لغز علمى تحول إلى حقيقة مرئية. ولن تتوقف الأسئلة عن طرح نفسها لعلها تجد إجابات شافية لاهتمام الإنسان وشغفه الدائم فى محاولة منه لكشف المجهول. ولا شك أن كلمة الديمقراطية أكثر من أى وقت مضى أصبحت مثار تعجب واستفسار، وأيضا مصدرًا لمفاهيم مختلطة ومحيرة للعديد من شعوب العالم ومنهم الأمريكان. أما الأمر العجيب فعلًا أن نشهد التكفير بالعلم وحقائقه، وأن هذا يحدث حتى فى أمريكا وحتى فى عام 2019. ما بعد الثقب الأسود يوم 10 أبريل 2019 كان يومًا تاريخيًا بلا أدنى شك. الحدث العلمى صار حديث الرأى العام.الصورة التى تم التقاطها للثقب الأسود لهذا اللغز القائم فى الفضاء الخارجى منذ سنوات طويلة تناقلتها على الفور التويتات ووكالات الأنباء. وهى الصورة التى تصدرت الصفحات الأولى للصحف الكبرى فى اليوم التالى. «الصورة الأولى أضاءت ثقبا أسودا» هكذا كتبت صحيفة «وول ستريت جورنال» عنوانًا للخبر والصورة التاريخية فى صفحتها الأولى. أما صحيفة «واشنطن بوست» كتبت بحروف كبيرة «أفق جديد». «نيويورك تايمز» لم تكتف بما أثارته فى الصفحة الأولى إذ حرصت على أن تخصص صفحتين لهذا الإنجاز العلمى.. فى محاولة منها كما هى عادتها للاحتفاء بالحدث وتقديم المعلومات والآراء للإلمام بتفاصيل الحدث وتبعاته. وقد تعددت التعريفات الخاصة بالثقب الأسود ومنها أنه مكان ما بعيد فى الفضاء بؤرة مظلمة لا تسمح بمرور الضوء حير علماء الفضاء والفيزياء. واشنطن العاصمة الأمريكية كان لها نصيب فى الإعلان عن هذا الإنجاز العلمى. تحدث عنه علماء فى نادى الصحافة الوطنى. ومن حديث العلماء وتصريحاتهم تبين أن ما تم طرحه من قبل من علماء ومنهم ألبرت أينشتاين بنظرية النسبية وستيفن هوكينج حول مفهوم ومعنى وطبيعة الثقب الأسود كان صحيحًا. ونعم «لقد شاهدنا ما كنا نعتقد بأن لا يمكن مشاهدته» قالها شيب دولمان عالم فضاء أمريكى ومدير المشروع الخاص بالتقاط صورة الثقب الأسود. الصورة التى شاهدها العالم كانت نتاج منظومة تيليسكوبات تتواجد فى عشرة مواقع على امتداد الكرة الأرضية لالتقاط الصور وقراءاتها على بعد 55 مليون سنة ضوئية. وبالتأكيد هذا الحديث الشيق الذى بدأ لن يتوقف. ولا بد من الإشارة هنا إلى جدية الاحتفاء الإعلامى والحرص على تسليط الأضواء على الحدث والحديث الخاص به. فالموضوع ليس فرقعة إعلامية ولا يتم التعامل معه فى إطار عجائب وغرائب. فالعلوم التى نعيش زمنها وثورتها وإنجازاتها يجب الوقوف أمامها بكل الاحترام والتقدير لأنها نتاج وحصيلة جهد مكثف ومتواصل على مدى سنوات وقد نشأت وترعرعت من خلال خبرات بشرية على امتداد العالم، وذلك للوصول إلى ما وصل إليه الإنسان فى عام 2019. وماذا عن الديمقراطية؟ ما أغربه الإنسان. وكأننا علينا من أول وجديد أن نتحدث معه أو هو يتحدث معنا عن آدم وحواء وأن نعيد اختراع العجلة!!. وهذه الصدمة تأتى مع الضجيج المثار حولنا وكأننا لا نريد أن نقر بما تم وتحقق على مدى السنوات الماضية. ويتضح لنا (مع الأسف) بأننا نجتهد ونتعارك من أجل التوصل إلى ما كان معروفا لنا جميعا من قبل. ولا يمكن فى متابعتنا لحركة المجتمعات الأمريكية (المتنوعة والمتعددة) فى زمننا الحالى ألا نقف أمام ظاهرة تعليمية/ مجتمعية صارت موضع مناقشة وجدال فى الفترة الماضية. وهى كيف يجب تدريس الديمقراطية كمفهوم وأسلوب حياة وممارسة سياسية لتلاميذ المدارس فى الولاياتالمتحدة؟ خاصة أن التركيبة السكانية خلال السنوات الماضية تغيرت بشكل ملحوظ. كما أن صعود الترامبية (أو الشعبوية) وبالتالى تزايد حدة الاستقطاب والانشقاق المتأصل داخل الكثير من التكتلات السكانية الأمريكية ضرب بعرض الحائط عادات وتقاليد المشاركة السياسية التى مارسها الأمريكيون على مدى السنين. ما يمكن تسميته بدروس التربية السياسية أو التوعية المدنية فى المدارس الأمريكية فى حالة حيرة وارتباك. فالأجيال الجديدة الصاعدة وسط الأجواء الحالية من الاستقطاب والتنافر وحدة المواجهة التى تشهدها البلاد تتساءل وتريد أن تعرف جدوى أن يتعلم أسس التعامل السياسى المتحضر (كما هو مكتوب ومقرر لسنوات طويلة) فى حين أن ما يحدث على شاشات التليفزيون والمحمول وعبر التغريدات والتواصل الاجتماعى هو فوضى سياسية وأخلاقية لا يمكن من خلالها إقامة المجتمع المنشود الذى يتم تدريسه فى قاعات الدرس. معنى وقيمة الديمقراطية ذاتها صار مثيرا للجدل والتشكيك. وبالتالى بدأت مبادرات جديدة جذبت اهتمام الإعلام وأولياء الأمور والمدرسين. منها التذكير بأفكار ومواقف الآباء المؤسسين للدولة الأمريكية مثل أبراهام لينكولن وغيره وهذه المعالجة الجديدة صارت أمرًا حيويًَا وضروريًا ومن ثم التعامل مع التجربة الأمريكية ليس فقط بمنطق التاريخ بل بمنطق ما تم إنجازه وتحقيقه عبر الأجيال وبالتالى يأتى حق وواجب الحفاظ عليه والتمسك به كأسلوب حياة وإرث مجتمعى لا يمكن تجاهله أو التفريط فيه. ومن هنا يذكر أيضا كتعريف للقيم الديمقراطية أو العناصر المكونة لها المساواة والحرية وقبول الاختلاف والتعددية. إن البعض من هذه المواجهات السياسية والأيدولوجية أصبحت ملمحا أمريكيا فى العديد من الولايات وفى مجالس إدارة مدارسها ومناهجها التعليمية خاصة أن هناك توجهًا من التكتلات اليمينية والدينية والأصولية لإعادة صياغة مضمون المواد التعليمية وتهذيبها وتشذيبها بغرض حذف ما يعد متعارضا مع معتقداتها المتشددة والرافضة للتنوع والتعدد وقبول الآخر. ملحوظة لا بد منها: أبرز ما يمكن تنبيهه فى التعامل مع المشهد الأمريكى بشكل عام هو أن هذا المشهد فى حالة تغير وتبدل وتجدد وتطور (أو تدهور فى رأى البعض).. والأمر الأهم بأن هذه الحالة رغم احتوائها على بعض المسلمات والأساسيات إلا أنها دائما قابلة للانتقاد والتقييم وأيضا تتعرض للنقاش الحاد من أجل تحديد ما هو المفيد منها، وما هو المضر فيها. وهذا ما نراه الآن. الحصبة تعود من جديد موجة الامتناع عن التطعيم صارت ظاهرة أمريكية. وقد تعددت الأسباب والفرق بعضها دينية متشددة وبعضها لا تعترف بمزايا التطعيم العلمية أو تشكك فيها، وبالتالى تمتنع عن تطعيم أبنائها ضد أمراض عديدة ومنها الحصبة. وهذا ما حدث فى الفترة الأخيرة بشكل خطير تنبهت له الجهات المعنية بالصحة العامة. ولجأ حكام الولايات ومنها نيويورك إلى اتخاذ إجراءات صارمة ومنها التطعيم الإجبارى فى بعض المناطق لمواجهة انتشار الحصبة بشكل لم يسبق له مثيل. وكان فى عام 2000 قد تم الإعلان رسميا بأن أمريكا خالية من أى حالة حصبة. منذ العام الماضى وبعد مرور 18 عامًَا وجدنا تزايد حالات الإصابة، وأيضا ظهورها فى ولايات مختلفة وصل عددها إلى 20 ولاية. ويجب التذكير هنا أنه قبل استخدام مصل التطعيم ضد الحصبة فى عام 1963 كانت الأرقام تشير إلى أن 4 ملايين شخص فى الولاياتالمتحدة يصابون بالحصبة كل عام. ويتم التعامل والعلاج مع 48 ألفا منهم فى المستشفيات وأن 500 منهم كانوا يموتون بسبب الحصبة. ولأن الامتناع عن التطعيم صار أمرًا مقلقًا ومخيفًا لم تتردد منظمة الصحة العالمية فى أن تسمى التردد فى استخدام التطعيم أحد المخاطر الصحية العشرة الأوائل فى العالم فى عام 2019. وفى إطار التنبيه والتحذير من عواقب الامتناع عن التطعيم ذكر خبراء الصحة أن مواقع إلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعى ساهمت كالعادة فى نشر الأكاذيب وتشويه الحقائق عن التطعيم بشكل عام وخطورة التعامل معه وما قد يحدث بسببه للطفل وصحته!! ولهذا نجد فى الفترة الأخيرة أن أكثر من جهة معنية بصحة المواطن بمشاركة من قادة التجمعات السكانية والدينية تعيد توعية البشر وتفنيد الأكاذيب والخزعبلات التى تارة تطرح باسم العلم البديل وتارة أخرى باسم الدين بهدف تضليل الناس حول ماهية التعطيم وطريقة تصنيعه ومنافعه فى حماية الأطفال من الأمراض المعدية. أمر مزعج ومخيف.. كم من جرائم ترتكب باسم الجهل بالعلم والدين والتجاهل لحقائق علمية صارت تفسر العالم وما فيه حسب مزاج هؤلاء الجهلة (أو المتجاهلين).. وهواهم!!