بقلم: تحسين يقين باحث وناقد يصعب الحديث عن المسرح بمعزل عما حدث لفلسطين على مدار قرن، فهو فن ارتبط بقضية شعب تبعثرعلى الجغرافيا، فى تجمعات متعددة، فى فلسطين وأماكن اللجوء والشتات، ولعل ذلك منح المسرح خصوصية ما وإبداعا. مائة عام من الاحتلال، وحروب مستمرة على البشر والحجر والشجر أيضا، وما بين الحرب والحرب الأخرى، كان الفن والأدب حاضرا، يصور ويحتج ويقاوم، إصرار وتحدٍّ يستمر سنوات طويلة، ويزداد الأثر ويصير أعمق، ففى ظل ضيق الاحتلال، ثمة فضاءات مسرحية عالمية أكثر اتساعًا. من جديد لا يمكن عزل المسرح فى سياق كولينا لى، حيث ما قام بإبداعه المسرحيون من أساليب رمزية، من خلال الجسد والسينوجرافيا، وباقى عناصر المقاومة، يشكل فيها الجسد الدور المركزى المعبر عن الحركة الشعبية، والجدير بالذكر ما تلا العروض المسرحية فى كثير من الأحيان من مواجهات ضد الاحتلال فى القدس فى فترة السبعينيات والثمانينيات، مما دفع الاحتلال لإغلاق المسارح، كون المسرح لم يعد حياديا، بل أصبح مشاركا فى الصراع. البدايات قبل عام 1948 عرفت فلسطين الفن المسرحى فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر من خلال عدة محاولات لها قيمتها التاريخية برزت وارتقت فى مطلع القرن العشرين، خصوصا بعد الحرب العالمية الأولى حين نشطت المدارس فى تقديم المسرحيات، خاصة المسرحيات الوطنية والتاريخية. مكانيا وزمانيا، ارتبطت نشأة المسرح فى فلسطين بنشأته فى الوطن العربى ككل خاصة فى مصر وسوريا ولبنان، وأى دارس لتاريخ المسرح الفلسطينى لا يستطيع أن ينكر دور الفرق المصرية والشامية والأجنبية التى زارت فلسطين بين أعوام 1920-1930، أمثال فرقة جورج أبيض والريحانى وعلى الكسار، كما قامت عدد من الفرق الأجنبية بتقديم مسرحيات شكسبير وموليير؛ ما دفع بعض الشبان الفلسطينيين إلى تأسيس فرق تمثيلية فى العديد من المدن، وأثّرت كذلك الجمعيات والنوادى ومحطة الإذاعة الفلسطينية والصحف والمطابع بشكل أو بآخر على الاهتمام بالمسرح فى تلك الفترة. برز كتاب ومخرجون فلسطينيون أمثال خليل بيدس وأنطوان الجميل وفرح أنطوان، واشتهرت مسرحياتهم «وفاء العرب»، و«طارق بن زياد»، و«صلاح الدين الأيوبى»، التى قُدّمت فى القدس وعدد من المدن الفلسطينية فى العام 1914، وقام «نادى المنتدى الأدبى» عام 1915 بتمثيل رواية «صلاح الدين الأيوبى» لمؤلفها فرح أنطون فى «قهوة المعارف» بباب الخليل وبعد ذلك قامت الفرقة بتمثيل رواية «لصوص الغاب» للكاتب والفيلسوف الألمانى نيتشه. من الأسماء التى كان لها إسهام كبير خليل بيدس مؤسس صحيفة «النفائس» والشيخ محمد الصالح مؤسس مدرسة «روضة المعارف الوطنية»، والأديب محمد عزت دروزة صاحب رواية «وفود النعمان على كسرى أنو شروان» التى طبعت فى بيروت عام 1911، والتى تعتبر من أولى المسرحيات الفلسطينية المؤلفة، وقد حولت هذه الرواية إلى مسرحية قام بتمثيلها طلاب مدرسة «النجاح الوطنية» فى نابلس عندما تولى دروزة إدارتها فى مطلع العشرينيات من القرن الماضى. ويعتبر الكاتب الصحفى نجيب نصار، صاحب ومحررجريدة «الكرمل» الحيفاوية من أوائل كتاب المسرحية الفلسطينية، وقد وضع عام 1914 مسرحية «شيم العرب» وهى مسرحية فى أربعة فصول، تهدف إلى التعريف بمآثر ومفاخر الأدباء والأجداد، وتصف عاداتهم وتقاليدهم وتدعو الأجيال الجديدة إلى الأخذ بها وتمثلها فى سلوكهم اليومى، ووضع الكاتب الأديب بندلى صليبا الجوزى عددًا من المسرحيات استهلها عام 1915 وواصل تأليفها فى الأعوام اللاحقة. فى أوائل العشرينيات من القرن الماضى برز اسم الأديب جميل البحرى صاحب ومحرر مجلة «الزهرة» الحيفاوية، كمؤلف مسرحى غزير الإنتاج؛ وتتناول مسرحياته مواضيع مختلفة. منها مسرحية «الوطن المحبوب» عام 1922، وغيرها. بدأ العمل المسرحى ينتقل من العفوية والارتجال، إلى العمل المنظم والقريب من الاحتراف، فإلى جانب ترجمة وتقديم مسرحيات عالمية مثل مسرحية «هملت»، ترجمة وتعريب طانيوس عبده وإخراج جميل إلياس خورى، التى قدمتها فرقة «الكرمل» عام 1944، وشاركت التمثيل فيها النساء، بدأت عشرات الجمعيات والمنتديات والمدارس الوطنية والفرق المسرحية فى نشر هذا الفن وإعطائه هوية من خلال الموضوعات السياسية والاجتماعية والإنسانية التى تقدمها. تأثر المسرحيون بقضايا المجتمع الفلسطينى «المصادرة والهجرة الصهيونية»، إنه مزيج من التضييق أيضا بسبب الرقابة، لكن ذلك لم يمنع من تطور هذا الفن ووجود المواضيع الإنسانية فيه. «بين هزيمتين ما بين النكبة والنكسة 1948-1967» مع ضياع الجزء الأكبر من فلسطين، ولجوء المثقفين والفنانين وتبعثرهم، تراجع الإنتاج الفنى نتيجة التشتت والانفصال، لكن ذلك لم يمنع من ظهور بعض المحاولات المسرحية، ومن الفرق التى انتشرت فى فلسطين بين عامى 1948 و1967 كانت فرق «بلالين» و«دبابيس»، و«المسرح الشعبى»، و«المسرح الحديث»، و«كشكول»، و«المسرح الحى»، وفرقة «المسرح الفلسطينى، وكتب كذلك برهان الدين عبوشى مسرحية «وطن الشهيد»، وكتب محمد حسن علاء الدين مسرحية شعرية فى أربعة فصول عن حياة وموت الشاعر «امرؤ القيس»، وكتب فى الاتجاه نفسه محيى الدين الحاج عيسى الصفدى مسرحية «كليب» وهى شعرية من خمسة فصول ،كذلك مسرحية تراث الآباء، وكانت هذه المسرحية ضد بيع الأراضى فى فلسطين لليهود. من العوامل التى أثرت فى مرحلة 1948-1967 «النكبة» حيث عرقلت صعود نجم المسرح الفلسطينى، لكنها من جانب آخر راحت تغذى الذات الفلسطينية وتثير الإبداع، فقد احتل موضوع النكبة معظم الكتابات المسرحية. اتجاهات المسرح الفلسطينى بعد 1994 من ناحية مهنية نزعم وقد كنا من المتابعين والشهود على حركة المسرح الفلسطينى بعد عام 1992، بدأ المسرح ينمو بتأثيرات مختلفة، منها التحررمن الرقابة الإسرائيلية، كذلك بالتفاعل مع المحيطين العربى والعالمى، بل تابع المسرحيون بحمل قضيتهم نحو خشبة المسارح فى كل مكان أمكنهم العرض عليه، وكان هناك توقع بتغيير على الأرض إلا أن الاحتلال ظل راسخا، لذلك تم تقديم مسرحيات: «جبابرة الأرض»، و«الجدارية»، و«زمن الأبرياء»، و«قصص تحت الاحتلال»، و«حفار القبور» وقد أنتجت الفرق المسرحية فى غزة مجموعة من المسرحيات، على سبيل المثال مسرحية «العنب الحامض» من إخراج خليل طافش، ومسرحية «السيد بيرفكت» من إخراج حسين الأسمر. سمات لعل الموضوع هو أهم ما فى مجال رصد وتحليل حركة المسرح الفلسطينى تحت الاحتلال، لسبب موضوعى له علاقة بالمسرح هنا كمقاومة جمالية ووطنية، وتنوعت موضوعات العروض ضمن محاور اللجوء، والتعرض للقتل والتشريد فى أماكن اللجوء، والاندماج،و من أبرز النماذج جسر إلى الأبد لغسان كنفانى وهبوط اضطرارى للمرحوم المخرج مازن غطاس، «بحلم فى بكرة» إخراج الفنان العائد فتحى عبد الرحمن، و«باب الشمس»، مونودراما عن رواية إلياس خورى، وهى تسجيل للنكبة. ومن المحاور أيضا كان محور الأسرى حيث قدمت «أنصار» مسرحية الأسرى فى الانتفاضة الأولى، و«أبو مرمر» مونودراما لمحمد البكرى، وهى تظهر طقوس الاعتقال والتأثير النفسى، وتظهر تاريخ اللجوء والنضال. كذلك محور الصراع وإشكالية الحلول ومن ابرز نماذجها «سيف ديمقليس»، نص ناظم حكمت، وإخراج مازن غطاس، إنتاج عام 1999 وهى تصور آلام الحرب، وضمير المحارب، باتجاه التنفير من الحرب، و«قصص زمن الخيول البيضاء» عن نص روائى لإبراهيم نصر الله، وإخراج فتحى عبد الرحمن، يتكئ على فترة الحكم العثمانى والاحتلال البريطانى، باتجاه المقاومة، إضافة لمحاور أخرى كالمحاسبة والمساءلة «العذراء والموت» و«الشهداء يعودون»، عن نص الجزائرى الطاهر وطار الشهداء يعودون هذا الأسبوع. أخيرًا لعل الأحلام تتلخص فى الارتقاء بالفن المسرحى، فى سياق الارتقاء بوعى الشعب الفلسطينى فى سياق تحررى، لأن وجود المسرح نفسه هو وجود مقاتل إنسانيا ووطنيا، نزعم أن الفلسطينيين كانوا روادا كأفراد، فى ظل غياب المؤسسات بسبب الاحتلال.