كنت أقف إلى جوار أمى، أناولها قطع الفلفل لتقطعها على القطعة الخشبية بالسكين، ثم تلقى بها إلى الصينية إلى جوار قطع اللحم التى تطبخها لنا هذه العصرية، حين سمعت صوت مزمار بلدى، أتتنا موسيقاه من النافذة.. جريت، ونظرت فإذا به الساحر القديم قد عاد.. قالت أمى: وما أرجعه؟! حسبته مات.. قلت: جميل.. أنا كدت أنساه أيضا.. ثم التفت إليها، وقلت: أمى.. هاتى جنيها؟ كلا.. أنت كبرت، ولم يعد يليق بك الوقوف مع الأطفال فى الشارع.. أرجوك يا أمى.. دعينى أراه، فهو لم يأت منذ سنين طويلة.. وهبطت إلى الشارع، وقد لفت نظرى أن العدد الضخم الذى كان يحيط بمثل هذه الألعاب ليس كما كان. وقفت أنظر إليه: كان قد نحل كثيرا عما كان، ساعداه القويتان أصابهما الهزال، شعره غرق فى الشيب. إلا أن عينيه لا تزالان بنفس القدر من الطيبة والذكاء. أذكر المرات القليلة التى أتى فيها إلى الشارع، وأبهرنى بألعابه وحيله.. لم يأبه بقلة المتفرجين، ووقف إلى جوار المرأة الغجرية.. غمز لها فسحبت الدف وأخذت تدور به حولنا، وكل منا يلقى فيه بنقوده المعدنية.. كان على وجهها تبرم، فقد لاحظت أن العملات لا تتعدى الجنيهين أو الثلاثة بأقصى تقدير.. ثم خرج شاب جديد عارى الصدر مفتول العضلات.. أخذ يسير مستعرضا جسده، وينظر إلى عيوننا فى قوة، ثم اتجه إلى حقيبة جلدية مهترئة على الأرض، وأخرج منها سيخ حديدى فى طرفه كرة من القماش بللها بالجاز، وأخذ ينفخ فيها.. صفق بعض الأطفال بحرارة، إلا أننى لم أكن كذلك.. نظرت إلى الساحر القديم: كان يقف مستندا على الجدار يصفق معنا للشاب الجديد.. اقتربت منه، وسألته: هل تذكرنى؟ لم يسمعنى أول مرة، فكررت سؤالى.. نظر إلى وابتسم.. نعم بالطبع.. كنت قد شاركتك إحدى معجزاتك.. قال فى دهشة: معجزاتى؟! فقلت فى صدق: بلى.. كانت خدعة عظيمة أخفيتنى بها عن أعين كل الأولاد! ابتسم فى ود.. وقال: نعم.. نعم.. هذا حدث.. قلت له: هل تذكر ذلك اليوم ؟! أنه كان أسعد يوم لى.. آه.. طبعا.. قلت: أين كنت؟! لم يسمع أيضا.. وكررت ثانية سؤال، فقال: الدنيا.. ثم قال فى لهجة بها شيء من الحزم: هيا انظر له.. اللعبة الجديدة ستعجبك جدا.. هل هو ابنك ؟! قال بنفاد صبر: نعم.. وهل ستلعب أنت؟ لا.. لماذا ؟! لأننى كبرت.. وهل حين يكبر الإنسان لا يلعب؟! قال فى ضيق: نعم.. ثم مضى من جوارى واتجه ناحية أخرى، وظل يصفق لابنه مشجعا..