات يغيظ العدا).
«شاتيلا» و«الطنطورة»
وتقول «رقية» بعد إقامتها فى «بيروت»: تمثلت تدريجيًا وعلى مهل، وقد تربيت فى المكان أن غربتى من غربة أهله، كأن شاطئ «بيروت» يقودنى إلى شاطئ بلدنا، كأن «شاتيلا» عند طرف شارع إن سلكته وسرت فى خط مستقيم أصل «الطنطورة»، مجرد شارع ممتد.
فقد سيطرت إسرائيل أيضًا على الوضع فى بيروت، ورغم استبسال شباب «فتح» وشباب الشعبية والديمقراطية وكل التنظيمات الأخرى اللبنانية والفِلَسْطينية، والحزب الشيوعى، ومنظمة العمل، والتقدمى الاشتراكى، والقومى السورى، والمرابطين وأمل، وشباب من كل التنظيمات لبنانيون وفِلَسْطينيون، وكل الذين صمدوا فى «بيروت» ثمانية أسابيع، صمدوا لمواجهة ما حدث من مذابح فى «صبرا» و«شاتيلا» إلا أن القيادة الفِلَسْطينية اتخذت قرارًا برحيل المقاومة من لبنان بعد اتفاقية «أوسلو».
نهب مركز الأبحاث
وترافقت مذبحة «صبرا» و«شاتيلا» مع نهب وسلب مركز الأبحاث الفِلَسْطينى بما فيه من وثائق وخرائط على أرض فِلَسْطين، وكتُب تصل إلى عشرة آلاف كتاب، وبعد ستة أشهُر من نهب المركز انفجرت سيارة ملغومة أحرقت المبنى، واستشهد من فيه، وأعيدت بعض صناديق الكتُب عن طريق الصليب الأحمر وأرسلت للجزائر ليتسلمها مدير المركز ورئيس قسم الوثائق الفِلَسْطينيان.
صراع دموى
كما تصف الكاتبة ذلك الصراع الدموى الذى تسبب فى إزهاق أرواح المدنيين واستشادهم من اللبنانيين والفلسطينيين بسبب الصراع بين الميليشيات التى أنشأتها إسرائيل من عملاء محليين بدعوى حفظ الأمن فى القرى، وثوار الأرز الذين يوزعون المنشورات على الأهالى لطرد الغرباء «الفِلَسْطينيين» لتتحكم إسرائيل تمامًا فى هذا الصراع والذى تعددت أطرافه: ميليشيات الكتائب، وكتائب سعد حداد، وحراس الأرز، وعانى المدنيون من ويلات الحرب والاقتتال، واستبسال ومقاومة الأهالى.
تفرَّغ «عبدالرحمن» من مغتربه فى «بلچيكا» ليستعين بالقانون الدولى لرصد انتهاكات إسرائيل ومذابحها فى «صبرا» و«شاتيلا»؛ حيث إن القوانين فى «بلچيكا» تسمح بذلك بإقامة المحاكمات، وجمع الشهادات، ومنها ما وثقته الدكتورة بيان نويهض، وما كتبته «رقية» نفسها، التى لا تزال تنام وتصحو على صورة «حنظلة» رسمة «ناجى العلى» وطفله الإبداعى ناظرًا من خلف السور الشائك إلى بلاده، تتساءل «رقية» هل أجد ناجى العلى صباح الغد فى «عين الحلوة»؟، هل يلتقى برقية الصغيرة ذات يوم، عبر السلك أو من دونه؟
أمّا ابنتها «مريم» فتقول عنه:
رسومه تعبّر عنّى، تجعلنى أكتشف مشاعرى والأشياء التى يثقل علىّ وتؤلمنى، والأشياء التى أرغب فى تحقيقها، رسوم «ناجى العلى» تعرفنا بأنفسنا، وعندما نعرف نستطيع، ربما لذلك اغتالوه.
«الطنطورية» رحلة صمود، رحلة اعتزاز بالتاريخ وباللغة، وبرموز الوطن الذين استبسلوا فى الدفاع عن الأرض، وتمسكوا بالهوية، بالجذور، بمفاتيح الدُور، بالبيوت، بقراهم، ومدنهم، بفِلَسْطين الوطن والوجود.
2
4
5
6
7


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.